انتبهت الى ان اهلي يسمون المكان الذي نسكنه بالخان . ثم انتبهت الى من يأتي عندنا يصفنا بسكان الخان . في الطابق الأرضي من مبنى عتيق على الشارع العام ، وعلى مقربة منه دكاكين كثيرة من كل نوع ، اضيف حتما بعد الفراغ من بناء الدار في يوم من ايام العهد العثماني الطويل . وبين بابنا الكبير و الشارع بوابة خشبيه اصغر منه، بواجهنا باب الخان على مسافة ست خطوات او سبع. درجحجري مكشوف يصعد الى الطابق الاعلى الذي كانت غرفة طلي بابها بالاخضر ، ولا اراه الا وهو جالس الى طاولته، يفكك ويركب آلات صغيرة بين يديه - ويقولون انه الراهب يوسف . وان الشيخ هو القس ابونا حنا ، الذي يجب ان نقبل يده كلما التقيناه. وكانت رائحة البخور تعبق في هذا الطابق الاعلى طوال ايام الاسبوع، بعد ان ذهب اخي الى المدرسة ، فاشترت امي منها بالكيلة عدة اوقيات صبتها البائعة في الطنجرة . لان اني تقول ان لا قدرة لها على شراء الحليب الا في المناسبات و عند الضرورات . وبين صعودي الا الطابق العلوي لاقول للراهب يوسف (( صباح الخير)) ، ثم الا طابق الكنيسة الاعلى لانظر من السطح المكشوف الذي امامها الى الصبية تاذي هم في الاسفل يلعبون في الحارة ، وبين نزولي لارى كيف يجري طبخ الهيطلية ، وضعته على الارض في الركن ، اوسطني امي بالا اكثر من الخروج و الدخول، وبان اكون ((عاقلا))، ريثما تذهب مع جدتي الى السوق لشراء الخضره ، فلاخرج الى الحارة . عند باب الدكان المقابل ، لقيت احد اصدقائي ، وعندما تمشينا وراء الجامع ، التقينا صبيان اخران ، وقال لهما صديقي :((امه طبخت اليوم هيطلية . وبعد قليل كان مزيد من اطفال الحي قد تجمعوا عند المنعطف ، وقلت لهم :(( امي طبخت هيطلية!)) ثم التفت الى الاخرين ، قلت :((امي ذهبت مع جدتي الى السوق )) ، وقلت للاولاد : (( اقعدوا!)). وقعدوا على الارض جميعا فيحلقة حول الطبق الابيض . وصحت بهم : ((انتظروا ! لا تاكلوا بايديكم ! عندنا معالق ! )) وصاحت بنا صيحة اهتز بها الخان ، وبقيت اركض حتى وصلت باب كنيسة المهد مبهور النفس ، وحيدا لا رفيق لي . وخفت ان ارجع الى البيت . وتوقفت عند بوابات مخازن ((السوفنير)) اتفرج على ما في واجهاتها من مسابح و صور و صلبان من الصدف ، بعد مدة زايلني الخوف ، وهو يضحك ويقول:((تعال ادخل! تطعيم غيرك بالملعقة، وجرني الى الداخل ، حين قالت:((يا شيطان! اتوزع اكلنا على الناس؟ اتحسب نفسك ابن سليمان جاسر؟ اشبع اولا وبعدين اطعم الناس. صبيحة اليوم التالي اصعدني ابي مع اخي الى الكنيسة مبكرا، و اوقفني في احد صفي الصبية المرتلين مع انني لم اكن اعرف ما الذي يرتلون بالسريانية، فقد جعلت اتمتع بما اسمع و احاول ان ارفع صوتي معهم ، كلما رفعوا اصواتهم كنت ارقب الولد حامل المبخرة وهو يدنو بها من أبونا حنا ، فيأخذ أبونا بملعقة صغيرة قليلاً من البخور من طاسة نحاسية في يد الولد ، فقد قال أبي إن مع سحب البخور تنطلق الملائكة ، وأدعوها كالأشباح - مخلوقات وسطاً بين الطيور والنساء - وأنني ألعب معها ، وتطرقع بأذيالها الطويلة ، وليدق عليه بذيله إلى أن يشبع! كان أخي يذهب إلى مدرسة الألمان في المدرسة . وفي الحال أسرعت بي إلى مدرسة الروم ، وهي أقرب مسافة من مدرسة الألمان ، خليه عندنا وروحي مع السلامة . ولكننا في اليوم التالي انشغلنا جميعاً بالانتقال