وكانت- على صغر سنها - زعيمة الأسرة . وكان أهلي جميعا يلجؤون إليها يطلبون رأيها في ما يعرض لهم ، وفصلها في ما يقع بينهم من المشكلات . وكنت أكبر بنيها ، فصارت تعاملني على اني رب الأسرة وسيد البيت ، وتعودني احترام النفس ، والتزام ما يقتضيه مقامي في البيت ، وتستوجبه زعامتي للأسرة ، وإلى التبعات التي يحملها رجل مثلي . وكانت حاذقة كيسة في سلوكها فلا نهر ولا زجر ، ولا أوامر ثقيلة ولا نواهي بغيضة ، ولا إشعار بأن لحريتي حدودا ضيقة غير معقولة أو محتملة ، وإن كانت الرقابة على هذا دقيقة وافية . وكنت أداعبها بعض الحين فتثور علي ثائرتها ، فتعلن أنها لا تريد أن ترى وجهي بعد اليوم ، ولكني لا ألبث أن أسترضيها وأقبل يديها ورأسها ، فما كنت أطيق أن أدعها عاتبة أو ساخطة او متألمة ، وتمسح رأسي كاني مازلت طفلا . ولما نجح في امتحان الشهادة الابتدائية ، جاء أقاربي مهنئين ، وأشاروا على أمي أن تكتفي من تعليمي بهذا القدر ؛ وكنت جالسا في هذه الجلسة ، وإني لأتذكر أن ابن عمتي سألها قائلا : من أين تجيئين بالمال الكافي لتعليمه ؟ فقالت : إن الله معي ، ولو أني أصبحت أخدم في سبيل تعليم ولدي ما ترددت . ومن حنانها العجيب أنها كانت إذا مرضت ، ووصف لي الطبيب دواء ، لا تدعني أجرع منه إلا بعد أن تجرع هي منه ، وكثيرا ما كنت أقول لها : " يا أمي كفي عن هذا ! " ، فتقول : " يا بني ، إنه قلب الأم " فأقول : " ولكنه عمل لا نفع منه " ، ولكن ليطمئن قلبي " . وكانت - عليها رحمه الله – تتوخى أن تعفيني من المنغصات ، فتستقل بها دوني ، وتتحرى ما يدخل على نفسي السرور ، ويشيع فيها الغبطة والرضا ، ويفيض على البيت الإيناس والبهجة . وحينما استقلت من وظيفتي ، وشعرت بالندم على الاستقالة فلما رأتني أمي على هذه الحال ، قالت لي : قم ، فقد كنت أنا مستعدة أن أعمل بيدي في سبيل تربيتك ، فكن أنت مستعدا أن تعمل بيديك إذا احتاج الأمر ، وثق بأنك لن تخيب ، فإني داعية لك ، راضية عنك وكانت ذاكرتها قوية ، فكانت إذا جلست للسمر تتدفق بأحاديث الأيام السوالف وكأنها تحياها من جديد ، فلا يغيب عنها حرف ، وكانت – لقوة ذاكرتها – سجلا عاما للأهل والأصحاب ، وكانت تكتفي بالنظرة الأولى إذا أمكن أن تستغني عن الكلمة ، فكنا نتفاهم بالعيون ، والذين حولنا غافلون لا يفطنون إلى شيء . فقد كانت لي أما وأبا وأخا وصديقا .