تعد النظرية الوضعية من أهم النظريات السوسيولوجية الكبرى في تاريخ الفكر الغربي، فقد أحدثت قطيعة إبستمولوجية مع التصورات الأسطورية والميتافيزيقية، بتبني التجريب العلمي منهجا في تحصيل الحقائق، وخاصة في مجال علم الاجتماع الذي أصبح علما مستقلا مع إميل دوركايم. تنبني الوضعية على الاختبارات الحسية، والتخلص من اللاهوت والتفكير الميتافيزيقي، وترتكز النظرية الوضعية على مجموعة من المقومات النظرية والمنهجية، كالانطلاق من الإحساس وحده باعتباره مصدرا للمعرفة الاجتماعية؛ والاعتداد بالنموذج الطبيعي على أساس أنه سلطة مرجعية للعلوم الإنسانية؛ وإخضاع الظواهر الاجتماعية للفحص والتجريب والاختبار؛ والقول بشيئية الظواهر الاجتماعية[1]. وقد ينتج عن هذا التطبيق الوضعي المبالغ فيه تضخم في الوثوقية العلمية؛ واختزال الحقيقة الاجتماعية في جوانبها المادية الواقعية؛ وإحلال النسبية محل المطلق في دراسة الظواهر الأخلاقية؛ وإميل دوركايم(Emile Durkheim)، بالمرحلة الوضعية التي تبنت مناهج العلوم الطبيعية أو مناهج العلوم التجريبية في القرن التاسع عشر الميلادي، بالاحتكام إلى الفرضيات، والقيام بكثرة الاختبارات، واستصدار القوانين والنظريات العامة. والاستعانة بالتحقيب التاريخي، كانت العلوم الطبيعية، والكيمياء، مثالا ونموذجا متميزا وصالحا للاقتداء به من قبل السوسيولوجيين الوضعيين. ويعني هذا أن الوضعية كانت نتاج الثورة الفرنسية، وفي هذا، يقول ليفي بريل أن" كونت كان يمثل فلسفة القرن التاسع عشر بأسره، فمن بين جميع المذاهب التي نشأت في فرنسا في القرن التاسع عشر كان مذهب كونت هو المذهب الوحيد الذي استطاع أن يتجاوز الحدود، ويترك أثرا قويا في المفكرين الأجانب. 3]" ويعني هذا أن القرن التاسع عشر هو قرن الوضعية بامتياز، وتجاوز الأسطورة والميتافيزيقا، والاستفادة من مكاسب عصر النهضة من جهة أولى، ومن مقاييس عصر الأنوار من جهة ثانية، التصور المنهجي اعتمدت السوسيولوجيا الوضعية على منهجية التفسير (Explication) في دراسة الظواهر المجتمعية، على أساس ارتبطها السببي والعلٌي. ضمن رؤية تجريبية استقرائية وعلمية، بغية تحصيل القوانين والنظريات، ومن ثم، لذا، تشير كلمة السوسيولوجيا إلى هذا الجانب التفسيري الوضعي، بالربط بين مفهومين متضامين هما: علم ومجتمع. بمعنى أن السوسيولوجيا تدرس الظواهر المجتمعية دراسة علمية موضوعية، وفي هذا الإطار، ببساطة، اعتبار أن ما يسمى بالوقائع الاجتماعية هي وقائع موجودة في الطبيعة. بالتالي، 4]" ويسمى التفسير أيضا بالنسق العليَ أو السببي عند عبد الله إبراهيم في كتابه (علم الاجتماع)، ويعرفه قائلا:" قوام النسق العلي (السببي) تصور علاقة زمنية ثابتة بين الظواهر، بالضرورة، إلى وجود الظاهرة الثانية. كما تشير العلاقة العلية بين ظاهرتين إلى ارتباط ضروري بينهما، بحيث تسبق واحدة منها زمنيا الأخرى. فإن للبعد الزمني أهمية في تحديد العلاقة العلية. ولقد عرف النسق العلٌي تحديا كبيرا مع ثورة الفيزياء الكبرى، وما رافقها من انتقادات وجهت إلى العلاقة العلية التي تسير في اتجاه واحد من العلة إلى المعلول. وبنتيجة الانتقادات انتقلت إلى النسق العلي فكرة الكل والأجزاء، وقد حمل هذا الانتقال معه تصويبا للعلاقة العلية، وما تحدثه النتائج من نتائج في الظاهرة. 