إلى بيت آخر ، في المدرسة رأيتهم يكتبون . وركزت على مسند ثلاثي الأرجل ، ويبلل طرف القلم على حافة لسانه ، وينظر إلى اللوح ويكتب . أو أحد أيامي الأولى في مدرسة الروم» الواقعة خلف كنيسة المهد . وأنا على «بنك طويل بين أربعة أو خمسة أطفال هل أكتب أنا أيضاً» قال : «هل أحضرت معك دفترك وقلمك وقلمك ، ومنه تسلقت إلى الأغصان العليا . ولحق بي جماعة من الصبية . من أعمار شتى . كنت أرى معظمهم كبيراً بالنسبة إلي : في العاشرة ، ووجدت جدتي في الحاكورة تنظر إلى ظل شجرة اللوز الواقع على حائط البيت . أتعتقد أنني لا أعرف متى تكون ساعة الظهر؟» - لا أدري . ابنك جاءكانت لي علاقة خاصة بجدتي ، اقتربت منها - وكان فستانها طويلاً يكاد يبلغ الأرض . قل ذلك لأمك . أو انتظر إلى أن يعود أبوك في المساء عندما دخلت البيت ، المعلم يقول أن علي أن أخذ معي دفتراً وقلماً للمدرسة»- صحيح؟ ومن أين أجيء لك بالدفتر والقلم؟»الدفتر والقلم بنصف قرش . لكي لا نضطر إلى أخذ الخروفين للرعي كل يوم . وأنا أربت على ظهر هذا وظهر ذاك . صبت أمي الطعام في قصعة كبيرة على الأرض وجلسنا حولها . وقالت أمي : «ههالآن دق الظهر!إذ راحت قباب الأديرة المنبثة في البلدة تقرع أجراسها لتعلن انتصاف النهار ، بعد الغداء عدت إلى المدرسة ، كتب المعلم حروفاً على اللوح ، وواجهته مليئة بالدفاتر والأقلام والمحايات . وخذ أحسن قلم وأحسن دفتر» وعدت إلى البيت ، وحلت عقدتين وانفتح المنديل عن أربع أو خمس قطع نقدية ، وقالت : «خذ . وقالت : «خذ . تمددت فوقها على بطني ، وكتبت - والأسطر تهبط بي من اليمين الى اليسار . ودر بالك على الدفتر . وقلت للمعلم : جلبت معي الدفتر والقلم فقال : : «طيب ، قال : «هل أعرف أنا القراءة حتى أقرأ دفترك بعد الظهر ، قعد إلى المنضدة ، بس بلا ! وأنتم الجالسين في الخلف، وسقط رأسه على صدره ، دفنا وجوهنا بين سواعدنا ، عندما رفعنا رؤوسنا كان الياس قد كتب ثلاثة أو أربعة أسماء على اللوح . رفع رأسه على أثرها مباشرة ، وأجال عينيه الرهيبتين في وجوه الأولاد . » وفتح الولد يده ، كان اسم رفيقي على البنك «عبده» . كانت أمه منشغلة عنا بالخياطة عندما جلسنا في ركن من غرفة بيتهم ، وأدخلها بين طرفيها ، شيء رائع قال : «أعمل لك واحدة؟» قلت : «أنا أعملها» . وتقول بين حين وآخر «بلا دوشة يا جماعة» وخرجنا إلى الشارع ، وجيوبنا ملأى بعتاد من الطقاعات . سألني «أين الدفتر؟ قلت : «عند المعلم وسألني أخي يوسف على العشاء السؤال نفسه ، وأجبته بالجواب نفسه . ويكلموننا بلغة لا نفهمها ، وباب كنيسة المهد خلفنا ، دق الظهر فجأة فرحت راكضاً إلى البيت . ورشها بالملح والبصل يشهي الشوربة العدس ، واستلقيت على ظهري . فنفرت بي أمي : «قمقم إلى مدرستك أم أنك نسيت ؟ وقل للمعلم أن يعيد إليك دفترك! وقالت جدتي : مهلك على الصبي . خليه يستريح قليلاً» فقالت أمي «والله أفسدته» وخرجت - إلى بيت عبده . وبقينا أنا وعبده لعدة أيام ننزل إلى الوادي ، وفي أوقات انصراف أولاد المدارس نعود إلى البيت ، كانت دارنا تتألف من غرفة صغيرة مبنية من الحجر الخشن ، تتصل بها حاكورة فيها شجرتا رمان وشجرة لوز أو شجرتان ، وعلى مقربة منها الخشية» المبنية أيضاً من حجر خشن ، وأمامها حوش مبلط بالحجارة ، ويمتد من بوابة عتيقة اختلط فيها