وانب من الحياة الثقافية في الجزائر فترة الاستعمار الفرنسي أولا: السياسة الاستعمارية لتدمير الثقافة العربية الإسلامية: لعبت الثقافة العربية الإسلامية قديما وحديثا دورا بالغ الأهمية في التماسك الاجتماعي والوطني للمجتمع الجزائري، حيث كانت تربط الجزائريين بماضيهم العربي الإسلامي من ناحية، كما كانت في الوقت نفسه تمثل تيارا قويا يدفع بهم إلى الأمام لتطوير حياتهم والارتقاء بها في جميع المجالات في إطار من الأصالة والتفتح من ناحية أخرى، ولذلك كانت ولا تزال تعدّ من أهم مقومات الشخصية الجزائرية وقد عانت هذه الثقافة طوال فترة الاحتلال المظلمة من محاولات للقضاء عليها مالم تعاني ثقافة أخرى في بلد أخر في العالم. فتلخص المشروع الاستعماري في تكريس تبعية الجزائر لفرنسا واستعماره واقعيا لا يمكن محو آثاره، فكانت الممارسة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر تقوم على تحطيم بنية المجتمع والقضاء على الأسس المادية والروحية التي يقوم عليها وتحييد القيم الحضارية التي يستند إليها وذلك بمحاصرة الشعور الديني ومحو اللغة العربية وإحياء النعرات والنزاعات الإقليمية والقبلية والميول الجهوية وتوطين العناصر الأوروبية لتحل محل الجزائريين. ولقد تمثلت الممارسة الاستعمارية الفرنسية في تعاملها مع الشعب الجزائري وتطبيق أساليب وطرق مختلفة الهدف منها إنجاح عملية الاستعمار وترسيخه بحيث يصبح واقعا لا يمكن مقاومته والتخلص من آثاره في مختلف جوانب حياة الشعب الجزائري مما يحول مستقبلا دون استرجاع الجزائر لكيانها السياسي وبنائها الاجتماعي وخصوصيتها الثقافية والحضارية. ومن مزاعم الاحتلال الفرنسي لإخفاء نياته بها، أنه جاء لرفع ظلم الأتراك عن الجزائريين، ورفع مساوئ الحكم العثماني التركي فهو حكم إسلامي، قائم على الشرعية التامة بمعيار ذلك الزمان، وهو إن لم يشجع رسميا الحركة التعليمية فإنه لم يعرقل جهود المواطنين في تشيد المؤسسات على عكس ما فعل الاستعمار الفرنسي بعده، حيث كانت تلك المؤسسات معاقل للمعرفة (مدارس وكتاتيب وزوايا ومساجد وغيرها) تقترب من ألفي مؤسسة تعليمية عشية الاحتلال، يتعلم فيها ويدرس نحو خمس وعشرين ألف تلميذ وطالب في مختلف المراحل والمستويات، وجدت نفسها في مواجهة سياسة الاحتلال الخاصة بالفرنسة والتنصير، وهي الخطة الملازمة لسياسة الحرق لقرى بكاملها، وإبادة عشائر برمتها، لفرض الأمر الواقع بالقتل والتشريد. وظهرت الخطة الاستعمارية الفرنسية لتدمير الثقافة الجزائرية لإنهائها كمقوم أساسي للوطنية الجزائرية في السياسة التالية: كانت الأوقاف المحبسة على المؤسسات الخيرية وخاصة أماكن العبادة والتعليم تؤدي خدمات اجتماعية وثقافية واقتصادية أساسية في المجتمع الجزائري، ولا سيما في المدن الكبرى مثل الجزائر وتلمسان وقسنطينة والبليدة والمدية ومليانة ومعسكر ووهران. فمردود هذه الأوقاف كان يسدّ النفقات الضرورية للمنشغلين بالتعليم أو القائمين على الأمور المتعلقة بأماكن العبادة والتعليم، من قضاة وأئمة