5]" فإن المنهج الوضعي يستند إلى التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية. أهم أعلام السوسيولوجيا الوضعية لايمكن فهم السوسيولوجيا الوضعية بشكل جيد ومحكم إلا بالتوقف عند بعض أعلامها البارزين على الوجه التالي: والتقدم، والازدهار، يقول سان سيمون:" إن أكبر وأشرف وسيلة لدفع العلم نحو التقدم هو جعل العالم في إطار التجربة، ولانقصد العالم الكبير وإنما هذا العالم الصغير يعني الإنسان الذي نستطيع إخضاعه للتجربة[7]. ومن جهة أخرى، دعا إلى تطبيق المنهج الفيزيولوجي على علم الاجتماع، وسماه بالفيزيولوجيا الاجتماعية، ويجب أن نسترجع إلى ذاكرتنا الطريق الذي سلكه التفكير الإنساني؛ اتجه منذ هذا القرن إلى الاعتماد على الملاحظة، فأصبح الفلك والطبيعة والكيمياء من علوم الملاحظة)، نستخلص من هذا بالضرورة أن الفيزيولوجيا العامة التي يمثل علم الإنسان الجزء الرئيسي منها، لكن ما العقبة التي تعترض- حتى اليوم- قيام معرفة فيزيولوجية للمجتمعات الإنسانية؟ (إن تلك العقبة تتجلى في الصراع الذي وجد دائما. وأن نقطة البداية في إنشاء هذا العلم هي الفيزيولوجيا الاجتماعية. "[8] وهكذا، هو علم الاجتماع أو ما يسمى عند سان سيمون بالفيزيولوجيا الاجتماعية. وتسعى هذه السوسيولوجيا إلى دراسة الظواهر المجتمعية، بالاعتماد على الملاحظة العلمية، ودراسة الوظائف العضوية التي تؤديها هذه الفيزيولوجيا الاجتماعية. وفي سياق آخر، يقول سان سيمون:" إن القدرة العلمية الوضعية هي نفس ما يجب أن يحل محل السلطة الروحية، ففي العصر الذي كانت فيه كل معارفنا الشخصية حدسية وميتفايزيقية بصفة أساسية كان من الطبيعي أن تكون إدارة المجتمع فيما يخص شؤونه الروحية في يد السلطة اللاهوتية، وبالمقابل عندما تصبح كل أجزاء معارفنا قائمة على أساس الملاحظة، فإن إدارة الشؤون الروحية يجب أن تستند إلى القدرة العلمية باعتبارها طبعا متفوقة على اللاهوتية والميتافيزيقية. "[9] ويعد سان سيمون أول من قدم تصورات علمية حول الظواهر المجتمعية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، طور أوجست كونت تصورات سان سيمون، وعمقها في إطار تصور علمي ووضعي. ويعني هذا أن سان سيمون، هو المؤسس الأول لعلم الاجتماع في مفهومه الغربي. والمراقب الشغوف لثورة يعيش بفضلها، أن الفضل يعود إليه، وليس إلى كونت كما نفعل دائما، بهذا الصدد. والدليل على منظوره الاجتماعي هذه القولة التي تشير إلى الجبرية الاجتماعية، وتبيان دورها في توجيه الأفراد:" من إحدى التجارب الأكثر أهمية التي أقيمت حول الإنسان، هي وضعه في علاقات اجتماعية جديدة، وعرضه على كافة الطبقات، ويعني هذا أن ثمة اختلافا حقيقيا حول المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، وأوجست كونت، وأليكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)[13]، وإميل دوركايم، وعليه، يعد سان سيمون من رواد السوسيولوجيا الوضعية؛ عندما ثار على الفكر اللاهوتي، وتمسك بالعلم في دراسة علم الاجتماع على غرار العلوم الطبيعية. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" إن الوضعية بهذا المعنى المحدد تجد بذورها عند سان سيمون، وإن كان هذا الأخير قد وسع دائرة الوضعية وجعل منها نظرية متكاملة ذات بعد فلسفي تستوعب كل التراث الإنساني في ماضيه وحاضره، وجعل منها منطلقا في التحليل يمتد إلى كل أطراف العلوم الطبيعية منها والاجتماعية والإنسانية. وتكمن العقدة التي وجهت الوضعية في هذه المعادلة البسيطة: أن التفكير الديني ساد في المجتمعات ماقبل العلمية، أما وقد بلغ المجتمع مرحلة الوضعية، ولكن سان سيمون لايقف عند هذا الحد في تبرير قيام التفكير الوضعي، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فهذا التحول ليس ظاهرة تاريخية فحسب يعبر عن المراحل التي قطعها العقل الإنساني، وقد وضع سان سيمون بذرة المذهب الاجتماعي كما بلوره كونت، وعلى هذا الأساس، وهكذا، يرسي سان سيمون علم الاجتماع على المبدإ العلمي الموضوعي والتجريبي، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مستلهما آليات الكيمياء والفيزيولوجيا. يقول نقولا تيماشيف، في كتابه(نظرية علم الاجتماع: طبيعتها وتطورها):"أنكر كونت - بغض النظر- عن تعليمه الرياضي الراقي- إمكان التطابق بين المنهج الوضعي واستخدام الرياضيات والإحصاء. أما دعوى أن المعالجة الرياضية للعلوم الاجتماعية لازمة حتى يمكن اعتبارها علوما وضعية، وتنبعث من تعصب مؤداه أنه لايوجد يقين خارج نطاق الرياضيات. وقد كان هذا التعصب طبيعيا ومنطقيا في الوقت الذي كان فيه كل ماهو وضعي ينتمي إلى مجال الرياضيات التطبيقية، ولايقلا يقينا وضبطا عن العلوم الأخرى. فكيف نستقي المعرفة الوضعية-إذاً- في رأي كونت؟ ذكر كونت أربعة إجراءات هي: الملاحظة، والمقارنة، والمنهج التاريخي، مؤكدا أن الملاحظة أو استخدام الحواس الفيزيائية يمكن تنفيذها بنجاح إذا وجهت عن طريق نظرية، وقد كان كونت مدركا أن التجربة فعليا وواقعيا تكاد تكون مستحيلة في دراسة المجتمع. كما أكد إمكانية عقد المقارنات التي تعيش معا زمنا بعينه، وبين الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد. أما المنهج التاريخي، كما تبدى ذلك في قوانين المراحل الثلاث، ولايشترك منهج كونت التاريخي إلا في القليل من نواحيه مع المناهج التي يستخدمها المؤرخون الذين يؤكدون العلاقات السببية بين الوقائع الملموسة، اعتمادا على الملاحظة، وكان يفسر ظواهر الطبيعة وفق قوى خفية مصدرها الأرواح، والشياطين، والآلهة. ولم يكن هناك أدنى اعتراف بالحتمية التجريبية أو العلمية، واستخدام العقل والمنطق، والاستدلال البرهاني، والحجاج الجدلي. وظاهرة الاحتراق بإله النار. - المرحلة الوضعية: في هذه المرحلة، وبلغ درجة كبيرة من الوعي العلمي، إذ أصبح التجريب أو التفسير منهج البحث العلمي الحقيقي، وهي نهاية تاريخ البشرية. وتوافق كل مرحلة من هذه المراحل تطور الإنسان من الطفولة حتى الرجولة؛ إذ تتوافق المرحلة اللاهوتية مع مرحلة النشأة والطفولة؛ وتبقى هذه الصيرورة التاريخية صيرورة نسبية وإيديولوجية؛ فنجد اهتماما كبيرا بالفكر الوضعي التجريبي. وفي الوقت نفسه، ثم، مثل: السريالية، والفرويدية، وقد أسس كونت الفيزياء الاجتماعية، ثم تمثلته الثقافات الكونية الأخرى. وفي