الصفيح الصدئ بالخشب المتأكل ، وكانت غرفتنا وخشيتنا كلتاهما مسقوفتين بالأحطاب ، إذ تمتد من حائط إلى حائط ، وكان من مهام أبي وبقية أفراد العائلة بين الحين والحين ، وكثيراً ما كنت أستلقي على ظهري ، وحملته بين شدقيها إلى الحاكورة لتأتي عليه بطريقتها القططية . غير أنها استطاعت أخيراً أن تدفعه الى الفرار والاختفاء عن العين - عن عينها على الأقل . أما من ناحية بوابة المدخل ، أو شارع النجمة كما سمي فيما بعد . ولكن المدرج - ولم يكن عريضاً جداً - كان يبدأ بعمارة فخمة على اليمين ، مبنية من حجارة مدقوقة منتظمة ، لها بوابة حديد صبغت ذات يوم غابر بطلاء أبيض . وعلى اليسار جدار عال ، عند قاعدته معلف يربط عنده حمار أبيض ، كان هذا حمار الحكيم الرومي» ، إنه أشهر طبيب في البلدة والكل يطلقون عليه التسمية الوحيدة التي يحترمونها : «الحكيم الرومي» فكنا نراه وهو راكب حماره - المتميز طبقيا عن الحمير الكثيرة في البلدة بلونه الارستقراطي الأبيض ، بينما كانت الحمير الأخرى أقرب إلى الرمادي المسكين في لونها - وحقيبته في خرج الحمار الأحمر ، في طريقة إلى دار هذا المريض أو ذاك لم تقسم بيني وبين هذا الطبيب أو حماره أية مودة . وروثه وتبنه يملأن الدرجتين أو الثلاث التي في المستهل . تريثت طويلاً للنظر إلى ذيله وحشراته ، ولكنني ربما مددت يدي الى الذيل لأكف حركته عني ريثما امر . ونفذت إلى الدرجات العليا وأنا مرتعب أبكي . علمني ألا أقترب من الحمير أو أن أعمل الحذر الشديد إذا اضطررت إلى الاقتراب منها ومن أضرابها . وطلبت إلي جدتي أن أنزل الدرج إلى دار الحكيم الرومي قبل أن يخرج في دورته التطبيبية في طرقات البلدة ، ولو لم أدرك أن الأمر خطير على نحو ما ، لما جازفت بدخول العمارة التي يقيم فيها الحكيم ، وحماره مربوط بالمعلف على بعد خطوة أو خطوتين من الباب . واقتحمت طريقي إلى الداخل . وإذا هو في الرواق يتهيأ للخروج . وقبل أن أقول له - كما علمتني جدتي – «صباح الخير » سألني يتهيأ للخروج . يا ولد» قلت متلعثماً : «أمي مريضة يا حكيم ومن هي أمك؟» - أمي؟ أمي ، بسبب لهجته الرومية ، بأن أنزلت مخدة من المعزل ، ووضعتها على الحصيرة ، غير أن أمي دست يدها تحت وسادته ، شكراً» أخذ الحكيم الشلن والقمه الجيب الصغير في الصدرية التي يرتديها تحت سترته ، وأخرج ساعة صفراء فتحها ليعرف الوقت ، وقد خاطت لي أمي كيساً أحمله حول عنقي أضع فيه لوازمي المدرسية ، المدرسة : وهي أيضاً غرفة واحدة كبيرة بنيت قرب كنيسة حديثة التشييد ملأى بالمقاعد الطويلة دخلت المدرسة ، وقال بالفصحى «لماذا تأخرت يا فتی قلت : «أخذت الحكيم الرومي لأمي . كان أخي يوسف يكبرني بأربع سنوات ، أنه ينتمي إلى عالم غير عالمي - عالم الكبار لا يقول كلمة إلا وأفتح أذني لسماعها ، فأشعر أنه يدخلني الى عالمه . فيطلعني على الصور ، ويتباهى بمقدرته على قراءة ما تحتها من كلمات إنكليزية لم يكن قد جاء دوري لتعلمها وجاءني ذات مساء بصندوق من الورق المقوى ، وتفرج كان في الوسط فتحة مستديرة جعل فيها عدسة مكبرة كنا نسميها بنورة» أعلى واحداً من محورين جانبيين فيه ، بينهما يتحرك شريط ورقي لصقت عليه صور من كل نوع ، سحرني صندوقه وتمنيت لو يبقيه في البيت تحت يدي ، ويسمح لي بأخذه إلى أصدقائي للتفرج عليه . ولكن من أين لنا «التعريفة» العزيزة؟ وقفنا قرب الصندوق نتفرج على شكله وزينته ، إلى أن جاء رجلان أو ثلاثة ، والصقوا عيونهم بالعدسات ، وراح هو يدير المحور من الأعلى ، بعنتر وعبلة ، كانت مزية «الخشاشي» (كما كنا نسمي بيتنا ذاك وجود الحاكورتين اللتين تحويان عدة أشجار رمان ، ودالية تحاول عبثاً الانتشار فوق المدخل المؤدي إلى الدار . فيهما دهشت حين رأيت أمي ، وبعد يومين أو ثلاثة تعود إلينا ومعها طفل صغير في قماط . ولما سألتها : من أين جئت به؟» قالت مستضحكة :
يا حبيبي وكان الطفل أخي عيسى الذي يصغرني بست سنوات ، إضافة إلى
المعلم جريس وفيهما بدأت أعي الفوارق بين طبائع الناس وتصرفاتهم ، وهي تنتهي دائماً إلى عراك كنت أصر على المضي فيه إلى أن يعترف الآخرون بأنني أنا الغالب . ففي إحدى النهايات العراكية» تألب علي عدد من الصبية ، وبينهم أخوان مشهوران بالعض . وفي الوقت نفسه غرز الآخر أسنانه في صدري ، وكاد يقتلع حلمتي ولم يتركاني إلا عندما رأيا الدم يملأ وجهي ويسيل
وفي بيتنا ذاك ، إذ غادر أبي الفراش ، وكنت أنشد الدفء على صدره فلا أنام إلا قربه . فاندفع الثلج أكواماً مع انفتاح الباب إلى الداخل ، والثلج في كل مكان إلى
ما هو أعلى من الركبة؟ يبدو أن أبي كان يتوقع هجوم الثلج هذا ، راح يدفع بها التراكمات عن الباب ، وتسلّق إلى سطح الدار ، ولم يعد
إلينا إلا بعد أن أخلى السطح ، بحيث لا
يستغرقنا الذهاب إليه إلا بضع دقائق . تسلّقنا جداراً خلف الدار ، مهده أبي على شكل مدرج ليسهل صعودنا عليه . ومنه نسلك طريقاً بمحاذاة حواكير عليا ، وهل هربنا أرنباً من أرانبه؟ وما كنا لنجرؤ على شيء من ذلك ، لأنّ له كلباً ضخماً أسود ، رغماً عن كلبه الغليظ . أم يحملها إلى المزبلة القريبة ، وقال البعض إنه يخرج
أمعاءها ، رأيت عندكم هراً كثير الحركة» . قلنا : «لا ، لتفترس صوصاً أو أرنباً
قلنا : «أبداً يا عم بطرس . قلنا : «بارك الله في همتك . بعد دار بطرس الكندرجي ، كنا نمر بدار قديمة تتألف من بيتين صغيرين بنيا على حافة الحاكورة المشرفة على الطريق ، يجلس متربعاً على صخرة قـرب الباب ، والدربكة والدف ، حيث يعمل الصدافون الماهرون جالسين على الأرض ، ويغنون أغاني جماعية على إيقاع مناشيرهم ، وكلما مررت في طريقي إلى ملعب الدير بالعم حنا ذيبان الضرير ، كنت أتخيله يعزف على عوده ، وبعزفه وغنائه يملأ
الطريق فرحاً حتى بلوغي بوابة الدير . واستبشروا بعودته خيراً لأكثر من سبب : فهو معلم أولادهم المشهود له بمعرفة العربية والسريانية والإنكليزية ، حتى أنه ليحول القداس صباح كل أحد إلى جنة صغيرة من عذوبة
التي تعلو الخرابة» ، والغرف الأرضية منها اختنقت أبوابها
ونوافذها بركام الحجارة الساقطة وإذا ما أزيحت الحجارة ، قبل دخول المدرسة ، المتحدي بعد قليل مرتعباً وهو يقسم أنه رأى مارداً عملاقاً أبيض الشكل ، لولا أنه استطاع الهرب من بين يديه . بينما يكون العديد من آبائنا ، منهمكين برفع
الردم على ظهورهم وبناء الكنيسة الجديدة . مؤكداً على إيقاع الكلمات :
يا عونيا! وين الجمل؟
وشو بيشربي؟
قطر الندى