ومدرسين وطلبة وشواش ونظار، بالإضافة إلى توفير دخل قار يغطي تكاليف رعاية وإصلاح هذه المؤسسات، ويسد حاجة المصالح العامة كالعيون والسواقي والأفران والحمامات، وكان القرآن أساسيا للتعليم في الجزائر سواء كان تعليما ابتدائيا أو ثانويا أو عالميا، وكانت المدارس على مختلف مستوياتها تموّل وتغذي من الأوقاف التي يحبسها موظفون ساميون في الدولة كعمل من أعمال الخير، فكان هناك أملاك خاصة وعقارات وأراض يذهب ريعها لبناء المدارس وتوظيف المعلمين وتوفير المساكن للطلبة والمعلمين وهكذا بادرت السلطات الفرنسية بمدينة الجزائر إلى إصدار قرارات وسن مراسيم متدرجة في فترات متلاحقة أسقطت مناعته وأخضعته لقوانين المعاملات العقارية الفرنسية، وبذلك تمكن النازحون الأوروبيون حديثا إلى الجزائر من الاستحواذ على بعض الأملاك والأراضي الموقوفة وتحويلها إلى ملكيات خاصة بهم رغم استنكار أعيان الجزائر مثل: "حمدان خوجة" و"أحمد بوضربة" واحتجاج العلماء وفي مقدمتهم المفتيان "ابن العنابي" و"ابن الكبّابطي". فلقد ذكر "خوجة" قائلا في هذا الصدد ما يلي: ((لقد أمر الجنرال كلوزيل بتهديم محلات تدعى القيصرية كانت تبيع الكتب التي هي أدوات الحضارة، وبما أن الفرنسيين كانوا يدخلون الحضارة إلى إفريقيا، فلماذا وقع تهديم هذا المصدر الذي كان يعطي العلم والمعرفة في جميع الميادين؟. إن هذا السلوك يدل أن هذا الجنرال بدلا من أن يعمل على تزويدنا بنور العلم والحضارة، لقد عمدت السلطات الفرنسية في مدينة الجزائر سنة 1835 إلى التصرف في ألفي وقف كان تابعا لمائتي شخص ومؤسسة، والاستلاء على 27 مسجدا و11 زاوية ومصلى، ولم تعد الأملاك الموقوفة المسجلة في دفاتر نظار الأوقاف تزيد عن 293 وقفا سنة 1843، وكانت قبل ذلك لا تقل عن 500 وقف. زمن هذه القرارات والمراسيم نذكر قرار 8 سبتمبر 1830 الذي سمح بوضع اليد على بعض الأوقاف، ومرسوم 7 ديسمبر 1830 الذي حوّل الأوقاف إلى مراقبة المصلحة العقارية (الدّومين)، ومخطط "جيرردان" (Gerardin) في 25 أكتوبر 1832 الذي تحوّل إلى تقرير مفصل يحدّد وضعية الأوقاف سنة 1838 أخضعت الأوقاف بموجبه إلى المعاملات المتعلقة بالأملاك العقارية وممهدّ أيضا لقرار 30 أكتوبر 1858 الذي وشع إجراءات المعاملات العقارية وجعلها مطابقة للقانون الفرنسي حتى يتمكن الأوروبيون واليهود من امتلاك الأملاك الموقوفة، وبذلك سهل على الإدارة الفرنسية تصفية الأوقاف بصفة نهائية لصالح الاستيطان الأوروبي في الجزائر بمقتضى قانون 1873، وبهذا فقد الجزائريون بتصفية الأوقاف، أحد الأسس التي تقوم عليها حياتهم الثقافية والدينية والاجتماعية، فتناقص عدد أماكن العبادة والتعليم بمدينة الجزائر من 186 (13 مسجدا جامعا و108 مسجدا صغيرا و32 مصلى و12 زاوية) إلى 12 مسجدا منها 8 مساجدا كبيرة بعد سنة 1862. ونفس الأوضاع عرفتها باقي المدن الجزائرية الأخرى، فقسنطينة مثلا انخفض عدد المدارس وأماكن العبادة بها من 86 إلى 30 وتراجع مجموع الطلبة بمدارسها من 600 إلى 60 في أقل من عشر سنوات (1837 ـ 1846). وقد رافقت إجراءات محاصرة الأوقاف وتصفيتها سن قوانين أخرى أدت إلى الاستلاء على ملكيات الموظفين وخاصة العناصر التركية منهم، الذين رحل أكثرهم إلى الأناضول مما زاد في تخوّف السكان واضطر الكثير من سكان المدن وخاصة مدينة الجزائر إلى الهجرة نحو الأقاليم الداخلية أو الأقطار المجاورة، الأمر الذي ساعد الإدارة الفرنسية على تحويلها إلى مدينة أوروبية تحيط بحي القصبة الجبلي الذي تحوّل إلى ملجأ للجزائريين الذي لم يجدوا بدا من العيش تحت سيطرة الإدارة الفرنسية. ب ـ نشر اللغة الفرنسية كأداة للفرنسة والإدماج: كان هدف الاستعمار في الجزائر بالإضافة إلى الاستغلال الاقتصادي والاستحواذ السياسي لجعل الجزائر قطعة لا تتجزأ من التراب الفرنسي أرضا ولغة وثقافة ودينا، ويذوب في بوتقة الأمة الفرنسية، فقد جاء في إحدى التعليمات الصادرة إلى الحاكم بالجزائر غداة الاحتلال: ((إن إيالة الجزائر لن تصبح لغتنا هناك قومية والعمل الذي يترتب علينا إنجازه هو السعي وراء نشر اللغة الفرنسية بين الأهالي إلى أن تقوم مقام اللغة العربية الدّارجة بينهم الآن)). وهكذا شرعت الإدارة الفرنسية في تطبيق سياسة الفرنسة في جميع المجالات والحياة الاجتماعية مبتدئة بمجال التعليم. ومن ثمة استهدف النظام الاستعمارية والقضاء على التعليم العربي في البلاد ومؤسساته وقد سبق وأن رأينا موقف "كلوزيل" منه، بعد أشهر من احتلال مدينة الجزائر وما ترتب من خسائر كبيرة، لا بالنسبة للتعليم العربي ولكن أيضا بالنسبة للثقافة الجزائرية بصفة عامة، فمنذ احتلال الجزائر سنة 1830، لم يخفِ الفرنسيون مشاريعهم الإدماجية وعنصريتهم وتحيزهم المفرط لثقافتهم ولغتهم ودينهم، بحيث اعتبروا هذه العوامل مكملة لبعضها البعض، وعلى أنها روافد تصب في نهر واحد، نهر الاستعمار والحفاظ على المصالح المادية لفرنسا في الجزائر ـ حسب منظري الاستعمار الفرنسي ـ يقتضي بعض الشروط الضرورية للحفاظ عليها على المدى البعيد، من ذلك اعتبروا المدرسة هامة، بل الوحيدة للسيطرة على عقول الجزائريين، ذلك بعد أن تمّت لهم السيطرة على أبدانهم وإخضاعهم بالقوة لسلطان الاستعمار. أمام هذا الوضع ما كان على سلطات الاحتلال إلا أن تعمل على تقليص تعليم اللغة العربية من خلال هدم المؤسسات القديمة القائمة، حيث تذكر المؤرخة "ايفون تورين" (Yvonne Turin): أن الكارثة تبدو أكبر بكثير، فقبل وصول الفرنسيين كانت بمدينة الجزائر توجد 39 مؤسسة للتعليم العمومي، زاويتان اثنتان و37 مسجدا، لم يبق منهم إلا ثلاثة مدارس فقط من 39 مدرسة، أما في قسنطينة فقد تقلص من 90 مدرسة إلى 30 مدرسة فقط. إصافة على هدم وسائل التكوين راحت السلطات الاستعمارية تطارد رجال التعليم بلا هوادة للقضاء على المؤسسات التعليمية الموجودة والتي كانت في نظرها تنشر إيديولوجية وطنية مناهضة لمصالح الاستعمار، وهو ما يؤكده المؤرخ "موريس فاهل" (Maurice Wahl) وأحد غلاة الاستعمار المتحمسين للإشعاع الثقافي الفرنسي في الجزائر حيث يقول: ((لقد شرعنا بادئ ذي بدء في هدم كل المسايد (وهي المدارس الابتدائية) والزوايا والمدارس (الثانوية) وبعض المدارس الإسلامية الأخرى الموجودة قبل 1830 وبعدها عكفنا في إجراء تجارب ارتجالية لم تنجز سوى نتائج هزيلة أحيانا سلبية)). وفي الإطار نفسه يذهب المؤرخ الفرنسي "شارل روبير أجرون" (Charles Robert Ageron) إلى أبعد من ذلك إذ يقول: ((لم تفلح سياسة الإدماج إلا في القضاء على التعليم الإسلامي والحد من انتشار التعليم الفرنسي، يضاف إلى ذلك كله عمل السلطات الاستعمارية على نهب التراث الثقافي العربي الإسلامي الذي عثر عليه في المكتبات الجزائرية مثل المخطوطات والوثائق والكتب، فلقد كان الناهبون يرسلون محتوياتها لذويهم في فرنسا أو يبيعونها لتجار الكتب الأوروبيين الذي يأخذونها إلى أوروبا))، هذا فضلا عن المكتبات والكتب التي أحرقوها أو بعثروها كما فعلوا بمكتبة الأمير "عبد القادر" قائد المقاومة الجزائرية في سنوات الاحتلال الأولى (1832 ـ 1847) بعد أسره في 1847 ويذكر المؤرخون أن الأمير أصابته نوبة من الحزن الشديد وهو يتبع آثار الطابور الفرنسي مسترشدا بالأوراق المبعثرة في الصحراء التي انتزعها الجنود الفرنسيون من الكتب التي عانى الكثير، ومن جهة أخرى؛ عملت السلطات الفرنسية على إنشاء المدرسة الاستعمارية دون أن تخرج من نطاقها التجهيلي، ففي سنة 1833 فتحت مدرستان سميت مدارس التعليم المتبادل (L'enseignement mutuel)، أي إعطاء التعليم الفرنسي للجزائريين والتعليم العربي للفرنسين فتحت الأولى بوهران والثانية بعنابة. أما أول مدرسة أنشأت لتعليم الجزائريين باللغة الفرنسية، فهي المدرسة الابتدائية التي سمت بالمدرسة العربية الفرنسية (École arabe - française)، وكانت في سنة 1836 بمدينة الجزائر وخاصة بالذكور وكان الغرض من هذه المدرسة هو تقريب الجزائريين من الأوروبيين وكسب ولائهم قصد تحضيرهم للإدماج، ثم أسست أول مدرسة للبنات في مدينة الجزائر سنة 1845 وهي مبادرة خاصة على، وكان غرار المدارس الخاصة بالأطفال فتحت مدرسة للكبار في 1837 لتعليم اللغة الفرنسية للذين يشغلون في الخدمات والإدارات الفرنسية، وقد بلغ عدد التلاميذ الجزائريين في سنة 1844 حوالي سبعة تلاميذ مقابل مائة تلميذ أوروبي. وللإشارة هنا أن تعليم الجزائريين كان يخضع مباشرة لإشراف الحاكم العام، وحتى سنة 1848 كان التعليم العربي تابعا لوزارة الحربية الفرنسية، بينما كانت إدارة التعليم في المدارس الأوروبية يتبع مباشرة لوزارة التربية والتعليم في فرنسا. وفي سنة 1848 تأسست أكاديمية الجزائر (مديرية التربية والتعليم) لتشرف على التعليم وتتصل مباشرة بوزارة التربية والتعليم في باريس ويرأسها مفتش عام (أو مدير عام) يساعده نائبان، ثم تأسست بعد ذلك ثلاثة مناصب (في مقاطعات الجزائر الثلاث) لمفتشين خاصين بالتعليم الابتدائي، ويظهر ذلك من خلال التنظيم الجديد والأولى تحيز الإدارة الفرنسية للفرنسيين وتميزها بين التعليمين الأول منظم وخاص بالأوروبيين، أما الثاني فلا أساس له وخاص بالجزائريين. وفي