أمثلة وتطبيقات قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ ۲ مصحف ۸۷ نزول) بشأن المتقين : أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأَوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) في تكرير المسند إليه وهو اسم الإشارة في الجملة الثانية مع فهم المراد دونذكره غرض بلاغي، وهو زيادة الكشف والإيضاح بالتنبيه على أنهم كما تحقق منهم أنهم متمكنون من تحقيق الْهُدَى الذي جاءهم من عند ربهم بأعمالهم الصالحة، فقد ثبت لهم أنهم هم المفلحون عند ربهم يوم الدين، أي : هم الظافرون بما يريدون والفائزون بجنات النعيم . وفي هذه الإعادة أيضاً فائدة جعل كل جملة من الجملتين وحدة مستقلة، ولو انفردت كُلُّ جملة منها لكانت كافية للدلالة على الأخرى منهما عن طريق اللزوم الفكري، لأن من كان على هدى من ربه لا بد أن يكون مُفْلِحاً، ومن كان من المفلحين فلا بد أنه قد كان على هدى من ربِّه، ففي استقلالية كُل من هاتين الجملتين تأكيد لمعنى كل منهما عن طريق دلالة ما في الأخرى من اللزوم الفكري. ونظيره قول الله عزّ وجلّ بشأن الذين كفروا في سورة (الرعد/ ١٣ مصحف ٩٦ نزول) : أُولَيكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ويكثر في القرآن ذكر المسند إليه أو المسند مع إمكان حذفه أو حذفهما لتكون الجمل مستقلة قابلة لأن يُسْتَشْهد بها منفردة في المناسبات الداعيات إلى الاستشهاد بها، ومن ذلك قول الله عزّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ ٣ مصحف ۸۹ نزول) : وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءُ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو لقد كان من الممكن الاستغناء بالضمير في من الله ـ رضوان الله ـ والله ذو» لكن إعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجمل يجعل كلا منها جملة مستقلة، مع ما في ذكر لفظ الجلالة من تربية الإجلال والإعظام في القلوب، وإمكان الاستشهاد ببعضها منفردة عن سائرها . ومن ذكر المسند والمسند إليه مع إمكان حذفهما قول الله عز وجل في سورة لقمان ۳۱ مصحف / ٥٧ نزول : السلام : وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ [الآية ٣٤] . فقد كان من الممكن أن يقال : ولا بأي أرض تموت . المثال الثاني : ما جاء في سورة (طه ۲۰ مصحف / ٤٥ نزول بشأن تكليم الله موسى عليه وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِي فِيهَا مَشَارِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَمُوسَى ) في هذا النص نلاحظ ذِكْرَ كلماتٍ كان من الممكن حَذْفُها دونَ أَن يُؤَثَّرَ عَلَى المعنى شيئاً. لقد كان يكفي أن يقول موسى عليه السلام في جواب سؤال ربّه: «عَصَايَ» وكان من الممكن أن يقتصر على بيان أنها عصاه، دون أن يشرح أعماله فيها بقوله: ﴿ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَشَارِبُ أُخْرَى ) وكان من الممكن أن يقول الله عزّ وجلّ له : أَلْقِهَا دون أن يناديه يَا مَوسَى . لكن دعا إلى بسط الكلام وإطالة الحديث رغبة الإيناس مِنَ الرَّبِّ عزّ وجلّ، ورغبة التشرف والاستئناس والتلذذ بطول المحادثة من موسى عليه السلام . المثال الثالث : في قصة إبراهيم عليه السّلام وتحطيمه أصنام القوم التي كانت على أشكال الناس، إلا كبيراً لهم، وذلك حين خرج القوم من بلدتهم لعيد لهم ولم يخرج معهم إبراهيم عليه السلام، فأجابهم عليه السلام جواباً فيه تعريض بغباوتهم، إذْ ذَكَرَ في كلامه ما يُمْكِن فَهُمُه لو حذفه، فقال الله عزّ وجلّ في سورة الأنبياء / ۲۱ مصحف/ ۷۳ نزول): قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِتَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُوا سَمِعْنَا فَتَى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُوا أَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِنَالِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَسَتَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ ) نفعاً أو ضراً لحمت أنفسها من التحطيم، ولمنَعتْ مُحَطَّمَها من أن يجعلَها جُذاذا . ومن كان بمثل هذا الغباء فإنّه يُناسبه أن لا يُحْذَفَ له من الكلام ما يُمكن أن المثال الرابع : *** جاء في المأثور من الأقوال، ويُروى عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً ، نلاحظ في هذا القول تكرير عبارة «اعمل في الجملة الثانية، مع إمكان المثال الخامس : قول الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته يفاخر بقومه فيكرر المسند إليه فيقول «وأنا» مع كل منقبة يَصِفُ بها قومه : قبب : جمع قُبة، وقد تكون من بيوت العَرَبَ الرُّحل من بأَبْطَحِها : الأَبْطَحُ : الأرض الخلاء الواسعة . ويصف قومه بأنهم أعزاء يَمْنَعُون ما يريدون مَنْعَه فلا أحَدَ من الناس يُكْرِهُهُمْ على بذل شيء لا يريدون بذله، ولا أحد من العرب يستطيع منعهم من أن ينزلوا بأي أرض يريدون النزول فيها . ويصف قومه بأنهم إذا سخطوا على إنسان مهما علت مكانته فإنهم يرفضون عطاياه ويتركونها، ويصف قومه بأنَّهم يَعْصِمُون بالحماية والحفظ من يطيعهم، وأنهم أهل عَزْمِ وجد وقوة في تأديب من يعصيهم . وغرضه إلصاق المنقبة في قومه بذكرهم عند ذكرها، وكان بإمكانه أن يعطف المناقب دون تكرير المسند إليه . ومن هذا القبيل قول الرسول الله مفاخراً في إحدى الغزوات : أنا النبي لا كذب، *** ما جاء في شعر الشاعرة الخنساء، تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، من بني سليم، مُضَرِّية من أهل نجد أشعر شواعر العرب، ووفدت مسلمة على رسول الله الله مع قومها بني سليم، قولها في رثاء أخيها صخر : أَعَيْنَيَّ جُودًا وَلَا تَجْمُدا ألا تَبْكِيَانِ الْجَوَادَ الْجَمِيلَ قالت هذا وهي في موقف الحزن، فَحَسُنَ في حسها الملتهب بالمشاعر، وهي من أشعر الشواعر، أصل المراد منها من قولها في الشطر الأول : أعيني جودا ولا تجمدا» لكن في وفي فعل تبكيان» من دلالة على تجديد البكاء المتتابع ما ليس في «جودا ولا تجمدا» فقصدت إلى تعيين نوع البكاء، فاستعملت وبكت أخاها صخراً في شعرها، فجعلتها شاعريتها تكرر في مقام رثائها لأخيها وفجيعتها به عبارة وابكي أخاك تخاطب نفسها على طريقة التجريد:وَابْكِي أَخَاكِ وَلَا تَنْسَيْ شَمَائِلَهُ وابْكِي أَخَاكِ شُجَاعاً غَيْرَ خَوَارِ وابكي أخاكِ لِأَيْتَامِ وأَرْمَلَةِ وابْكِي أَخَاكِ لَحَقِّ الضَّيْفِ وَالْجَارِ لقد كان من الممكن أن تُعَدِّدَ ما تُرِيدُ من شمائل أخيها، دون أن تكرّر عبارة وابكي أخاك» لكنها في مقام التوجع والتفجع والرثاء والنحيب، كما يَشْفِي تكرار تدفق الدموع . المثال السابع : إمعاناً منه بإلصاق المثالب التي ذكرها بها إلصاقاً يُصاحبه التشهير، والإذاعة بالتكرير، دون إعادة ذكر اسم القبيلة التي يذمها، أَخِلَّاتِي الْكِرَامُ سِوَى سَدُوسٍ وَمَالِي فِي سَدُوسٍ مِنْ خَلِيلِ إِذَا أَنْزَلْتَ رَحْلَكَ فِي سَدُوسٍ فَقَدْ أُنْزِلْتَ مَنْزِلَةَ الدَّلِيلِ وَقَدْ عَلِمَتْ سَدُوسٌ أَنَّ فِيهَا مَنَارَ اللُّومِ وَاضِحَةَ السَّبِيلِ وأنه لم وفي البيت الثاني يخاطب نفسه وكل مسافر بأنه إذا أنزل رحله في أرض سدوس لم يجد لديهم مقاماً كريماً، لأنّ سدوساً أذلاء لا عزة لهم ولا منعة عندهم . وفي البيت الثالث يذكر أن سدوساً تَعْلَم من أنفسها أنها منار اللوم بيالقبائل . وهي لا تحمي الشيء القليل الذي لديها، لضعفها وجُبْنِهَا إذا لم يكن عندها إلا القليل، وهي مضطرة إليه . المثال الثامن : *** يحرك الله عز وجل في أهل القرى وهي كل مجمع سكني ولو كان من المدن الكبرى» الذين كذبوا رُسل رَبِّهم المخاوف من مفاجأة نقمة الله وعذابه ليلاً أو نهاراً، مع تكرير ما يمكن أن يُفهم لو حذف، لأن تكرار الذكر يساعد على عدم شرود الذهن عن إدراك ما جاء في عبارات الترهيب، بخلاف الحذف فإنّه يساعد على شرود المقصودين بالخطاب،