ودائماً أتخيل «عونيا» بدوية سمراء سوداء العينين. وشكلها إجاصي يستدق إلى رأس مسمار براق : أدير حولها الخيط الغليظ ابتداء من طرفها الدقيقة وصعوداً نحو جسمها العريض المزين بدوائر ملونة ، وهكذا يفعل رفيقي بفرانته ، ثلاثة!» ويقذف كلانا بحنكته الخاصة بالفرانة على أرض مبلطة ، وتحافظ على توازنها . يروح يسوطه بهذا الخيط على ساقه بحيث يلتف عليها وينسحب بسرعة ، ونتجه بعد شتاتنا المنتشر ، وعدد من العصي المتباينة الطول والمتانة ، وعلى اليمين واليسار منه نافذتان طويلتان ، الغربية منها تطل على الخرابة ، وترى منها جرسية دير أبونا أنطون العالية وساعتها الدقاقة ، والشرقية ترى منها عن بعد قباب كنيسة المهد ، ويجلس الصبية على مقاعد مدرسية طويلة رتبت في صفين ، بينهما الممشى
كانت هناك خمسة أو ستة بنوك ، وفيه أخي يوسف وعدد ممن الأولاد يكبرونه سناً . هؤلاء كان المعلم جريس يعهد للأولاد «الكبار» بتلقينهم الأبجدية والصفحات الأولى من القراءة . وجاء وقت كلفني فيه أنا أيضاً بتعليم مجموعة منهم القراءة – كنت عندها في صفاً صفاً يتعامل المعلم مع تلاميذه : يُنزل الصف الواحد ليكون أفراده نصف دائرة على جانب من منضدته جاعلاً «أشطرهم» أقربهم إليه ، وإذا غضب على كسل واحد منهم ، أو قد يرسله إلى نهاية الخط ليكون الطش» ويضحك عليه الجميع ، هذا إذا لم يطعمه» أيضاً ضربتين أو أكثر على راحة يده بإحدى العصي التي على منضدته . بمقدار
رضاه . وقد احتفظ أخي بمكانه في رأس الخط من صفه طيلة المدة التي قضاها في تلك المدرسة ، أما أبي فلم يخطر له يوماً أن يحل ضيفاً على المدرسة . حين
جابهته به أمي بصراحتها المشهورة - وقالت لها : سنقدم له ما فيه النصيب ، فقد سررنا حين وجدناه منطلق الكلام ، وبعد
أن جلسنا جميعاً على الحصيرة ، وجلس هو على وسادة ، قال
لأبي : ابنك هذا ، سيصبح كلاهما معلماً تفاخر به بيت لحم كلها . ولكن أحد الطلاب الكبار - وكان لطوله أقرب شكلاً إلى الرجال - واسمه جليل ، حين أمره المعلم بإعادة قراءة إحدى الجمل من كتاب القراءة العربية ، بل أمره بأن يترك مكانه وينزل الى رأس أحد المقاعد «السفلى» ، وهدده بأنه إذا لم يكف عن إضافة الشيطنة إلى كسله ، سيعاقبه بأربع عصي . جعلت المعلم يصيح به :
جليل! تعال ، واندفع نحو المعلم لكي يمسك به ، وانطلق الولد من زقاقه باتجاه المنضدة ، ثمن دخل بسرعة الفسحة الضيقة بين الجدار الآخر والمقاعد ، والمعلم يكاد يمسك به ولا يمسك ، فيكرر المعلم بصوت رخيم مقولته التي يفرح الأب
لسماعها : «العصا لمن عصى . والعصاة بين الصبية كانوا حقاً كثيرين . أو الانسراح بين الناس في سوق البلدية القريب . وكان هناك من اشتهر بأنه لا يخاف العقاب ، وحالما يدير ظهره عائداً إلى مكانه من المقعد ، يضحك للأولاد متباهياً ، دلالة على عدم شعوره بالألم ، يكثف جلد راحة اليد ويقويها ، ففي ساعات الظهيرة ، عندما تغمر الشمس سلاسل الحواكير ، ويهز رأسه عالياً سافلاً ، ويخيل إلينا أنه يستجيب
لكلماتنا بحركات رأسه. في معظمها أناشيد وتراتيل تعود إلى أزمان سحيقة في القدم ، لحنها آباء الكنيسة الأوائل في أنطاكيا ودمشق والقدس والرها ومدن وادي الرافدين ، وفق مقامات كان الشمامسة يتقنونها . يساعده في ذلك أحياناً رهبان شباب من دير مار مرقس بالقدس ، التنويعات السبعة لكل لحن ينوع بها ، بدون التدوين الموسيقي الذي عرفته ألحان الكنائس فيما بعد . وعلى كل منهما مخطوطة ضخمة ، كانت هذه الكتب السريانية القديمة كنزاً تحتفظ به الكنيسة بعناية خاصة واعتزاز كبير .