ما معنى الاستشراق؟ ومن المفيد أن يعرف القارئ الكريم أن مصطلح (الشرق) يرجع في أصل وضعه إلى مفكري الغرب، فهم الذين قسموا العالم إلى شرق وغرب، ويطلق لفظ الشرق عادة على المنطقة العربية وشعوب آسيا وأفريقيا، أو دول الشرق. والذي يهمنا هنا بالدرجة الأولى هو ما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط فقط أو المنطقة العربية بالذات، ولا يمثل ذلك هدفًا لنا الآن، كما أن دراسات المستشرقين المتعلقة بشعوب العالم الإسلامي من غير العرب كالهند وباكستان وإندونيسيا ودول شرق وجنوب شرق أسيا وأفريقيا، كانت في معظم أحوالها تسير على المنهج نفسه والطريقة نفسها التي كانوا يسلكونها في منطقة العالم العربي، وكان الهدف من محاولات المستشرقين وجهودهم في الدراسات التي قاموا بها في هذه المناطق كلها هو تطويق المد الإسلامي والعمل على انحساره ووقف نموه المطرد بين أبناء هذه الشعوب المتباعدة وإن كانت أعمالهم تبدو في معظم أحوالها في ثوب علمي أو أكاديمي، فإن ذلك ينبغي ألا يحجب عن أعيننا نياتهم الخفية التي صرح بها معظمهم في المؤلفات والمؤتمرات العلمية التي كانت تعقد بين الحين والحين لهذا الغرض. علاقة الاستشراق بالحروب الصليبية: ولا بد من التفكير عن وسيلة أخرى -ربما كانت طويلة الأجل- تحقق لهم هدفهم من السيطرة على شعوب المنطقة وإخضاع العالم الإسلامي لنفوذهم الثقافي والحضاري ثم السياسي والاقتصادي، وإذا كانت فكرة السيطرة على العالم الإسلامي تمثل الهدف والغاية من نشأة الاستشراق، وإنما كان سببه يرجع إلى حظ المستشرق نفسه من الثقافة العربية ودرجة إتقانه لها، وذكائه في أسلوب التعبير عن غايته وهدفه، تصريحًا أو تلميحًا. ولقد تغير أسلوب المواجهة بين العالم الإسلامي والغرب بعد الحروب الصليبية؛ فلسفته وعلومه، ومحاولة فهمها وتحليلها تحليلا نفسيًّا لمواجهتها بأسلوب يختلف تمامًا عن المواجهة العسكرية. بداية الاستشراق وأسبابه: 1 - لا نستطيع الجزم بتحديد أول شخص نبتت في ذهنه فكرةُ الاستشراق وغزو الشرق من الداخل، إلا أن معظم المحققين لهذه المسألة يكادون يجمعون على أن بداية هذه الحركة نشأت في نهاية القرن العاشر الميلادي وأوائل القرن الحادي عشر بفرنسا، وأن الراهب الفرنسي (جرير دي أولياك 938 - 1003م) كان من أوائل المشتغلين بعلوم الشرق، إذ رحل من فرنسا إلى أسبانيا مهد الحضارة الإسلامية في وقته، وكانت الأولى في روما مقر البابوية، ولم تكن تعرفه حتى نقله إليها (جرير دي أولياك) من اللغة العربية إلى اللغة اللاتينية. 2 - ثم جاء بعده (قسطنطين الأفريقي 1087)، إذ أنشأت الحكومات الأوربية في جامعاتها أقسامًا متخصصة لتدريس اللغة العربية وعلوم الشرق. ويرى كثير من المؤرخين لحركة الاستشراق أن هذا المؤتمر هو البداية المنظمة وشبه الرسمية للاستشراق، ب - الدوافع والأهداف: مما لا ريب فيه أن الحروب الصليبية قد تركت آثارها السيئة على نفسية الغرب، لكنها في الوقت نفسه قد فتحت أعين الغرب على الشرق وما فيه من علوم ومعارف وحضارة، وأن تعيد النظر في المفاهيم الدينية التي تتعامل بها مع العلماء، ونستطيع أن نوجز أهم هذه الدوافع فيما يلي: 1 - أسباب دينية: وذلك نظرًا لاتساع نشاطه وتعدد أهدافه، ولكن الذي لا أشك فيه هو سيطرة السبب الديني على سائر أسبابه الأخرى، فتخصص الكثير منهم في تراث ابن عربي وابن سبعين والحلاج وذي النون المصري، أ - وهذا الهدف قد أعلنه المستشرقون قديمًا وحديثًا، ولم يجدوا في ذلك حرجًا ولا عيبًا، بل صارت في صدر الإسلام وكبده. ولا يزال الهلال (الإسلامي) ينتهي طرفاه من جهة بمدينة القسطنطينية ومن جهة أخرى ببلدة فاس في المغرب الأقصى معانقًا بذلك الغرب كله. ثم يعلن "هانوتو" صراحة أنه لا بد من العمل على إضعاف هذه الروح السائدة التي تحرك المسلمين من سباتهم. من الحجر الأسود. وحققوا بأنفسهم