' ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يرسل فيها الأوربيون قوات ضخمة إلى الخليج؛ فقبل أقل من مئة عام وبالتحديد في تشرين الثاني/ نوفمبر 1819 وصلت حملة عسكرية كبيرة إلى الخليج، وبدأت في ترويع كافة الحكام على امتداد الساحل، وهي المعاهدة التي صاغت شكل العلاقة السياسية بين الجانبين على مدى نحو 150 عاماً، وكانت الدوافع الاقتصادية والجيوسياسية هي السبب الرئيسي وراء كلتا الحملتين. كثيراً ما يخطئ الأوربيون بوجه عام في فهم القرارات السياسية والاقتصادية البراجماتية في منطقة الخليج، مفسرين إياها على أنها قرارات تحكمها الانقسامات الطائفية أو الإثنية؛ وفي الوقت ذاته التوصل إلى توجه سياسي متوازن. لقد تحدد نمط الحياة في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية بالصراع الذي نشب في عُمان واشتركت فيه كل القبائل القاطنة في هضاب عُمان وحتى سواحل الخليج العربي ؛ فقد أدى الصراع الذي تفجر عام 1718 بسبب الخلاف على السلطة والنفوذ في عُمان، إلى إحداث انقسام قبلي جوهري ظلت أصداؤه تتردد حتى بعد مرور قرنين من الزمن قليلة هي الصراعات القبلية التي تركت آثاراً ملموسة لفترة طويلة ومدمرة إلى هذا الحد في شبه الجزيرة العربية. وإلى يومنا هذا يعرف كل فرد في قبائل دولة الإمارات العربية المتحدة الطرف الذي تنتمي إليه قبيلته ؛ كما أنه يعرف عادةً مواقف كل القبائل المهمة في المنطقة الواقعة بين رأس مسندم وظفار. أدى الانقسام الأساسي إلى انضمام بقية القبائل إلى أحد المعسكرين المتنازعين، متجاوزاً إلى حد بعيد حدود الطرفين المباشرين في الصراع إلى أن تحول الأمر إلى التعامل على أساس مبداً "عدو عدوي صديقي" أدت حالة الاستقطاب الواضحة في صراع الهناوية ‏ الغافرية إلى تقويض آليات المصالحة والتسوية التي كانت سائدة بين المجتمعات القبلية في منطقة الخليج العربي. غير أن حاجة القبيلة إلى حماية مصالحها والمحافظة على كيانها ساعدت على ترسيخ الإحساس بالهوية الجماعية . وحدث أول توسيع بارز للسلطة القبلية في عام 1761 بالتوطن في جزيرة أبوظبي» وبداً جماعا متلاحقة من بني ياس تتنقّل بعد ذلك بين ليوا وجزيرة أبوظبي. تولى الشيخ شخبوط بن ذياب زعامة قبيلة بني ياس سنة 1793 بعد وفاة والده الشيخ ذياب بن عيسى ليعزز من سلطة بني ياس في اليابسة وعلى السواحل. ومع ازدياد عدد الغارات الوهابية وتنامي قوتها؛ فعلى سبيل المثال استدعى الشيخ سعيد بن طحنون في آيار/ مايو 1848 رجال قبيلته وحلفاءه لطرد الدخلاء القادمين من نجد وإخراجهم من القواعد التي احتلوها حول العين. وبقيت الغارات بين مد وجزر» إلى أن استطاع الشيخ زايد بن خليفة سنة فقد انتقل للإقامة في العين التي شيِّد فيها قلعة مريجب، كما عمل على توطيد العلاقة مع الظواهر مما أدى في نهاية الأمر إلى تحالف طويل الأمد مع بني ياس . وفي عام 1818 أي بعد عامين من تنحيّه طواعية عن الحكم لابنه محمد عاد ابنه الأصغر طحنون بن شخبوط مفعماً بالنشاط والعزيمة؛ ليقبض على