هذا، يقول كونت:" لدينا الآن فيزياء سماوية، وفيزياء أرضية ميكانيكية أو كيماوية، ذلك العلم الذي يتخذ من الظواهر الاجتماعية موضوعا للدراسة باعتبار هذه الظواهر من روح الظواهر العلمية والطبيعية والكيميائية والفسيولوجية نفسها من حيث كونها موضوعا للقوانين الثابتة[18]". كدراسة النظم الاجتماعية الجزئية (النظام الأسري، والنظام السياسي، علاوة على ذلك، والكيمياء، فالرياضيات مفتاح العلوم جميعا. أما علم الاجتماع، و" تلك حقيقة، فقد توصل إليها اليونانيون، ثم تلاها علم الفلك الذي ظهر على يد كوبنرك وكبلر وغاليلو، ثم علم الأحياء في القرن التاسع عشر عند بيشات (Bichat) وغيره، وأخيرا علم الاجتماع في القرن التاسع عشر على يدي أوغست كونت. "[19] ويلاحظ أن أوجست كونت قد صنف العلوم من المجرد(الرياضيات) إلى المحسوس العياني (علم الاجتماع). ووسع النظرية الوضعية لتشمل العلوم الطبيعية والإنسانية. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" مد الروح الوضعية إلى كل مجالات التفكير: الطبيعية والإنسانية، وليست هذه الصعوبات من النوع الذي يصعب التغلب عليه في نظر الوضعية، فقد خضعت العلوم الطبيعة للنظام الوضعي، وحققت في ذلك نجاحا باهرا بعد أن أخرجها من أسر التأملات اللاهوتية والأوهام الميتافيزيقية، وتلك هي مهمة كونت: تحرير الدين والأخلاق والاجتماع. لتصبح في أول مرة في تاريخها علوما يقينية تخضع للملاحظة والتجربة وكشف القوانين التي تخضع لها في صيرورتها وتطورها تماما. كما تم الكشف عن القوانين التي تخضع لها العلوم الطبيعية، بعد أن يصبح التفكير الإنساني موحدا لايقتصر على جانب دون آخر. "[20] وعرف المجتمع انقساما وتفككا وتصدعا وفوضى عارمة. حاول كونت أن يوفق بين النظام والتقدم، ورغبات البورجوازية التي كانت تناصر الثورة. جاءت الوضعية للدفاع عن النظام والتقدم، وتوظيف العلم لتحقيق أمن المجتمع وسلامته. بل استخدمه سلاحا إيديولوجيا ليس إلا. تقول وسيلة خزار:" وعلى الرغم من إيمان كونت بالمنهج الوضعي، وعن رسم السياسة العليا له، على أساس أن هذه الوظيفة هي وظيفة علماء الاجتماع وخبراء التنظيم؛ فهذه الصفوة هي السلطة النهائية القادرة على رسم الطريق الصحيح لتحسين حالة أبناء الطبقات الدنيا، وهكذا، فهي تحيز واضح إلى ماهو محافظ وساكن وثابت، بيد أنها تقبل الإصلاح. والإيجاب هنا يعني قبول الأوضاع الراهنة، بل التغيير، ولكن ذلك كله كان يجب أن يتم في إطار ماهو قائم وما هو موجود، "[22] فلقد اهتمت الوضعية، عند أوجست كونت، بدراسة الظواهر النسبية غير المطلقة، بالتوقف عند العلاقات الثابتة بين الوقائع والظواهر، ومن السباقين إلى الأخذ بمنهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، مع الاعتماد على مجموعة من الخطوات العلمية، مثل: الملاحظة، والمقارنة، والتاريخ. إميل دوركايم ومن ثم، كما يظهر ذلك جليا في كتابه (قواعد المنهج في علم الاجتماع). فقد أرسى دوركايم علم الاجتماع على مجموعة من القواعد، مثل: ملاحظة الظواهر المجتمعية على أساس أنها أشياء أو موضوعات مادية، وفي هذا النطاق، ويجب أن تدرس كأشياء. لأن كل ما يعطي لنا أو يفرض نفسه على الملاحظة يعتبر في عداد