المدح المدح في الجاهلية من الأبواب الرئيسة لاتصاله بالحياة القبلية ، فقد كان على الشاعر أن يدافع عن أعراض قومه ، ويمدح ساداتهم وفرسانهم ، ويطري فضائلهم ويمجد أعمالهم ، ولذلك كانت القبيلة تغتبط وتتباشر إذا نبغ شاعر فيها ، لأن حماية الأعراض والأحساب لا تقل شأنا عن حماية الأرواح والأموال . ولا تلحق الشاعر غضاضة من هذا المدح ؛ لأن مفاخر القبيلة وهو منها - تعود إليه كما تعود إلى غيره من أبنائها ، فخليق بهذا المدح أن يُعد من الفخر ، فما كان عمرو بن كلثوم في معلقته إلا مفاخرًا بقومه ، وكذلك الحارث بن حلزة في رده عليه والذود عن بني بكر ، مع أنه لم يكن سيد القبيلة ولا فارسها . على أن الشاعر الجاهلي مضطر كغيره من البدو إلى الترحل والنزول على قبيلة غريبة ، وتبالغ في قراه وإيناسه أو تجيره وتؤمنه في خوفه ، فيرى من واجبه أن يشكر لها صنيعها ، ويمدح السيد الذي أضافه أو أغاثه ، وإنما هو شكر على معروف ، كما مدح امرؤ القيس القبائل التي كانت تضيفه أو تجيره بعد مقتل أبيه ، فقال في المعلى التيمي حين اجاره من المنذر بن ماء السماء أقر حشا امرئ القيس بن حجرٍ بنو تيم مصابيح الظلام ولم يُعرف التكسب بالمدح إلا عندما أخذ الشعراء ينزحون عن قبائلهم ، ويترددون في الأحياء الغريبة ، ويقرعون أبواب الملوك والسوقة ، مادحين مستجدين هاجين من لا يحسن لهم العطاء . فهبطت منزلتهم عن منزلة الشعراء القبليين الذين أبوا أن يقبلوا الصلة ويريقوا ماء الوجوه بيد أننا لا تستطيع أن نرد بدء التكسب على شاعر قبل غيره لبعد العهد ، وضعف المستندات التاريخية ، وكثرة الشعراء الذين تكسبوا وعاصر بعضهم بعضا ، إلا ما كان من زعم جماعة من الرواة أن النابغة أول من سال بشعره واستعطى ، ويعترض ابن رشيق في العمدة على الذين يضيفون بدء التكسب إلى أبي بصير فيقول : « وقد علمنا أن النابغة اسنُ منه وأقدم شعرا . » ونعلم من الرواة أن الشعراء قبل النابغة كانوا يقصدون قصور الملوك ويمدحونهم ، فقد ذكروا أن المسيب بن علس دخل على عمرو بن هند ومدحه ، ولقي هناك طرفة والمتلمس ، وكان يتردد على القعقاع بن شور الدارمي ويمدحه وينال صلاته ومع ذلك لم يعير هؤلاء الشعراء ولا غض الشعر منهم ، كما أن زهير بن أبي سلمى لم يؤخذ عليه مدحه لهرم بن سنان وقبوله العطاء منه ، وما ذاك إلا لأنهم لم يتخذوا الشعر حرفةً للتكسب كما اتخذه النابغة والأعشى والحطيئة ، وليس المسيب بن علس من الذين يُذكرون مع كبار الشعراء ليعنى الرواة بتسقط أخباره ، فنعلم دوافع مدحه لعمرو بن هند والقعقاع الدارمي . ولم يتكسب زهير إلا يسيرًا من هرم بن سنان ، حتى قيل إنه كان يتجنب التسليم عليه لئلا يتعرض لعطائه ، وهو على كل حال مدح سيدا من قبيلة أقام في أرضها وانقطع إليها ، وتزوج منها وأصبح شاعرها وحكيمها يرشدها ويدافع عنها ، وأما النابغة فكان يتنقل من المناذرة إلى أعدائهم الغساسنة ، يمدح هؤلاء وأولئك ويستجديهم . ثم يبذل ما في وسعه لاسترضاء النعمان أبي قابوس ، ليعود إلى قصره بعد انقطاع رجائه من ملوك الشام . فعيَّروه وقالوا : غض الشعر منه ، وأما الأعشى فقد كان أكثر منه ترددًا في البلاد ، يأخذ الصلة من الملوك والسوقة ، وينفر سيدًا على آخر فيهجو من لم يسئ إليه ليمدح منافسه على السيادة فعله بعلقمة بن علاثة تأييدًا لعامر بن الطفيل ، ومدحه للمحلق الصعلوك مشهور ، ولذلك قالوا : جعل الشعر متجرًا ، ومن قوله في تطوافه وقد طفتُ للمال آفاقه عُمان فحمص فاوری شلم أتيتُ النجاشي في أرضِهِ وأرض النبيط وأرض العجم وبلغ التكسب إلى أدنى دركاته عند الحطيئة ، فقد أكثر من السؤال بالشعر ، حتى مُقت الشعر وذلَّ أهله كما يقول ابن رشيق يمدح الشخص ويتكسب منه ، ثم يهجوه تزلفا إلى عدوه ، فعله بالزبرقان بن بدر عندما هجاه تقربًا إلى بني شماس بعد أن نزل في جواره . وإن صار إلى التكسب الدنيء في أواخر العصر الجاهلي ، فقد كان تأثيره عظيمًا في الأشخاص والقبائل ، يرفع شأن الخامل وينشر ذكره بين الناس كما ارتفع المحلق الكلابي واشتهر بشعر الأعشى بعد خموله ، وكما ارتفع بنو أنف الناقة بشعر الحطيئة ، فصاروا يتطاولون بهذا النسب بعد قوله فيهم قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذنبا ؟ والتجاء طلاب السيادة إلى الشعراء في مفاخراتهم دليل على ما للشعر من الأثر البليغ . ولا يختلف المدح في صفاته العامة عن الفخر والحماسة ، فإن الفضائل التي يفاخر بها الشاعر الجاهلي ، وينافس غيره من الشعراء والقبائل ، هي التي يمدح بها السادات والملوك شاكرًا أو متكسبًا ، لأنها خير ما يرى من حميد المزايا ومكارم الأخلاق ، فأضافها إلى ممدوحيه مبالغا في الكلام عليها مبالغة الشاعر الفارس في المباهاة بها ،وإن تكن الحمية عنده أخفَّ منها عند الآخر ؛ لأن النفس التي تدفع إلى المدح والثناء غير النفس التي تندفع حماسة وفخرًا . ويختلف الشعراء في مبالغاتهم بين مقل ومكثر ، ولكنهم لا يجنحون إلى الإحالة ؛ لأن طبع البدوي في صفائه ينفر من الغلو إلا إذا رانت عليه العاطفة في حزن أو حماسة ، فتخرج به إلى غاية الإغراق والكذب ، غير معتدل ولا متأثم وقلما سمعنا شاعرًا مداحًا في الجاهلية يغلو غلو النابغة في وصفه سيوف الغساسنة ، حيث يقول : تقد السلوقي المضاعَف نسجه وتُوقِدُ في الصُّفَّاح نار الحُباحب أو في ذكره قدر ابن الجُلاح الكلبي - قائد الغساسنة - زاعمًا أنها تسع الجزور بجملتها . فهذه المغاليات مأنوسة في المفاخر والمراثي أكثر منها في المدائح ، ولكن تحول الشعر إلى التكسب جعل الشعراء يفرطون في تعظيم الأشراف والملوك ، تملَّقًا لهم واستدرارًا لأكفهم ، وإن تكن السذاجة الفطرية لا تعدو تصوراتهم ، مثل وصف النابغة للقدر التي تسع الناقة العظيمة ، وينضاف إلى هذه التصورات ما تسمع من مدح الأشخاص بنعالهم وجودتها . فإن الأشراف ينتعلون السبت - وهو الجلد المصبوغ - فلا تأكله الكلاب كما تأكل غيره من الذي لم يُصبغ . قال النجاشي الحارثي يمدح هند بن عاصم ولا يأكل الكلب الشروق نعالهم ولا تنتقي المخ الذي في الجماجم ومدح النابغة الغساسنة برقة نعالهم ليدل على ملوكيتهم وتَرَفهم ، وأنهم لا يخرجون من منازلهم إلا راكبين على خيولهم ، فما يحتاجون إلى لبس النعال الغليظة . ومثل هذا ما نرى من استنكار الأشراف لمأكل يجدون فيها غضاضة ، فيمدحون بهذه العفة ، كما مدح النجاشي هند بن عاصم ؛ لأن قومه لا يأكلون الأدمغة وهي ليست طعام السادات والملوك ولا تنتقي المخ الذي في الجماجم . » وحمدوا جوار شخص وذموا جوار آخر بمقدار ما يحسن أو لا يحسن قرى جيرانه ، ومن هنا مدح الكرام بنيرانهم وكلابهم ورمادهم فالنار توقد ليلا لهداية الضيفان ، ولا يوقدها إلا السخي الجواد الذي يكثر رماده لكثرة طبائخه ، قال الحطيئة متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد خير نار عندها خيرُ مُوقِدِ والكلاب تنبح لتهدي الطارق إلى المنزل ، ولكنها لا تنبح في وجهه إذا أقبل . قال حسان بن ثابت في الغساسنة يُغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المُقبل ولا يختلف مدح الملوك في اعتماد هذه الفضائل عن مدح السادات ، فإن الشعراء الذين مدحوا الغساسنة والمناذرة أفاضوا في ذكر حروبهم وانتصاراتهم وجودهم وضيافاتهم ، لأن ملوك الشام والعراق لم يبتعدوا بذهنيتهم عن سيد القبيلة ، وإن أصابوا طرفًا من الحضارة . فالمدح الذي يصلح لصاحب القبة الحمراء ، يصلح أيضا لأمير جلق والبريص ، ولرب الخورنق والسدير وكان ملوك غسان