أمنيتهم العزيزة التي استحثتهم على ترك بلادهم في أقصى مدن العالم للفوز بجوار الخالق في بيته الحرام تشتعل جذوة الحمية الدينية في قلوبهم. إن رابطة الإخاء الجامعة بين أفراد المسلمين كفيلة بأن تجعل المسلم في شرق الأرض يهب لنصرة المسلم في غربها فهي عامل مؤرق لفرنسا في المستعمرات التي تخضع لها. وما كتبه "هانوتو" صرح به غيره. إذ وصف الرسول ووصف الإسلام بصفات يخجل القلم عن تسطيرها. إن هذه النيات التي عبرت عنها نصوص أصحابها - وغيرها كثير - تجعلنا نثق في صدق سيطرة السبب الديني وهيمنته على الأسباب الأخرى، فمن دارس للعقيدة وأصولها، لا نريد أن نرسل إلى الشرق جنودًا مسلحين، إذ التقت أهداف الاستشراق والتبشير في العمل على بذر الشكوك حول عقيدة المسلم ورسوله، ليخرجوا المسلم عن دينه إن استطاعوا، فإذا عجزوا عن تحقيق هذا الهدف فلا أقل من أن يتركوه بلا دين ولا عقيدة كما صرح بذلك "زويمر"، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة/ 120]. 2 - أسباب استعمارية: بل إن الأمل في السيطرة عليه وتخليصه من أيدي المسلمين، ولذلك فإن الحملات الصليبية تكررت كثيرًا على بيت المقدس لتحقيق هذا الهدف، وكان من الوسائل التي سلكها الغرب لتحقيق هدفهم محاولة دراسة ما يتعلق بشؤون البلاد وأحوال الناس فيها، قابليته للاستعمار بأشكاله وأساليبه الحديثة والمعاصرة. حتى إذا فقد المسلم ثقته في نفسه أخذ يبحث له عن هوية وانتماء يعيد به ثقته في نفسه ويجد فيه الأمان المفقود، وظهرت مصطلحات: التنوير، ب - وضع مفاهيم جديدة وطرحها على الرأي العام من خلال أجهزة الإعلام التي نجح الاستعمارُ في استقطاب كثير من العاملين بها ليقوموا نيابةً عنهم بهذه المهمة، بقصد إضعاف روح الانتماء الإسلامي والعربي، فطرحوا الفكر القومي بدلا من الانتماء الإسلامي، فعملوا على إحياء الفرعونية في مصر، والفينيقية والآشورية في بلاد العراق والشام، ولقد روج المستشرقون ومن سار في ركبهم لهذه الروح الجاهلية التي كان القضاء عليها هدفًا من أهداف الإسلام وحل عقد الأمة بالقضاء على الخلافة العثمانية التي كانت رمزًا حيًّا لهذه الوحدة الإسلامية. واحتل الحديث عن القوميات مكان الصدارة بدلا من الحديث عن الانتماء الإسلامي والإخاء في الدين، وكان له ما أراد بعد أن مهد الاستشراق له بخلقه روح القابلية للاستعمار وإضعافه روح الانتماء الديني بين المسلمين. 3 - أسباب اقتصادية: كانت - وما زالت - ثروات الشرق وخيراته إحدى الأهداف التي سعى الغربُ للسيطرة عليها ووضعها تحت يده، ولذلك فقد أنشئت الأسواقُ التجارية والمؤسسات المالية، وكان الحصول على هذه الثروات بأبخس الأثمان دافعًا قويًّا لحركة الاستشراق، ومن هنا أرسلت المؤسسات المالية المادية في الغرب من يتولى إدارة شؤونها في الشرق؛ 4 - أسباب سياسية: بعد حركة التحرير التي سادت شعوب المنطقة العربية حرَص الاستعمار على أن يكون له بين هذه الشعوب من يتولى تنفيذ مخططه والقيام على شؤون مصالحه، وكان المستشرقون من أهم العناصر التي قامت بهذه المهمة، وكان من أهم أعمالهم أن اتصلوا بكثير من المشتغلين بالثقافة والتعليم والإعلام في هذه المنطقة ليكونوا منهم ما يمكن أن نسميه بالطابور الخامس ليتولى نيابة عنهم نشرَ الأفكار التي يرغبون في إشاعتها بين الشعوب العربية؛ وكثيرًا ما كانت تقع الاضطرابات السياسية والانقلابات العسكرية، وكثيرًا ما كانت تتغير المناهج الدراسية والبرامج الثقافية في كثير من البلاد استجابةً لمصالح الغرب وتلبية لرغبة هؤلاء العلماء في البلاد الإسلامية، خاصة إذا عرفنا أن هذه الشخصيات كانت تتولى مناصب قيادية في أجهزة الحكم في بلادهم وبالذات في المجالات الثقافية والإعلامية والتربوية، وهذا لم تسلم منه بلد إسلامي تقريبًا، 5 - أسباب علمية: وهذا عدد قليل إذا قيس بأعداد المستشرقين الآخرين،