والحياة بالنسبة له هي مجرد نظرية. لقد بدأ يتفلسف منذ كان طفلا ً، ويذكر تماماً كيف أوجد لنفسه سؤالا ً شغله طيلة أسبوع كامل، واعتبره مشكلة جديرة بالتفكير العميق: لماذا يلبس الانسان القبعة في رأسه والحذاء في قدمه؟ لماذا يضع على رأسه حذاء ويلبس قبعة في قدمه؟ لماذا؟ وفكر مرة أخرى بسؤال جديد: لماذا لا يسير الانسان على يديه ورجليه شأن سائر الحيوانات. ألا يكون مسيره ذاك مدعاة لراحة أكثر؟إلا إن مستوى فلسفته ارتفع مع مسير الزمن. وتوصل مؤخراً إلى قرار موجز: طالما أن الانسان دفع ليعيش دون أن يؤخذ رأيه بذلك، فلماذا يختار هو وحده نهايته.هنا، فكر أن فلسفته تقتضي تعديلا ً طفيفاً. إذ إنه ربما مات قبل أن يحصل على بارودة، أن يحقق فكرته النبيلة. دعاه بنهاية المطاف.إذن، يعرف الحقيقة مطلقاً. فهو قد اختار بنفسه أن يذهب لمركز التطوع، وأن يقف أمام طاولة الضابط ويقول بصوت ثابت: ־ أريد بارودة لأستطيع أن أشترك بالثورة. وأن عليه هو أن يصطاد بارودة ما بالكيفية التي يريد.־ ولكنني قد أموت قبل أن أحصل على بارودة. هكذا قال حانقاً، ولكنه ما لبث أن سكت وهو يسمع جواباً غريباً، ولكنه صحيح تقريباً:־ وهل أتيت إلى هنا كي تستمتع بصيفية لطيفة. ثم لتعود إلى دارك؟ فكر أن فلسفته تقتضي تعديلا ً طفيفاً. إذ إنه ربما مات قبل أن يحصل على بارودة، ولم تنقض فترة طويلة جداً كي يتوصل لقرار موجز جديد: ليس المهم أن يموت الانسان، أن يحقق فكرته النبيلة. إذ انه كان يتجول خارج «.» بعد معركة حدثت في الصباح، فوجد جندياً ميتاً، «والميت يحتاج لبارودة»، هكذا قال لنفسه وهو يقلب الجثة بحثاً عن بارودة فرنسية ذات فوهة مدببة.وبين رفاق المتراس عرف عبد الجبار «بالفيلسوف»، وكان يسره أنه يكبرهم قليلا ً، وأنه يستطيع أن يجمعهم بعد كل معركة ليدّرسهم قراره الموجز الجديد بشأن الموت. ففي ليلة مظلمة مات فلاح أمي. وقبل أن يسقط فوق المتراس شتم «.» ورجال «.».. وفكر عبد الجبار بكلمة تصلح لتأبين الشهيد، فإذا بالكلمة تصبح قراره الموجز الجديد: إن الفكرة النبيلة لا تحتاج غالباً للفهم. وأطلقت النار عليه وهو في طريق عودته إلى المتراس. وقال عبد الجبار: إن الشجاعة هي مقياس الاخلاص.وكان عبد الجبار بالذات شجاعاً. فلقد طلب منه الضابط، وقال له إن منظر وجهه الهادئ الحزين يثير الريبة في قلوب الخائفين.وسار عبد الجبار في الشوارع بلا سلاح، ووصل للميناء،