ضاق المشركون في مكة بالنبي صلى الله عليه وسلم ودعوته للدين الجديد الذي جاءهم به، إذ لم تنفع معه وسائل الترهيب والترغيب، كما فشلت أساليبهم في الإيذاء والتعذيب، ورأوا بأعينهم انتشار الإسلام في مكة، وعلموا بما تم بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة المنورة من البيعة على النصرة والإيمان، وتواعدوا فيما بينهم على أن يلتقوا في دار الندوة، وقد عزموا على اتخاذ قرار حاسم بشأن النبي صلى الله عليه وسلم. على أن يتولى القيام بذلك المنكر العظيم فتية من القبائل جميعا، ليتفرق دمه بين القبائل، ويعجز بنو هاشم عن قتال العرب كلهم أخذا بثأرهم، وحاصروا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم وسيوفهم في أيديهم، يترقبون خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه. ولم تكن قريش تعرف أن الله عز وجل أذن لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة، ومن ثم كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج مهاجرا من وسط هذا الحصار وهذه المؤامرة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن ينام في مكانه، وقال له مطمئنا ـ كما ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، وأوصاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس، وخرج رسول الله وهو يعلم مكان المتربصين به وما جاءوا من أجله، وقد أنزل الله تعالى عليه بعد قدومه المدينة المنورة قوله سبحانه: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}(الأنفال:30)، قال السعدي: "{إذ يمكر بك الذين كفروا} حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن يقتلوه فيستريحوا ـ بزعمهم ـ من شره، فكل أبدى من هذه الآراء رأيا رآه، فاتفق رأيهم على رأي: رآه شريرهم أبو جهل لعنه الله، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، فيرضى بنو هاشم ثم بديته، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش، فترصدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في الليل ليوقعوا به إذا قام من فراشه. وأذن له في الهجرة إلى المدينة، بعد أن خرج مستخفيا منهم، وقد ذكر ابن هشام في السيرة النبوية، وابن سيد الناس في عيون الأثر، وأبو نعيم والبيهقي في دلائل النبوة، ما دار من حوار بين المشركين في هذه المؤامرة، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (أن نفرا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فلما رأوه قالوا له: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، قال قائل منهم: أخرجوه من بين أظهركم، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، قال: فقالأبو جهل ـ لعنه الله ـ: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، قالوا: وما هو؟ قال: تأخذون من كل قبيلة غلاما شابا وسيطا نهدا، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فما أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، وكانت هذه الواقعة في العام الثالث عشر من البعثة النبوية، إذ أن الهجرة النبوية كانت في السنة الثالثة عشرة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأربعين سنة، ثم أمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين) رواه البخاري. من دلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم وخصوصياته: عصمة بدنه الشريف من القتل، والأمثلة من سيرته وحياته التي تدل على ذلك كثيرة، ومنها هذه المؤامرة التي دبرها زعماء قريش في دار الندوة قبل هجرته إلى المدينة المنورة،