سياق الحديث عن الفعل النافذ للاحتلال الفرنسي لفرنسة اللسان والفكر والشعور على الجبهة التعليمية والاجتماعية ينبغي أن لا نغفل على جسر آخر دشنه على هذه الجبهة لا لمجرد التعليم فحسب بل التوغل عبر وسائط في حياة الجزائريين وهو ما يمثله مشروع المدارس الإسلامية الثلاث ذات الطابع التخصصي، التي أنشأت بمرسوم صادر في 3 سبتمبر 1850 تنحصر مهمتها في إعداد موظفين في الشؤون الدينية والقضائية والإدارية، يصير المتخرجون منها همزة الوصل بين المحتلين والمواطنين، ينوبون عن المحتل بإدارة شؤون المواطنين في المنازعات القضائية والدينية، وقد وزعت المدارس على ثلاث جبهات من الوطن، الأول في غربه ومقره تلمسان والثانية في وسطه بمدينة المدية، ثم نقل مقرها إلى العاصمة سنة 1858، أما الثالثة ففي شرق الوطن بمدينة قسنطينة، ولكن الذي سيعطى دفعا ونفسا جديد للتعليم العمومي في الجزائر هو السيد "جول فيري" (Jules Ferry) الذي اهتم بالقضية منذ 1879 قبل أن يعرف الجزائر، ومن فرنسا كتب إلى الحاكم العام الفرنسي "قريفي" (Grevy) يقول له: (( تراودني رغبة كبيرة في أن أضع تحت الدراسة كل القضايا التي لها علاقة بالتعليم العمومي في الجزائر، وعلى رأسها قضايا التعليم الابتدائي)). وتجدر الإشارة هنا؛ إلى أن السلطة الفرنسية عملت على مسخ وتشويه تاريخ الجزائر بتجاهله أحيانا وحرمان الجزائريين من دراسته الدراسة الصحيحة في المؤسسات التربوية التي أنشأتها لهذا الغرض والتدخل لإلغائه في المدارس التعليمية الحرة أحيانا أخرى، فمادة التاريخ التي تعتبر بمثابة شعور الأمة وذاكراتها ووعيها بكيانها، وإذا كان التاريخ كذلك هو شعلة الماضي لإنارة الحاضر والمستقبل فقد كان له هدف مغاير في المدرسة الفرنسية التي أسستها الإدارة الفرنسية الاستعمارية، لأنها كانت تهدف من وراء دراسته إلى إنكار الذاتية الجزائرية والمساهمة في تحبيب فرنسا إلى الجزائريين من خلال إبراز الحضارة الغربية. فالبرامج التعليمية للجزائريين كانت مشابهة ومطابقة للبرامج التعليمية الفرنسية خاصة في عهد الجمهورية الثالثة وذلك لتسهيل عملية الإدماج وبالتالي القضاء على الشخصية الجزائرية بتجريدها من مقاومتها. 1- في الفترة الاستعمارية: لقد تميز الاستعمار الفرنسي للجزائر بخصوصية ملحوظة دونتها العديد من البحوث والدراسات التاريخية، إذ لم يكن ذلك الاستعمار عسكريا، إداريا وسياسيا فحسب بل تعداه إلى كونه استهدف بالخصوص المبادئ الثقافية والاجتماعية للمنطقة. فكانت الحقيقة الاستعمارية للفرنسيين تتميز بخصوصية يشهد لها التاريخ، حيث سيطرت الإدارة على الممتلكات العمومية كما حاولت أيضا تفكيك التنظيم الاجتماعي للمجتمع الجزائري وإعادة التاريخ الرمزي الثقافي واللّغوي لسكان المنطقة وقد قال الباحث في الأنثروبولوجيا حسين رمعون في هذا الصدد: "لقد تميز الاستعمار الفرنسي في الجزائر على غيره من العالم العربي الإسلامي بكونه أراد الهيمنة وتدمير جميع الموروثات الثقافية والاجتماعية والايديولوجية التي كانت