والقيام بواجباتهم، وانصراف الفتن والمحن والبلايا والرزايا عن العبد، لقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما تُنصَرون بضعفائكم))[1]، فمِن هؤلاء الضعفاء في المجتمع الإنساني: المُسِنُّ؛ لأنه يصاحب المرء مرحلةَ الكبر ضعفٌ عام، بحيث تظهر بعض التغيرات على جسم الإنسان في حالة تقدمه في السن، وضعف في البصر والشم والحواس بشكل عام، وبروز هذه التغيرات يتطلب الرعاية الخاصة بهم، ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو يرشدنا إلى حق الكبير: ((مَن لم يرحم صغيرنا ويعرِفْ حقَّ كبيرنا، تضافرت الأحاديثُ الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الخير مع الأكابر، فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتمنى أحدُكم الموتَ، ولا يدعو به من قبل أن يأتيه، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أنبئكم بخياركم؟!))، قالوا: بلى يا رسول الله، وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خيارُكم أطولكم أعمارًا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الخير مع أكابرِكم))، وفي رواية: ((البركة مع أكابركم)) [7]. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما مِن مُعمَّر يُعمَّر في الإسلام أربعين سنة إلا دفع الله عنه أنواع البلاء: الجنون، فإذا بلغ الستين رزقه الله الإنابة إلى الله بما يحب الله، فإذا بلغ السبعين أحبه الله وأحبه أهل السماء، فإذا بلغ الثمانين كُتبت حسناتُه ومُحيت سيئاته، فإذا بلغ التسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كما تَدين تُدان: يسر الله تعالى لنا في كِبَرنا مَن يرعى حقوقنا، وإن كنا مضيعين حقوقهم في شبابنا، فإن جزاء الإحسان الإحسان، ولذا جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم - وفي سنده كلام - أنه قال: ((مَن أهان ذا شيبة لم يمُتْ حتى يبعث الله عليه مَن يهين شيبه إذا شاب)) [9]. وفي رواية عن أنس مرفوعًا بلفظ: ((ما أكرم شاب شيخًا لسنِّه، فهذا الحديث يبين أن إحسانَ الشباب للشيخ يكون سببًا لأن يقيِّض الله له من يكرمه عند كبره، وكان ذلك مِن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، فقد أوجب نبينا صلى الله عليه وسلم احترام كبار السن، فرُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف ويَنْهَ عن المنكر))[12]. كما أورد الهيثمي عن معاذ بن جبل: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتاكم كبير قوم فأكرموه)) [13]. إن مِن حقوق الكبير في الإسلام أن يُحسَن معاملاته، فإن إكرام الكبير وإحسان خطابه هو في الأصل إجلال لله عز وجل؛ فقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن مِن إجلال الله: إكرامَ ذي الشيبة المسلم)) [14]. وفي رواية عن ابن عمر موقوفًا: عن ابن عمر، بَدْؤه بالسلام: إن مِن حقوق كبير السن إذا لقيناه أن نبدأه بالسلام مِن غير انتظار إلقاء السلام منه؛ فنسارع ونبادر بإلقاء السلام عليه بكل أدبٍ ووقار، بل نراعي كِبَرَ سنه في إلقاء السلام بحيث يسمعه ولا يؤذيه. فقد جاء في الحديث النبوي الشريف: ((يسلم الصغير على الكبير، وإن مِن حقوق كبير السن إذا حدثنا كبير السن أن نناديه بألطف خطاب، بأن نخاطبه بـ "العم" وغيره من الخطابات التي تدل على قدره ومرتبه ومنزلته في المجتمع بكبر سنه. فعن أبي أمامة بن سهل: قال: صلينا مع عمر بن عبدالعزيز الظهر، ثم خرجنا حتى دخلنا على أنس بن مالك فوجدناه يصلي العصر، وهذه صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كنا نصلي معه[17]. عن عبدالرحمن بن عوف أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانهما، تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، هل تعرف أبا جهل؟ قال: قلت: نعم، وما حاجتك إليه يا بن أخي؟ قال: أُخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن مِن حقوق الكبيرِ في السن أن نقدمه في الكلام في المجالس، فقد ورَد في الحديث النبوي الشريف: عن سهل بن أبي حثمة، قال: انطلق عبدُالله بن سهل، ومحيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر، فأتى محيصة إلى عبدالله بن سهل وهو يتشمط في دمه قتيلًا، فانطلق عبدالرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب عبدالرحمن يتكلم، عن ابن عمرَ: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أراني أتسوك بسواك، فناولت السواكَ الأصغرَ منهما، ومن النماذج والأمثلة على ذلك: ما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما، فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبدالله: ووقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: ((هي النخلة))[21]. والتوفيق بالسداد والصلاح، وحثَّ اللهُ عز وجل الأبناء على الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما: ﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24]. عن عبدالله بن بسر: أن أعرابيًّا قال: يا رسول الله، فرُوي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إن لله عبادًا يضِنُّ بهم عن القتل، يطيل أعمارهم في حسن العمل، ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش، لأن مَن طال عمره ازداد علمه وإنابته ورجوعُه إلى الله عز وجل؛ فلما يدنو العبد من الشيخوخة يتوجه إلى الله، وقيل: إن سليمان بن عبدالملك دخل مرة المسجد، ولمَ؟ قال: ذهب الشبابُ وشرُّه، فأنا إذا قمت قلت: بسم الله، وإذا قعدت قلت: الحمد لله، فصور الله عز وجل هذه الأحوال في القرآن الكريم: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ﴾ [الروم: 54]. يعني أن الإنسانَ يمر بثلاث مراحل رئيسية: ضعف، لأنه حالة لا رجاء بعده لإصلاح ما فسد[25]؛ فعلينا أن نراعي صحة كبير السن، فإن هذه المرحلة مِن الحياة مستوجبة للعناية والاهتمام الكبير من الأقارب؛ فإن الضعف يسري ويجري في الإنسان كجريان الدم، بل ضعف قواه أشبه ما يكون بتصرفات الصغير. فمَن لم يستشعر هذا الأمر من الكبير يمل ويسأم منه، فمِن المؤسف جدًّا أن بعض الأقارب والأبناء يذهب بوالده في مرحلة من هذا العمر- الذي يقتضي كثيرًا مِن العناية والإحسان - إلى أماكنِ التأهيل، فعلينا أن نراعي حقوقهم، ولا نتركهم ولا نطرحهم في دور المسنين من غير رقيب ولا رفيق، بل يتعين علينا رعاية حقهم مقابلة الإحسان عندما كنا صغيرين ضعفاء، واهتموا برعايتنا كل الاهتمام حتى كبِرْنا وصرنا شبانًا أقوياء، فأشار إلى حالنا الله عز وجل في كتابه العزيز: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]. حقوق كبار السن على مراتب: يقول الدكتور عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر، وهو يلقي الأضواء على حق كبير السن: "ثم إن هذا الحق يعظم ويكبر من جهة ما احتف به؛ فإذا كان قريبًا فله حق القرابة مع حق كبر السن، فإضافة إلى حقه في كبر سنه فله حق الجوار، فله مع حق كبر السن حق الإسلام، وإذا كان الكبير أبًا أو جدًّا فالحق أعظم، بل إذا كان المسن غير مسلم فله حق كبر السن؛ فلربما تكون رعايتك لحقه سببًا لدخوله في هذا الدِّين في مراحل حياته الأخيرة"[26]. رعاية الوالدين مظهر من مظاهر رعاية المسنين: علينا أن نراعي حقوق الأبوين كبار السن بالرعاية والاهتمام، فلعل رعايتهم تكون سببًا لدخولهم في الإسلام. فقد روى الإمام أحمد بن حنبل هذه القصةَ العجيبة في إكرام كبار السن، قصة والد أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنهما، وإكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم له عند قدومه لقبول الإسلام. جاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ((لو أقررتَ الشيخ في بيته لأتيناه))[27]. فلم يقل: "فعُقَّهما"، كذلك لو كان والد الإنسان تاركًا للصلاة أو فاسقًا يبقى له حق الأبوة وكبر السن، فحسن سلوكنا معه قد يهديه للعودة إلى الحق والصدق والثواب. فكيف إذا كان مسلمًا؟ وكيف إذا كان جارًا؟ وكيف إذا كان قريبًا؟ وكيف إذا كان أبًا وأمًّا؟ فسدت عليهم الغار، فتوسل كل واحد منهم بصالح أعماله، فكانت وسيلة أحدهم قيامه بهذا الحق العظيم، (اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلًا ولا مالًا، وكرهتُ أن أغبق قبلهما أهلًا أو مالًا،