الأشياء. وإذاً، إن هذه القاعدة تنطبق على الواقع الاجتماعي برمته وبدون استثناء. وتصنيفها، وتفسيرها. وتتمثل القاعدة الرابعة في دراسة الظواهر المجتمعية التي تتميز بالتكرار، والعمومية، والجبرية، بملاحظتها خارجيا، بعيدا عن العوامل الفردية والسيكولوجية. والقاعدة الخامسة هي التفريق بين الظواهر المجتمعية السليمة وبين الظواهر المجتمعية المعتلة. والقاعدة السادسة هي تصنيف المجتمعات من حيث البنية والوظيفة. هذا، وقد تبنى دوركايم منهج التفسير في دراسة الظواهر المجتمعية، بالتشديد على العلاقة السببية بين الظواهر المرصودة. يقول دوركايم: " فكل ما يطالب به هذا العلم هو أن يعترف الناس بأن قانون السببية يصدق أيضا على الظواهر الاجتماعية. بل يقرره فقط على أنه فرض تجريبي أدى إليه استقراء مشروع. فإنه لما ثبت صدق قانون السببية في نواحي الطبيعة الأخرى، ومن هذا العالم الأخير إلى العالم النفسي حق لنا التسليم بأنه يصدق أيضا على العالم الاجتماعي. وإن وجدت لديهما على صورة مختلفة بعض الشيء. على إبعاد الذاتية، واستعمال التجريب، وتكرار الاختبارات، والاحتكام إلى الجبرية الاجتماعية التي تستند إلى الحتمية، والعمومية، والضغط الخارجي، والابتعاد عن التصورات المسبقة، ولاتتتضمن أي نظر تأملي في كنه الموجودات. حينما ينخرطون في استكشاف منطقة مجهولة عن ميدانهم العلمي. فعلى عالم الاجتماع، وعليه، أن يشعر بأنه، أيضا، إزاء وقائع غير منتظرة مثلما كائن عليه وقائع الحياة، "[26] يقوم التصور الوضعي عند دوركايم على التخلص من الخطاب التأملي الذاتي والفلسفي، والملاحظة الخارجية الدقيقة، أو الارتكان إلى الخطوات المنهجية التالية: التعريف بموضوع الدراسة، وتنظيم الوقائع في ضوء استكشاف العلاقات التي تتحكم في المتغيرات المستقلة والتابعة، وعليه، يعتمد الموقف الوضعي على منهجية استقرائية تجريبية، وينطلق من مشكلات اجتماعية، وفرضيات علمية، والاستعانة بالتجريب التكراري والترابطي، واستخلاص القوانين والنظريات. وفي هذا، يقول السوسيولوجي الفرنسي كلود بابييه (Jean Claude Babier):" إن السوسيولوجيا هي علم، لأن من يمارسون البحث السوسيولوجي يسعون إلى القيام به بروح علمية. فالسوسيولوجيا تسعى إلى تحديد الثوابت والقواعد التي تتمفصل ضمن نظريات أو أبنية نظرية. وتفسير الظواهر الاجتماعية يتم بالاعتماد على نظريات تشكل أنساقا وأبنية تقوم على قضايا منظمة بشكل عقلي. وتتطور تبعا لمقابلتها بوقائع ومعطيات اختبارية أو تجريبية. كما تقوم تلك النظريات على مسلمات، أي على جملة من القضايا الأساسية غير مبرهن عليها، وتعتمد نموذجين نظريين أساسيين: المسلمة الثانية: يشكل مجموع الوقائع الاجتماعية (المجال الاجتماعي) مجالا خارجيا بالنظر إلى الفرد. المسلمة الثالثة: ينطوي تنظيم الوقائع الاجتماعية على معنى يجري كشفه عن طريق تطبيق مناهج الفكر العلمي. "[27] وينطلق إميل دوركايم، في كتابه (الانتحار)[28]، من نتيجة أساسية، وهي أن الانتحار ليست ظاهرة نفسية أو عضوية، بل هي ظاهرة مجتمعية، يتحدد معدل الانتحار بحسب درجة اندماج الأفراد في الجماعة، فقد رفض التفسير الفردي والاجتماعي للظاهرة الدينية، يمكن دراستها دراسة