وأنا أعجب ممن يشكو ضيق الوقت، وهل يُضَيّق الوقت سوى الغفلة أو الحالة الحرجة؛ انظروا كم يقرأ الطالب ليلة الاختبار، بل أسبوعياً مرة _ لكان عَلاَّمَة الدنيا، بل انظروا إلى هؤلاء الذين ألَّفوا مئات الكتب كابن الجوزي والطبري والسيوطي، بل خذوا كتاباً واحداً كنهاية الإرب، هل يمكنه واحد منكم أن يصبر على قراءته كله، إضافةً إلى تأليف مثله من عنده؟ أليس حصيلة؟ أما له حصيلة؟ أما له ثمن؟ فلماذا نشقى بالجنون ولا نسعد بالذهن؟ ولو عمل لجاء بالمدهشات؟ لا أذكر الفلاسفة و المخترعين، ولكن أذكركم بشيء قريب منكم، إنكم تسمعون رواية البخاري لما امتحنوه بمائة عصري خلطوا متونها وإسنادها، فأعاد المائة بخطئها وصوابها، والشافعي لماَّ كتب مجلس مالك بريقه على كفه وأعاده من حفظه، والمعري لما سَمِع أرمنيين يتحاسبان بِلُغَتهما، فلما استشهداه أعاد كلامهما وهو لا يفهمه، والأصمعي وحمَّاد الراوية وما كانا يحفظان من المستجدات والأشعار، وأحمد وابن محدد وما كانا يرويان من الأحاديث والآثار، ولو فكَّرتم في أنفسكم لرأيتم أنكم لديهم القدرة على مثل ذلك، وكم حكاية يروي من حكايات الناس والتاريخ، وكم يشغل من عقله ما يتجاوز به يومياً من المقروءات، فلو وضع موضع ذلك الباطل علماً خالصاً، أعرف نادلاً كان في (قهوة فاروق) في الشام من عشرين سنة اسمه (حلمي) يدور على رواد القهوة وهم مئات يسألهم ماذا يطلبون: قهوة، أو هاضوماً _ كازوزة _ أو ليموناً، ثم يقوم وسط القهوة ويردد تلك الطلبات جهراً في نَفَسٍ واحد، ثم يأتي بها فما يخرم الأمر الذي دعوة واحد من حرفاً ! فيا سادة: إن الصحة والوقت والذهن، وملاك الشأن كله ورأسه الإيمان، وساءت حالك أحسن من آلاف الإنس ممن لا يقل عنك فهماً وعلماً، وأنت أحسن عيشة من عبدالملك بن مروان، فقد كانت لعبد الملك ضرس منخورة تؤلمه حتى ما ينام منها الليل، فلم يكن يجد طبيباً يحشوها، وأنت تؤلمك ضرسك حتى يقوم في خدمتك الطبيب. وقد كان الرشيد يسهر على الشموع، ويركب الدواب والمحامل وأنت تسهر على الكهرباء، وكانا يرحلان من العاصمة السورية دمشق إلى مكة في شهر و أنت ترحل في أيام أو ساعات. فيا أيها القراء: إنكم سعداء ولكن لا تدرون، سعداء إن عرفتم قدر النعم التي تستمتعون بها، سعداء إن عرفتم نفوسكم وانتفعتم بالمخزون من قواها، سعداء إن سددتم آذانكم عن صوت الديك (4)، فتحاولوا سد فمه عنكم، سعداء إن طلبتم السعادة من أنفسكم لا الأمر الذي حولكم. سعداء إن كانت أفكاركم طول الوقتً مع الله، فكنتم فائزين في الحالين،