قبل المرحلة الاستعمارية قبل عام 1830، وقام بتهميش النظام الثقافي الذي كان سابقا". في الواقع لقد قام الاستعمار الفرنسي بإحداث تغيير جذري على طبيعة الحياة في الجزائر، حيث قام بتدمير جميع الهياكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سابقا، جميع مظاهر التضامن والروابط الاجتماعية للسكان الأصليين وجعل حياتهم الاجتماعية أكثر تعقيدا، فلم يعد ممكنا في فترة الاستعمار التجمع والتنقل بحرية في جميع الأماكن والفضاءات العمومية لأن العديد منها أصبح غير مسموح بالتجول فيها، كما أن الاستعمار مارس جميع الطرق واستعمل جميع الوسائل للحد من اندماجهم وتجمعهم لتبادل الأفكار وطرح انشغالاتهم بشكل صحيح، وفي "الوقت الذي لم تتوقف فيه الحكومة الفرنسية عبر العالم على تعظيم الليبرالية والقيم الإنسانية والحريات الفردية، كانت تسعى في الجزائر إلى تدمير والسيطرة على كل المسارات التي كانت تحاول قيادة المشروع الإنساني في الجزائر والمساواة". الأكثر من ذلك ولنجاح مشروع فرنسا الاستيطاني في الجزائر قامت بخلق بيئة جغرافية جديدة واستحداث مدن جديدة لتسهيل نشر ثقافتها الغربية؛ قسنطينة، وهران وغيرها، مما نجم عنه مجالات حضرية جديدة منعت على الجزائريين وكان الدخول إليها مشروطا بالتخلي عن العديد من المعتقدات والانتماءات الإسلامية والجزائرية، المقاهي، دور السينما وغير ذلك؛ رغم كل المحاولات التي جاءت بعد هذه الإجراءات التعسفية التي حاولت اعتماد العديد من المراسيم لدمج المجتمع الإسلامي الجزائري مع المجتمع الفرنسي مثل " إعلان 1865 الذي نادى إليه مجلس الشيوخ الفرنسي المشهور في 14 جوان 1865 من أجل حماية الممتلكات المادية للجزائريين، المدن والعوالم العريقة، وكذا احترام المعايير الأخلاقية للمسلمين الأصليين، ظلت سياسة ترسيخ الانفصال الاجتماعي والسيطرة على الفضاءات العمومية من قبل الفرنسيين قائمة"، صحيح أنه تم فتح هذه الفضاءات لكن إلاّ للأقلية المتجنسة بالجنسية الفرنسية من الجزائريين، كما أن الحكومة الفرنسية كانت تراقب تحركاتهم وانتماءهم الديني والعرقي، وتقوم بمنع المظاهرات والتجمعات في الأماكن العمومية و أي شكل من أشكال النقاش العمومي، هذا ما جعل المساحات العمومية و المدينة الجديدة التي أحدثتها القوات الاستعمارية تمجد فقط للعرق الأوروبي المسيحي. بدت المساحات الحضرية للمدينة الاستعمارية مساحات أوروبية، حيث تأثرت بعملية إعادة البناء وتمجيد العائلات النبيلة وتنظمت المجالات العمومية حتى أصبح السكان الجزائريون يشعرون بأنهم غرباء في أوطانهم، بحيث لا يمكن للجزائريين بأي حال من الأحوال الاندماج فهم مصنفون في فئة "البروليتاريا، وهي الطبقة التي تمتلك ما يكفي للعيش ولا تمتلك رأس المال ولا الوسائل المادية للإنتاج تضم أصحاب الأجور والعاطلين عن العمل". نحن أغنياء لأننا بيض، نحن بيض لأننا أغنياء". كرس منطق الحكومة الاستعمارية إلى ظهور مجالات عمومية لا رتاعي الشروط التي تكلم عنها هابرماس والمفكرين الذين طوروا الفكرة،