ولخم يقربون شعراء البادية ، ويجزلون لهم الصلات ليتغنوا بعظماتهم في الأحياء القريبة والبعيدة ، وينبسط نفوذهم على عشائرها ؛ لأنهم كانوا يحتاجون إلى مؤازرتها في حروبهم واقتصادياتهم ، وحراسة قوافلهم ، فقضت عليهم السياسة بتقريب شعرائها وإكرامهم للاستفادة من مدائحهم وسيرورة أشعار هم ، كما قضت عليهم بذلك ذهنية العربي في ارتياحه إلى الحمد والثناء فمدحهم الشعراء مثل مدحهم لسادات قبائلهم ، وأضفوا عليهم سوابغ الأوصاف التي تعودناها منهم تحت الخيام . وإذا كان من خلاف بين المدح البدوي والمدح الحضري ، فإنما هو يقتصر على صفات لا توحي بها خيمة الأعرابي وطلله ولا حياته الاجتماعية ، كوصف النابغة للفرات في مدح النعمان ، وتشبيه عظمته بعظمة سليمان أو ذكر القصور المنيفة في المدن والعواصم ، كقول الأسود بن يعفر في آل محرّق وبني إياد : أهلِ الخَوَرنق والسدير وبارق والقصر ذي الشرفات من سنداد وكذلك المدح الديني ووصف الحفلات في الأعياد الكبرى كما مدح النابغة بني غسان ، وذكر موكبهم يوم الشعانين . ويتخلل المدح الحضري الأخبار والأساطير ، فعل النابغة والأعشى . فنستدل بها على الثقافة التي اكتسبها شعراء البدو في رحلاتهم إلى المدن والأمصار ، ومخالطتهم للشعوب المتحضرة . ومما يحمد عليه الشاعر الجاهلي أنه حافظ على كرامته في مدح الملوك والسادات ، فلم يتذلل لهم وهو في أشدّ الحاجة إلى رفدهم ومعروفهم ، ولم نجد شاعرًا حطَّ من نفسه غير النابغة في اعتذارياته للنعمان بن المنذر ، وغير الحطيئة في تصوير بؤسه وضعفه ، وفي متاجراته الدنيئة بأعراض الناس ، ومع أن الأعشى اتخذ الشعر تجارة فلم ينحدر به إلى الدنايا ، ولا بذل ماء وجهه إلى ممدوحيه ، وكذلك عدي بن زيد العبادي لم تغضض منه اعتذارياته إلى النعمان ، وكان سجينًا عنده لا طليقاً كالنابغة ، وإن بدا عليه الألم المرير حين يرينا نفسه مكبلا بالحديد ، مرتديًا ثيابًا باليةً ، فهو يحافظ على عزة نفسه وكرامة محتده ، ولا يخشى أن ينافس أبا قابوس بالمجد والفضل ، فيذكّره بما له ولأبيه من النعمة عليه وعلى والده ، ويذكره بالمصاهرة والمودة ، وأنهم كانوا قبلهم ملوكًا ذوي سلطان نحن كنا قد علمتم قبلكم عَمَدَ البيت وأوتاد الإصار 12 ويستهل شعراء الجاهلية مدائحهم ، والوقوف عليها للبكاء أو للتحية والسؤال ، معددين المواضع التي توصل إليها ، متشوقين إلى أحبتهم يوم كانوا يعمرونها ، مشببين بهم مستعيدين ذكرى فراقهم ، ثم يرحلون على ناقتهم مفرجين همهم قاصدين إلى الممدوح ، فيصفونها عضوًا عضوًا ، ويصورون سرعتها ونشاطها ، ثم ينتقلون إلى المدح بعد هذه المقدمة التقليدية التي تلزم الشريف أن يراعي حقَّ الشاعر في قصده إليه دون غيره من مكان بعيد يعاني السهر والنصب وسرى الليل ، وربما جعل ناقته تتظلم شاكية ما يجسمها من مشقة الأسفار وشد الحبال ، وفي ذلك ما فيه من استعطاف الممدوح وإيجاب حقه عليه . قال المثقب العبدي : إذا ما قمت ارحلها بليل تأوَّهُ آهةَ الرجل الحزين تقول إذا دراتُ لها وضيني أهذا دينه أبدًا وديني ؟ 13 أكل الدهر حَلٌّ وارتحال أما يبقي عليَّ وما يقيني ؟ وقد تلوم المرأة زوجها والبنت أباها على كثرة ترحاله خائفة عليه ، قال الأعشى : تقول ابنتي حين جد الرحيل أرانا سواء ومن قد يتم فيا أبتا لا تَرمُ عندنا فإنا بخير إذا لم ترم وقد تكون المرأة رفيقة له في السفر وطلب الرزق ، ويسير بها إلى ممدوحه ؛ فعل الحطيئة سيري أمام فإن الأكثرين حصى والأكرمين إذا ما يُنسبون أبا قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يساوي بأنف الناقة الذَّنبا ؟ وشعراء المدح في الجاهلية كثر ، يتشابهون في نواحٍ من معانيهم وتعابيرهم ، على ما بينهم من اختلاف الطوابع الخاصة .