لاجتهاد في اللغة مشتق من (ج هـ د) بمعنى بذل الجهد (بضم الجيم) وهو الطاقة، أو حمله (بفتح الجيم) وهو المشقة. صيغة الافتعال تدل على المبالغة، فـ"اجتهد" أبلغ من "كسب". الاجتهاد لغوياً هو استفراغ الوسع في أي فعل فيه كلفة وجهد، فيقال: اجتهد في حمل حجر، ولا يقال: اجتهد في حمل خردلة. أما اصطلاحاً، فقد عبر عنه الأصوليون بعبارات متفاوتة، أقربها ما ذكره الشوكاني: "بذل الوسع في نبل حكم". بعضهم استخدم "استفراغ الوسع"، وزياده على ذلك قال الآمدي: "هو استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد". فجعل الإحساس بالعجز جزءاً من التعريف، بينما الغزالي جعله جزءاً من "الاجتهاد التام". يُعرف الاجتهاد بأنه ضد التسرع والتقصير في مراجعة الأدلة وفهمها واستنباطها والنظر فيما يعارضها. قال الشافعي: المجتهد لا يقول "لا أعلم" حتى يجهد نفسه، ولا يقول "أعلم" حتى يجهد نفسه ويعلم. ويدل على ذلك حديث إرسال معاذ إلى اليمن: "اجتهد برأيي ولا آلو". لا يُسمى بذل الوسع في تحصيل الحكم الاعتقادي اجتهاداً عند الفقهاء، وإن سمي كذلك عند المتكلمين. ويخرج عن الاجتهاد الاصطلاحي نيل الأحكام من النصوص ظاهراً، أو حفظ المسائل، أو استعلامها من المفتي، أو الكشف عنها في كتب العلم، رغم صدق الاجتهاد اللغوي عليه. زاد بعض الأصوليون "الفقيه"، فقالوا: بذل الفقيه الوسع، وهذا قيد مهم، إذ لا يستطيع نيل الحكم بطريق الاستنباط إلا الفقيه، المتهيئ للفقه، الممارس له، المتقن لمبادئه، القادر على استخراجه من القول إلى الفعل، وليس من يحفظ الفروع فقط. كثير من المشتغلين بالعلوم الإسلامية الأخرى يقحمون أنفسهم في الاجتهاد، ويفتون برأيهم وهم بعيدون عن الفقه. لا ينال المتهيئ للفقه رتبة الاجتهاد إلا بشروط، بعضها متفق عليها وبعضها مختلف فيه. القرآن مصدر التشريع الأول، فلا بد من معرفته، فمن لم يعرفه لم يفقه القرآن. ذكر الغزالي تخفيفين: الأول: أن آيات الأحكام أكثر من تقديرها بخمسمائة آية، والثاني: لا يشترط حفظ الآيات عن ظهر قلب، بل يكفي العلم بمواضعها. حفظ القرآن أولى، ويجعل صاحبه أقدر على الاستحضار. يقول الشاطبي: معرفة أسباب النزول لازمة، والدليل أمران: الأول: أن علم المعاني والبيان مداره على معرفة مقتضيات الأحوال، والثاني: أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات. قال الشاطبي: "يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيم نزل". من معاني معرفة القرآن: العلم بالناسخ والمنسوخ، حتى عده بعضهم شرطاً مستقلاً. يجب التنبيه على حقائق: الأول: أن عدد آيات النسخ قليل، والثاني: أن النسخ في لغة السلف أعم من اصطلاح المتأخرين، فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخاً، وعلى تخصيص العموم نسخاً، وعلى بيان المبهم نسخاً. يجب أمثلة، فقد روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) إنه ناسخ لقوله تعالى:... (يتبع)