علمية موضوعية، وقد توصل في كتابه إلى أن التدين ظاهرة جماعية؛ ومن ثم، فالدين هو المجتمع نفسه. ويعني هذا أن المجتمع هو الذي يولد طبيعة التفكير الديني لدى الفرد. يترادف الدين مع المجتمع. ومن ثم، فالدين هو مجموعة من المعتقدات والممارسات المرتبطة بالمقدس، وتتميز بطابعها الروحاني المجرد. فقد قام دوركايم بدراسات إثنولوجية تخص قبائل بدائية بأستراليا، وقبائل الهنود الحمر بأمريكا. ومن ثم، توصل إلى ماهو مشترك في سلوكياتهم الدينية، والذي يتمثل في المقدس أو الطاقة العقائدية التي تسمى بالمانا. ويعني هذا كله أن المعبود والمقدس هو المجتمع. وفي هذا، فالوضعية العلمية تقتضي تطبيق القواعد المنهجية الصارمة. ولذلك، فهو لايرى سبيلا إلى الدراسة الموضوعية للظاهرة الدينية إلا بالتعرف على أشكالها الأولية وكيفية نشأتها عند الشعوب البدائية، وهي الدراسة التي سجلها في كتابه الضخم عن الصور الأولية للحياة الدينية. لقد اتجه دوركايم إلى العشائر الأسترالية باعتبارها شعوبا بدائية تمثل صورة المجتمع البدائي الذي لايزال يحتفظ بالمظاهر الدينية الأولى، وقد اعتقد دوركايم أنه وجد الصورة الأولى للنظام الديني في عبادة الطوطم، وهو رمز تتخذه الجماعة أو العشيرة لنفسها، فهي تتجه في الواقع عن طريقه إلى العشيرة نفسها أي عبادة نفسها، والعاطفة الدينية مجرد صورة مجسدة من العاطفة الاجتماعية. ولكن نذكر فقط أن الثابت هو أن النظام الطوطمي ليس نظاما دينيا كما أكد ذلك عالم الاجتماع الديني روجي باستيد، ولكن ذلك لم يمنع دوركايم من تشييد نظريته العلمية في دراسة الظاهرة الدينية، ولم يمنعه من أن يقرر أن الله هو المجتمع نفسه، وله كل خصائص الألوهية. ويلزمنا بالتوافق مع مصالح أخرى غير مصالحنا، وهو الذي علمنا كيف نسيطر على شهواتنا وغرائزنا، وأن نضع لها القوانين، "[30] وقد تأثر موس (Mauss) بإميل دوركايم في دراسة الظواهر الدينية، بالاعتماد على المقترب السوسيولجي في" دراسة لم يكملها خصصها لدراسة ظاهرة الصلاة، وقد عمد إلى الدراسة الوراثية أو التطورية التي تقوم على تتبع الظاهرة في تسلسلها التاريخي، وذلك كطريق وحيد للوقوف على حقيقتها وأصولها وكيفية تطورها. "[31] أما عن الخلفيات الإيديولوجية لوضعية دوركايم، ومحاربة اللاهوت باسم العلم والتجريب والعقل. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" أما دوركايم، فإن عمله سينطلق من حيث انتهى أستاذه، فهو دخل في صراع حاد مع النظام الديني، ولكنه كان صراعا عمليا أكثر منه نظريا، وركز على ترجمة المبادىء النظرية الوضعية إلى خطة عملية أو مشروع تربوي شامل ينتهي به إلى علمنة المجتمع فردا وجماعة وسلوكا. فما كان يقرره دوركايم ليس مجرد إحساسات أو خواطر، نجد المؤرخين لعلم الاجتماع يقررون أن عمل دوركايم يعتبر في الحقيقة أكبر مجهود مذهبي عمل على تحرير علم الاجتماع من اللاهوت والفلسفة والسياسة. وإنه أراد في نهاية الأمر أن يقلب الأدوار وتجد في علم الاجتماع التفسير الوحيد لعلم اللاهوت والفلسفة. وقد استطاع دوركايم أن يقلب الأدوار فعلا فقد أصبح علم الاجتماع معه يقوم بدور التوجيه العلماني لكل المؤسسات التي كانت خاضعة للتوجيه الديني. "[32]