وما ذاك إلا لأن الحكم على مكانة الشاعر كان يتصل بما قد يبتكره من المعانى أو يتبع فيه سواه بصورة ما ، فيذا كله يمهد لتعريف النقد ويبسر علينا فهم ما يقال فيه . تنفى يداها الحصى فى كل هاجِرة نَفّىَ الدراهيم تنقادُ الصياريفِ (١) فبذا المعنى اللغوى الأول يشير إلى أن المراد بالنقد التمييز بين الجيد والردىء من الدراهم والدنانير ، وهذا يكون على خبرة وفهم وموازنة تم حكم سديد . معناه إن عبتهم واغتبتهم قابلوك بمثله . ١) فى وصف ناقة ، معنى تعقب الأدباء والفنيين والعلماء والدلالة على أخطائهم وإذاعتها قصد التشهير أو التعليم ، وشاع هذا المعنى فى عصرنا هذا ، وقديما ألَّف أبو عبد اللّٰه محمد بن عمران المرزيانى المتوفى سنة ٣٨٤ ه كتابه ( الموشَّح ) فى مآخذ العلماء على الشعراء ضمنه ما عيب على الشعراء السابقين من لفظ أو معنى أو وزن أو خروج على المألوف من قوانين لنجو والعروض والبيان ، أما المعنى اللغوى الأول فلعله أنسب المعانى وأليقها بالمراد من كلة النقد فى الاصطلاح الحديث من ناحية وفى اصطلاح أكثر المتقدمين من ناحية أخرى . فان فيه كما مر معنى الفخص والموازنة والمييز والحكم . فالنقد دراسة الأشياء وتفسيرها وتحليلها وموازنتها بغيرها المشابهة لها أو المقابلة ، وفى العلوم والفنون وفى كل شء متصل بالحياة . وقد رأينا السابقين الذين كتبوا فى النقد العربى أميل إلى حمل لفظ النقد على هذه المعانى المتواصلة ، والتنبيه على الجيد المقبول والردىء المنبوذ إلى نحو ذلك مما هو إيضاح وعرض ثم تفسير وموازنة ثم أحكام ونصائح أو قوانين نافعة فى فن فن الأدب منظوماً ومنثوراً . فهو عندهم التقدير الصحيح لأى أثر فى وبيان قيمته فى ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه . سواء أ كان موضوعه أدباً أم رسما أم تصويراً أم موسيقا (١) فالنقد الأدبى فى الاصطلاح هو تقدير النص الأدبى تقديراً صحيحاً وبيان قيمته ودرجته الأدبية . ثم يتقدم لفهمه وتفسيره وتحليله وتقديره ، والحكم عليه بهذه الملكة المهذبة أو الملهمة التى تكون لملاحظاتها قيمة ممتازة وآثار محترمة . أما القدرة على إنشاء الأدب أو تذوقه فليس فى مكنة النقد خلقهما من العدم وإن كان يزيدها تهذيباً ومضاء . على أن هذه الملكات الثلاث - إنشاء الأدب وتذوقه ونقده - قد توجد معاً متجاورة متعاونة فى نفس الأديب الموهوب . ٢) يدل هذا التعريف على أن الغرض الأول من النقد الأدبى إنما هو تقدير الأثر الأدبى ببيان قيمته فى ذاته قياسا على القواعد أو الخواص العامة التى يمتاز بها الأدب بمعناه العام أو الخاص . وأما القول فى درجته بالنسبة لغيره فهو فى المنزلة الثانية . وقلما نجد منهم طائفة بينها مشابهات تسمح بعقد هذه الموازنة التى تحدد براعاتهم المتقابلة. معنى ذلك أن كلا منهم يفضل زميلية ببعض الصفات اللفظية أو المعنوية أو الموضوعية فى حين أنك قد لا تجد بينهم من وجوه الاتفاق مايكفى لعقد موازنة صالحة . وعلى النقد توضيح الميزات الجوهرية لتفوق كل شاعر ، فيساعدنا بذلك على تقدير كل منهم تقديرا أقوم وأهدى سبيلا . ٣) ومهما تكن وظيفة النقد وغايته التى يعمل لتحقيقها فلا بد للناقد أن يكون ثاقب النظر ، مهذب الذوق قادرا على المشاركة العاطفية مع الأديب والبراءة من المؤثرات التى تفسد عليه أحكامه كما يحرفيما بعد ، والتمرس بالأدب ، وحسن فهمه وتعمقه إلى أبعد غاية ، ليتيسر له الإنصاف والحكم الصحيح : وقد استطاع يوب ( Pobe) أن يرد المصادر الرئيسية التى يستقى منها النقد إلى مراجع ثلاثة (١) وهى فكرة الطبيعة ولا بد من الرجوع إلى الثلاثة جميعا . وليس معنى هذا أن الأديب مطالب بأن يكون موزعا بين هذه الثلاثة لأن سلطان كل من هذه المراجع مثبت لسلطان الآخرين ، وليس هناك خلاف بين الطبيعة وبين الشعر القديم ، فان موضوع النقد الأدبى هو الأدب نفسه أى الكلام المنثور أو المنظوم الذى يصور العقل والشعور يقصد إليه النقد شارحا ، يعين بذلك القراء على الفهم والتقدير ويشير إلى أمثل الطرق فى التفكير والتصوير والتعبير . وبذلك يأخذ بيد الأدب والأدباء والقراء إلى خير السبل وأسمى الغايات . والنقد يقوم على ركنين مباشرين الناقد والمنقود ولما كان للذوق الأدبى دخل قوى فى باب النقد الأدبى ناسب أن نفرد