بين كلمة دبّابة التي تحيل بالضّرورة إلى مكان تقف فوقه تلك الآليّة العسكريّة، وكلمة ميلاد التي تبشر بالحياة وتحيل إلى زمان يحدث فيه، من حكايات الحبّ التي تبدأ مع نهاية الحرب العالميّة الأولى وعودة إسكندر عام 1942، ومجيء المحتلّ ودوافع استيطانه وخلفيّاته النفسية والتاريخيّة، يوثّق إبراهيم نصرالله ما شهدته بيت ساحور الفلسطينيّة على امتداد خمسة وسبعين عاماً من الاحتلال. لكن بعد أن تهبّ المدينة كلّها ستعي أنّ القصص التفصيليّة ليست إلّا تفاصيل تجعل من المسرح الحكائيّ مساحة قادرة على استيعاب شعب بأكمله، فالبطل الحقيقيّ هو المدينة بكلّ ما فيها. فالمخرج الفلسطينيّ عامر الشّوملي بالتّعاون مع المخرج الكنديّ بول كوان، عملا على توثيق العصيان المدنيّ أواخر الانتفاضة في فيلمه "المطلوبون الـ 18" والذي رشح لنيل جائزة أوسكار عن فئة الفيلم الأجنبيّ لعام 2016. لم يكن المكان في الرّواية عنصراً من عناصر الدّيكور، فهي لا تحلم بمكان آخر، إنما تحلم بالمكان خالياً من كابوس وجود قيم الآخر الذي يقتل الحاضر ويحاصر حياتها. إذاً في بيت ساحور دبّابة تحاصرها وتمنع عنها الحياة وعلى هذا الأساس ينبني الصّراع. وهكذا فإن المكان الذي من المفترض أنّ وجود الإسرائيليّ فيه قد حوّله إلى سجن، وكلا القسمين يواجه الآخر بشراسة ترغب في الانتصار ومحو الآخر. مقارنة بما كتب في الرّوايات العربيّة الحديثة عن المدن، خاصّة تلك الرّوايات التي تحدّثت عن المدن بعد أو خلال الحروب، تبدو بيت ساحور مدينة من نوع آخر، فلا حنين مرضيّاً يجمعها بأهلها، ولا مشاعر سلبيّة تربطهم بها، فهم لا يرغبون بغيرها، إنما هي وفي أحلك أوقاتها أمانٌ مطلق يتمكّنون من التنقل فيها رغم الحصار ومنع التّجوّل بطرق سلسة وخفيّة تستعصي على فهم المحتلّ، ما يشير إلى أمرين: الأوّل كونها تمثّل المكان المغلق الاختياريّ، ولعلّ هذا يشبه اسمها بيت ساحور "فحين نتذكر البيت والحجرات فإنّنا نعلم أنّنا نكون داخل أنفسنا"[3] وهذا لو نظرنا إلى واقعها المحتلّ يخلق مفارقة نوعيّة، فهي لم تتحوّل بالنسبة إلى أبنائها إلى مكان للتشرذم والضّياع والألم، فبيت ساحور ظلّت في الرّواية المكان المأساة بالنسبة إلى داود وجنوده، عانوا فيه من القلق والضّياع والسخرية فكأنهم أوجدوا فيها لأنفسهم كمحتلّين جحراً منغلقاً، يمكن النظر إلى المونولوج السّوداويّ الذي ظالما حدّث به الكابتن داود نفسه، والذي يختصر حال اليهود المحتلّين الذين باتت فلسطين بيتاً لعزلتهم عن العالم، يؤكّد ذلك أنّ المكان حين ينفتح على الشّوارع أو السّاحات العامّة، تراه يبقي على أمان الفلسطينيين، هي ليست عنده إلّا شبحاً لأحلام أجداده الذين جاءوا محتلّين (داود وجدّه) وفريق يراها أرض ميعاده وجنّته (إسكندر وأولاده وأهل المدينة)، وبذا تغدو المدينة مسرحاً لأزمة إنسانيّة تبحث عن حلّ في ضمير البشريّة، هكذا تعبر الزّمن لتتصل بالمعنى الوجوديّ الإنسانيّ المتعلّق بالحقّ والخير والجمال والحريّة والعدالة، كمعانٍ إنسانيّة عامّة يستحقها جميع البشر على اختلافهم. كمدينته بتفاصيل أيّامها مع الاحتلال، ففيما تعبر بيت ساحور الزّمن، بما تشهده من قسوة محتلّها، هي تقف ساعتها لموقف أيديولوجيّ وجوديّ، كما حرص على توثيق ما حصل في حصار بيت ساحور حين رفض الأهالي دفع الضّرائب، فأين اختلف ما كتبه عن أيّ توثيق صحفيّ؟ محاولة للهرب من الإطار التوثيقيّ، إذ إنّ مهمّته حصر الحاصل وتحديده، وما انتهاء الرّواية بعزف مارتا رغم تقدّمها في العمر، إلّا خروج عن المألوف وهذا ما يفعله العمل الفنيّ. استطاع نصرالله أن يحبك قصته، مستعيناً بما بات يتقنه من تقنيات السّرد التي تمثلت بالاختصار أحياناً، رغم صعوبة المهمّة، كما في أعمال أمين معلوف، محاولات لجمع التناقضات الحضاريّة وفتح حوارات ثقافيّة حول الهويّة، لكنّنا في رواية دبّابة تحت شجرة عيد الميلاد، قادر على العبور باللحظة التاريخيّة الصّعبة إلى مآل من نوع آخر… ربّما يشبه الموسيقى لا يمكن احتجازها من قبل دبّابة عاجزة تقف تحت شجرة الميلاد.