زمام السلطة ويحكم في ظل والده، وبدوره ذهب محمد إلى المنشى، إذ تسلم الشيخ طحنون الحكم في حين ظل أبوه رمزاً للسلطة ومستشاراً وعميداً للأسرة الحاكمة. وفي عام 1833 أقنع الشيخ شخبوط ابنه الشيخ طحنون بأن يسمح بعودة اثئين من صغار إخوانه، وهما خليفة وسلطان اللذان تم إبعادهما من أبوظبي من قبل بناءً على أوامر الشيخ طحنون. وسرعان ما ثبت أنه لم يكن على صواب فيما أقدم عليه ؛ ومن الناحية العملية دخل الشيخ شخبوط الذي كان عميداً لقبيلة بني ياس في ذلك الوقت في ترتيب مشترك آخر مع ولديه؛ ففي تلك الفترة كان الشيخ شخبوط قد أدى دوراً جوهرياً في حكم أبوظبي امتد لأكثر من 40 عاماً، شاهداً على حكمته وحنكته، ودليلاً على نجاحه في القيادة والسيطرة. لقد أظهرت أحداث عام 1845 وما قبله الحاجة إلى حاكم يتسم بالقوة والمرونة على حد سواء ظل الشيخ سعيد يمارس مهام الحكم بنجاح على امتداد عقد من الزمن، بعد أن واجه أزمة غير متوقّعة: «اففي عام 1855 تعيّن على الشيخ سعيد بن طحنون حاكم أبوظبي أن يتخذ قراراً صعباً؛ ولكن الشيخ سعيد لم يلتفت إلى آرائهم وأقام الحدٌّ على القاتل بنفسه وبصورة (صارمة)، وكان انتقال السلطة يتم بالإجبار على التنحي، وفي ظروف أخرى كما في حالة الشيخ شخبوط بن ذياب يتم التوصل إلى صيغة توفيقية تتيح الانتقال السلمي للسلطة. عهد الشيخ زايد بن خليفة كان اختيار الشيخ زايد بن خليفة عام 1855 وهو في العشرينيات من عمره لزعامة القبيلة ووضعه على رأس السلطة فى مرحلة حاسمة للغاية تحدياً بالغاً؛ وهي أن السياسة فى منطقة الخليج العربى ذات طبيعة متغيرة، وفي الوقت الذي ذاع فيه صيت الشيخ زايد الكبير تعمقت علاقاته مع الحكام العرب في المناطق البعيدة، كما نجح الشيخ زايد الكبير في ترسيخ قواعد الحكم بين القبائل، وفي الوقت ذاته أدرك الشيخ زايد الكبير مسؤوليات الزعامة في النظام القبلي، وهي أن السلطة قد اعتمدت إلى حد بعيد على الجانب الاقتصادي المتمثل أساساً في حرص الحاكم على تقديم الدعم المادي الذي يشكل مورداً مهماً وضرورياً من يدينون له بالولاء. وبداً الدور البريطاني يتنامى بصورة مطردة في المنطقة منذ توقيع المعاهدات الأولى للأمن البحري في عام 1820؛ فطن الشيخ زايد الكبير إلى كيفية التعامل مع البريطانيين على النحو الذي يحقق غاياته؛ وكان في وسعه استقطاب تأييد الجانب البريطاني لأنه قادر على ضمان استمرار تنفيذ " الهدنة البحرية". وهكذا خلال فترة تقارب أربعين عاماً أرسى زايد الكبير أسساً للتعاون العملي مع المسؤولين البريطانيين في منطقة الخليج العربي الذين سرعان ما أدركوا ضرورة احترام كفاءته السياسية؛ فقد أقام علاقات تقوم على أساس الاحترام المتبادل مع أجيال متتالية من المقيمين السياسيين البريطانيين الذين اعتبروه زعيماً يفي بالتزاماته؛ ولم يطراً أي تحول يذكر على طبيعة علاقة الشيخ زايد الكبير مع البريطانيين إلا في الجزء الأخير من فترة حكمه. كان هناك اتجاه يتصاعد يوماً بعد يوم في الأوساط الرسمية البريطانية يرى أن على بريطانيا أن تفرض المزيد من السيطرة على منطقة الخليج العربي. وأبرزت أول زيارة يقوم بها نائب الملكة في الهند إلى منطقة الخليج في شهري تشرين الثاني / نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر من عام 1903 هذا التحول الحاسم في التوجهات السياسية البريطانية. في الوقت ذاته سعى البريطانيون بعد زيارة اللورد كيرزون للمنطقة إلى تحقيق درجة من السيطرة لا يمكن تحقيقها عملياً إلا مع تخصيص قدر أكبر من الموارد البشرية والمالية. لقد تم الحفاظ على السلم على امتداد الساحل المتصالح والمناطق الداخلية لأن الشيخ زايد الكبير قد استخدم سلطته التي اكتسبها بشق الأنفس في فرض ذلك السلم على أرض الواقع. تزايدت الضغوط على زايد الكبير مع تحول البريطانيين التدريجي عن سياسة إطلاق اليد وحرية العمل إلى أسلوب التشدد وفرض القيود، لقد بدأت العلاقات الجيدة بين البريطانيين والشيخ زايد الكبير والتي تحققت في الفترة السابقة تتجه نحو الضعف اعتباراً من أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، وكان الشيخ زايد بن خليفة هو الرئيس الفعلي للاجتماع، ويعود توقيع هذه الاتفاقية إلى مناشدة إحدى القبائل للشيخ زايد بن خليفة حمايتها بعد أن حاولت مجموعة من قبيلة بني كتب احتلال قلعتهم، وقد أيده في هذا التصرف كل من حاكم دبي وحاكم الشارقة. بيد أن المقيم السياسي الرائد كوكس سعى إلى تقويض هذا التعاون السلمي، وتوسعت عملية " الإشراف " على شؤون الخليج لتشمل أموراً تجري على اليابسة وتتدخل في العلاقات المعقدة بين القبائل، على الرغم من كل هذه المضايقات فقد حافظ الشيخ زايد الكبير دائماً على صيغة مرنة وودية في مراسلاته مع كوكس. الأوضاع في المنطقة بعد رحيل الشيخ زايد الكبير أحدثت وفاة الشيخ زايد الكبير عام 1909 فراغاً سياسياً في المنطقة؛ توهموا مخطئين أن الأمور في المنطقة ستسير على نحو أفضل في غياب حاكم قوي قادر على التصدي لهم. وبدأت هيبة بريطانيا وثقتها بنفسها تتراجعان بدرجة كبيرة بعد أن بلغتا أوجهما عام 1913 فقد بدأ الحكام الذين كانوا يخشون في السابق سطوة البحرية البريطانية وسلطة المقيم السياسي، يتساءلون عما إذا كان البريطانيون قادرين فعلياً على تنفيذ سياساتهم وفرض أوامرهم. سنوات ما بين الحربين العالميتين: 1919 1938 ربما تكون إمارات الساحل قد شهدت في السنوات التي تلت انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى عام 1918 نوعاً من العودة إلى حالة السلم التي سادت خلال فترة ما قبل الحرب، كما أن فلسطين التي أثقلها عبء إنشاء "وطن قومي " جديد لليهود على أراضيها قد شهدت هي الأخرى مقاومة عربيةً قويةً للأطماع الصهيونية منذ لحظة تأسيسها. وكانت فرنسا أكثر قسوة في التعامل مع المناطق الواقعة تحت الانتداب الفرنسي؛ انتشرت أخبار هذه التغيّرات على الفور في أنحاء منطقة الخليج، وأدى الاطلاع على الأحداث السياسية الجارية إلى زعزعة نظرة شعوب المنطقة إلى " السيطرة المعنوية " البريطانية. وعلاوةً على ذلك لم يكن هناك حكام محليون يمتلكون مثل مكانة الشيخ زايد الكبير للحفاظ على الأمن باعتباره من مهام بريطانيا في المنطقة حسب المعاهدات الموقعة بين الجانبين. كان من الممكن أن يستعيد البريطانيون وضعهم السابق في الخليج لو أنهم عادوا في عام 1918 بقدرة فعالة وإصرار على المحافظة على السلم، خاصة أنه لم يكن لدى أي من الذين جاؤوا بعد الشيخ زايد الكبير مباشرة الكفاءة اللازمة لإدارة التركيبة المعقدة لمنظومة قبيلة بني ياس في ظل الظروف السائدة. لقد عززت الحرب العالمية الأولى من قوة عبد العزيز آل سعود حاكم نجد ونفوذه في قلب شبه الجزيرة العربية؛ حيث تمكن بالفعل من طرد العثمانيين من إقليم الأحساء المتاخم للخليج عام 1913، وفي عام 1918 نظر إليه البريطانيون بوصفه يمثل أبرز قوة مستقبلية في المنطقة. كانت الموارد المالية المتوافرة لدى الحكام الذين تولوا الحكم بعد زايد الكبير قليلة نسبياً وغير كافية لمقاومة تلك الضغوط، وقد تراجعت الموارد الاقتصادية للحكام نتيجةٌ لتدهور التجارة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، فإما أنها كانت تمثل فترة انتكاسة سياسية نظراً لسيطرة الطابع الصراعي العنيف للقبلية الذي كان سائداً قبل عام 1855، وقد أدت الحرب العالمية الأولى إلى فقدان الاستقرار الاجتماعي والسياسي في العالم بأسره، وساد الاضطراب السياسي والاقتصادي على نطاق واسع؛ وفي عام 1929 عندما بدأت البنى السياسية تستعيد وضعها، انهار الاقتصاد العالمي مرة أخرى ودخل العالم في كساد اقتصادي امتد طوال فترة الثلاثينيات. وقد وُلد الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وترعرع في هذه الظروف العصيبة والمتقلبة. لا يوجد من يذكر بدقة اليوم والعام الذي ولد فيه الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، غير أن أرجح تقدير هو أنه قد ود في العام الأخير من الحرب العالمية الأولى، ومع انتقاله إلى العين عام 1926 وخلال فترة حياته بين أهل أمه من القبيسات، وفي مجلس جده بطي حضر الشيخ زايد بن سلطان المداولات حول الهموم القبلية التي عايشها بشكل غير مباشر في أبوظبي، واستمع في مجلس جده إلى المناقشات اليومية المتعلقة بقضايا الحرب والعادات والتقاليد والأعراف العربية الأصيلة؛ وفي مرحلة لاحقة أدرك زايد عدم حدوث تغير كبير في آلية التحالفات بين القبائل وفي القضايا التي واجهت جده الشيخ زايد بن خليفة الذي سمي على اسمه قبل قرن كامل. وفي شبابه الذي أمضاه في العين حرص زايد بن سلطان على معرفة الرجال الذين قاتلوا إلى جوار جده زايد الكبير واستمع إلى آرائهم وحكاياتهم وذكرياتهم. شكلت هذه المؤثرات خلفية طفولة الشيخ زايد وشبابه؛ فإن الشيخ زايد بدأ منذ الأعوام الأولى يترك بصمته؛ لقد كان الشيخ زايد شاباً قوياً نشيطاً وصبوراً إلى أقصى حد، فإن ممارساته المبكرة أوضحت أن اللجوء إلى القوة إنما يمثل الملاذ الأخير لديه؛ فإن الشيخ زايد كان يمتلك السمات التي تمكنه من زعامة أبوظبي؛