استفسرَ المُفَتِّشُ مِنْ فلّاحٍ كانَ الشّارعِ عنِ المدرسةِ. كانَتِ الشّوارعُ مَليئةً بالمَطَبّاتِ وَالطّينِ، وَتسرَّبَ إليها كثيرٌ منَ المياهِ النّازحةِ مِنَ البيوتِ الطّينيّةِ. فما كانَ منَ المفتّشِ إلّا أنْ سارَ عَبْرَ دَرْبٍ رَطْبٍ بَيْنَ حَقْلَيْنِ. وعلى بُعْدٍ بَصُرَ بسائقِ دراجةٍ متّجهًا ناحيتَه، وما إنِ اقتربَ مِنْهُ حَتّى تَوقّفَ سائِقُ الدّراجةِ، وَنزلَ عنها قبلَ أنْ يَقِفَ باحترامٍ لَهُ: - أترَى شَجَرةَ الشّيشامِ تِلْكَ. قالَ الدَّرّاجُ مُشيرًا إلى شَجرةٍ بَعيدةٍ. وَغمرَتِ القرويَّ موجةٌ زَهْوٍ إذْ إنَّهُ قُدِّرَ لَهُ أَنْ يَمُدَّ يَدَ العَوْنِ إلى سَيِّدٍ جَليلٍ مِنَ المدينةِ، إِذْ تخيّلَ نفسَهُ وَمُديرَ المدرسةِ وَطُلّبَها أَوْ أيَّ عابرٍ قَرويٍّ ينظرونَ إليهِ وهوَ بِصُحبةِ ذلكَ الباشا. لقد أضحَتْ عَمليّةُ البَحْثِ عنِ المَدارسِ عبرَ القطاعاتِ استنزافًا لِصَبْرِه وَجلَدِه، في المُدنِ القَذِرةِ والأقاليمِ النّائيةِ والمراكزِ المُثقلةِ بالدُّخانِ والغُبارِ، وفي القُرى النّائيةِ حيثُ الطُّرقاتُ ضَيّقَةٌ لايمكنُ لِسَيّارتِه «الجيبِ » أنْ تسيرَ عَبْرَها. لكنَّ الأمرَ لمْ يكنْ بهذهِ السّهولةِ، فكُلُّ مَدرسةٍ كانَتْ منبعَ وَجَعٍ مَحْضٍ؛ ما الّذي بوَسْعِهِ أَنْ يَعَملَهُ؟ تَوصياتٌ وَتَوصياتٌ تَرفضُها إِدارةُ التَّخطيطِ والتَّنميةِ تِلْكَ الّتي تُخَطّطُ قليلً وَتُطوِّرُ أَقَلَّ مِنَ القليلِ!. فيما كانتِ الحشراتُ تَطيرُ فوقَهُ أَوْ تزحَفُ على سَطْحِهِ، وعندَما دَنَيَا منها ارتفعَتْ فجأةً وقد علا طَنينُها. وَروّحَ مُفَتِّشُ المدارسِ على وجهِهِ طاردًا إيّاها فيما كانَ الفَلّحُ يسيرُ دافِعًا دَرّاجتَه بِخُطواتٍ واسِعَةٍ رشيقةٍ، وأجراسُها تَهْتِكُ أستارَ السُّكونِ. وَوَجَدَ المُفَتِّشُ صعوبةً في السَّيْرِ بمحاذاتِهِ. وَمَرّا بحَقْلِ ذُرَةٍ في أكوازِها لمّا تَزَلْ، وَخَلْفَ الحَقْلِ سَمَقَتْ شَجَرةُ «الشّيشامِ !» كانَتْ شَجرةً ظليلةً على حافّةِ حَقْلٍ حُرِثَ مُنتظِرًا طَوْرَ نَثْرِ البذورِ، قبلَ حَرْثِ الأرضِ على أقلِّ تقديرٍ! - ثُمَّ؟ إِنَّ المُعَلِّمَ ينقلُها معَهُ، وأنّى ذَهَبَ ارتحلَتْ معَهُ. أنتَ. فظلَّلَهما بيديهِ، ونظرَ إليهما: - أينَ المدرسةُ يا صاحِ؟ هُنا أستاذٌ منَ المدينةِ ليراها. لقد رأيتُهم على ما أظنُّ مُتَّجهينَ إليه هذا الصباحِ. كانَ حقلُ القَصَبِ كثيفًا غَنيًّا بالمحصولِ، وحمراءَ داكنةٍ، وَنَظَرا حَوْلَهُما. باتَ الأمرُ مُمِلًّ. - رُبَّما كانَتْ في النّاحيةِ الأُخرى! - اسمعْ! اذهَبْ أنتَ وَتَحَرَّ عَنْ ذلكَ، وعندَما تَجِدُ المدرسةَ أَخْبِرْني. وَطرحَ الرّيفيُّ دراجتَهُ جانبًا، أمّا مُفَتِّشُ المدرسةِ فقدْ جَلَسَ مُجيلً بَصرَهُ في الأرضِ السّمراءِ، وقد تفاوتَتْ دَرَجاتُهُ وظلالُهُ حتّى إذا ما لامسَ طرفَ السّماءِ كانَ في أَوْهاها. وَلَمْ تَكُنْ ثَمَّةَ غَيْمَةٌ في السّماءِ. وَحَلّقَتْ بعضُ الحِدَأِ عاليًا في كَسَلٍ فيما عبَرَتْ فوقَهُ عَصافيرُ جَذْلى مُترنِّمةٌ. لابُدَّ وَأَنْ يفعلَ شيئًا فيما يَختصُّ بذلك! إنَّه يجلسُ في مكتبِهِ، ويجلسُ في سَيارتِهِ الجيبِ، بالجلوسِ في الكُرسيِّ الوحيدِ في المدارسِ الّتي يزورُها 5. - لقد وَجَدْتُها! على أنَّ مُفَتِّشَ المَدارسِ تَردّدَ لوهلةٍ، قد يتعرّضُ للسّرقةِ في ذلكَ الحقلِ الكثيفِ ولا شاهِدَ هُناكَ. ورؤوسُ القصبِ الخضرُ تُجَرّحُ يدَيهِ ووجهَهُ. وَثنى ذراعَيه فوقَ رأسِه، وتبِعَ السّوقَ المهتزّةَ المُفْعَمةَ بالضّجيجِ حتّى وصلَ إلى وسطِ الحقلِ، وهناكَ. وفي بُقعةٍ قُصَّتْ أعوادُ القصبِ فيها فبدَتْ ملساءَ، لم يكنْ تحتَهم بساطٌ يقيهم صلابَةَ الأرضِ. كانَ الهدوءُ يلفُّهمْ برداءٍ يبعثُ الرّاحةَ في النّفوسِ، واهتزّتِ الرّؤوسُ جماعيًّا في مُحاولةٍ لِحفْظِ جداولِ الضّربِ فيما انحنى قِسْمٌ منهم على ألواحِهمْ يستذكرونَ ما دُوّنَ فيها. ودُعّمَتْ أطرافُه بشرائحَ حديديّةٍ ثُبِّتَتْ فيه بمساميرَ، ونهضَ مُعلّمُ الصّبيانِ فجأةً وقدَمُهُ تبحثُ - وقوفْ! صاحَ المرشدُ آمرًا بالإنجليزيّةِ. وَهَبَّ التَلاميذُ وقوفًا. ماسحينَ ما عَلِقَ بظهورِهمْ من غُبارٍ. واستغرقَ المعلّمُ بعضَ الوقتِ كيما يتمالَكُ نفَسَهُ فقدْ أذهلَهُ حضورُ المُفَتِّشِ، ونفضَ الغُبارَ عنِ الكرسيِّ الّذي ترأَّسَ به طلبتَهُ، صاحَ المعلّمُ! وابتلعَ المعلّمُ ريقَهُ بصوتٍ مسموعٍ: - نعمْ سيّدي. - منَ المُقرَّراتِ. قالَ ذلكَ قبلَ أنْ يُسَلِّمَ المُفَتِّشَ مجموعةً منَ الكتبِ المُغبرّةِ الرّثةِ كانتْ تحتَ رجْلِ الكرسيِّ. طالبًا أنْ يقرأَ. - كمْ فصلً لديكَ هُنا؟ وتبيّنَ للمُفَتِّشِ أنّ ما خالَهُ مجموعةً واحدةً كانت في الواقعِ سِتًّا! سَيّدي! قالَ المعلّمُ مُشيرًا بعصاه. قالَ المُفَتِّشُ آمرًا أحدَهُمْ. لَمْ يُخطىءِ البتّةَ، وبدا جليًّا أنّ المُعَلِّمَ قدِ استردَّ كثيرًا من ثقتِهِ بنفْسِه تبعًا لذلكَ. - اسألْ فصلً آخرَ، وطلبَ المُفَتِّشُ منَ الفصلِ الثّاني إجراءَ بعضِ عمليّاتِ الجَمْعِ فأتمَّها معظمُهم بطريقةٍ صحيحةٍ. وقرأَ طالبانِ منَ الفصلِ الأوّلِ الحروفَ الأبجديّةَ دونَ خطأٍ بالطّريقةِ الإيقاعيّةِ الّتي ساعدَتْ على إجادتِها صمًّا، أَوْ كانَ ضمنَ المقرّرِ، وهو مايشكُّ فيهِ فذاكَ أروعُ. - وقوفْ. أمّا المعلّمُ فتبعَهُ حاملً عصاهُ. ستتحدّثُ القريةُ وما جاورَها عن ذلك الحدثِ أيّامًا عدّةً. لِمَ لا تفعلُ؟ - كلّ. لا أحدَ يرضى أنْ يُعطيَنا غرفةً واحدةً سيدي! إنّهم لايريدونَ مدرسةً هُنا، لقد أوضحوا ذلك مرّاتٍ عدّةً، إِذْ إنّ كثيرًا منهمْ يرونَ في التّعلّمِ مضيعةً لأوقاتِ الأولادِ الّذينَ يعتقدونَ بأنّ عليهم إزجاءَ الوقتِ في عملٍ نافعٍ مفيدٍ بدلً منَ اللّهوِ الدّراسيِّ! وبأنّه حريٌّ بهمْ أنْ يساعدوا آباءَهمْ في الحقولِ ورعيِ الماشيةِ - لكنَّ السّيّدَ «شادري علي محمّد » الزّعيمَ. هوَ الوحيدُ الّذي ينظرُ إلينا بعينِ التّفهُّمِ والعطفِ ياسَيّدي! إنّه يدركُ الأهميّةَ القصوى للتّعليمِ، لكنّهُ منحَنا ظِلَّ شجرةِ الشّيشامِ الّتي يملكُها لنتفيّأَهُ طوالَ المَوسمِ، حتّى حَلَّ أوانُ حَرْثِ أرضِها، - نعمْ، سَيّدي، سَيّدي، واستغرقَ العملُ منّا أيامًا ثلاثةً، حتّى طلبةُ الفصلِ الأوّلِ عملوا معنا بكلِّ دَأَبٍ منَ الثّامنةِ صباحًا حتّى صلاةِ المغربِ، وبعدَها كانَ لزامًا أنْ نتوقّفَ عنِ العملِ لحلولِ الظّلامِ. لقدْ قالَ السّيّدُ «شادري » إنّ علينا أَنْ نُثَمِّنَ التّعليمَ، ونقدّرَهُ، كانَتْ ثَمّةَ دموعٌ تترقرقُ في مُقلتَيهِ، واعتمرَ عِمّتَهُ ثانيةً، ثُمَّ نظرَ إلى البعيدِ مُشيحًا ببصرِهِ، وَشَرعا يمشيانِ جَنْبًا إلى جَنْبٍ؛ غُرفةٌ واحدةٌ فقطْ!. فإنْ لم تكنْ غُرفةً فقطعةٌ صغيرةٌ منَ الأرضِ وسوفَ نبنيها. سَيّدي، وبأنّه لا أحدَ يرغبُ في وجودِ مدرسةٍ هُنا، هناكَ أرضٌ في النّاحيةِ المهجورةِ منَ القريةِ سوفَ أكونُ سعيدًا بإنشاءِ مدرسةٍ هناكَ، لكنَّ مُراقبَ المدارسِ كانَ يلوذُ بالصّمتِ! صَمْتٌ مُطبِقٌ رهيبٌ! يكادُ يرى الاقتراحَ يرُفضَُ 9. هو واثقٌ مِنْ ذلكَ؛ إِذْ إنّ الحكومةَ لمْ تكنْ تسمحُ بتخصيصِ أرضٍ لمدرسةٍ ابتدائيّةٍ. فكيفَ سيتغيّرُ ذلك الآنَ؟ القانونُ هوَ القانونُ. قطعةُ أرضٍ صغيرةٌ. كَمْ مِنَ المعلمينَ كانوا بمثلِ إخلاصِ هذا المعلّمِ وتفانيهِ! كَمْ منهمْ كانَ يهتمُّ بذلكَ؟ وَكَمْ منهمْ كانَ بإمكانِه مواجهةَ لامبالاةٍ كهذهِ؟ كلّ لَمْ يستطعِ استرجاعَ حالةٍ واحدةٍ طيلةَ سِنيِّ عملِه الثّلاثِ.