أمّا بعدُ: واستدركوا بالتوبة ما أضعتم، فالفوزُ لمن غلَب، معاشر الصائمين الكرام: أُهنئكم ونفسي بحلول هذا الشهر العظيم المبارك، إنهُ بمثابة دورةٍ تدريبيَّةٍ مُكثَّفة ثلاثونَ يَومًا يتزوَّدُ فيها المسلمُ ما يُقوِّي إيمانهُ، ويزهِّدهُ في الدُّنيا، ويرغبهُ في الآخرةِ، رمضانُ مدرسةٌ رائعةُ للتَّغيير نحو الأحسنِ والأفضل، نعم أيها الكرام: إلا أنه فترةٌ كافيةٌ للموفقين، وَيِبنَوا فيها من القِيَم الحمِيْدَةِ، والسلوكياتِ الحسنة ما يُقوِّم أخلاقهم، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة: 185]. ولابن مسعود رضي الله عنه مقولةٌ جميلة: تعودوا الخير، ألا وإن من أعظم دروسِ رمضانَ المبارك: الاستقامةُ على أمرِ الله جلَّ وعلا، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ [فصلت: 30]، وإذا كان كل المسلمين يقولون ربُّنا الله، فإن القليل منهم من يحقِّقُ الاستقامة على أمر الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾، وقلة الاستقامة سببها ضعف التقوى، وضعف مراقبة الله في السرِّ والنجوى، قال جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لعلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]. وما أدراك ما المراقبة، تصوروا يا عباد الله عظمةَ الأمرِ، يحبسها عن الملذاتِ والمباحات، (إنَّ اللهَ يَرَى)، ونشاطًا في الطاعة، وبُعْدًا عن المحرماتِ، وخوفًا من الله وحياءً. التحلِي بالصدق، وذلك لأن الصومَ عبادةٌ سِرِّية، محصورةٌ بين العبد وربه، لا يعلمُ حقيقتها وصدقَ العبدِ في أدائها إلا اللهُ جلَّ في علاه، أضافَ الصومَ إلى نفسهِ العليةِ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: إلَّا الصَّوْمَ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فيه أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيحِ المِسْكِ. وفي محكم التنزيل: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر: 33]. ومن أعظمِ دروسِ رمضانَ الصبر، فرمضانُ شهرُ الصبرِ والمصابرة، والصبرُ مفتاحُ الفرج، والصبرُ خلقُ الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، وقد أوجب جلَّ وعلا محبتهُ ومعيتهُ للصابرين، فقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146]، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46]، وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: "وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر". ولذا كان جزاءُ الصبر عظيمًا لا يُقدر بقدر، والصبر يا عباد الله من أعظم ما يُعين على أداء العبادة: قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]. وعطَّلتِ الكثيرَ من الانجازات. فالكثيرُ منا لديه أمورٌ تعودَ عليها بالتكرار، ومن ثمَّ أصبحَ من الصعب عليهِ أن يتخلصَ منها وأن يتركها، فيأتي رمضانُ لكي يُغيِّر لنا جُلَّ عاداتِنا، ويُغيِّرَ لنا مواعيدَ نومنا واستيقاظنا، ومواعيدَ أكلنا وشربنا، ومواعيدَ ذهابنا ورجوعنا، يُجبرهم على التخلِّي عنها أكثرَ من أربعةِ عشرَ ساعةً، ليعلم أنَّه قادرٌ على التخلي عنها نهائيًا لو عزمَ على ذلك، يأتي رمضانُ المبارك ليحرُّرَ الأنسانَ من أسرها. من دروسِ رمضانَ العظيمة: أنهُ يدرِّبُ النفسَ ويوطِّنُها على هجرِ المعاصي وتركِ الذنوب، يُؤكدُ هذا المعنى الهام، إنما الصيامُ من اللهو والرفث"، فالصيامُ الذي لا يمنعكَ من المعاصي ليس بصيامٍ صحيح، ولا يمنعكَ من الغيبة والنميمةِ والوقوع في الأعراضِ ليس بصيام صحيح، قال صلى الله عليه وسلم: "الصيامُ جُنة فإذا كان يومُ صومِ أحدِكم فلا يرفُثْ، ولا يفسُقْ، ولا يجهلْ، فبارك الله لي ولكم في القرآن العظيم. الخطبة الثانية أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، من دروسِ رمضانَ العظيمةِ: ولذا فقد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس وكانَ أجودَ ما يكونُ في رمضان، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "لو يعلم المتصدقُ حقّ العلم أن صدقتهُ تقعُ في (يد الله) قبل أن تقعَ في يد الفقير، من أعظمِ دروسِ رمضان: ومن دُرَرِ الفَارُوْق رضي الله عنه يقول: "إِنِّي أَكْرَهُ للرَّجُلَ أنْ يكون سَبَهْلَلًا، لَا في أَمْرِ الآخِرَةٍ، من أعظم دروسِ رمضان: استشعارُ قيمةِ النِّعَمِ صغِيرِها قبلَ كبِيرِها، وفضائل كبرى، ونعمِ لا تُعدُ ولا تُحصى. أو التعودُ والنِّسيانِ. كلما قلَّ شعورُه بالجميل، فإذا جاءَ رمضانُ والصوم، ويُحرَمُ من المباحاتِ لساعاتٍ طويلة، ينشطُ في نفسهِ اسْتَشْعَارُ قيمةِ النِّعَمِ، فقيلَ له لمَ تجوعُ وأنت على خزائن الأرضِ، فقال: أخشى إن أنا شبعتُ أن أنسى الجائع". وهكذا فعل عمر الفاروق رضي الله في عام الرمادة. حتى قرقرت بطنه. فقال لها قولته المشهورة. ومن أعظم دروسِ رمضان: حِرصًا أن يَكُونَ صومُه كُلَّهُ وَفْقًا للْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ، فلا يبدأُ إلا بالتمر تأسيًا واستجابةً لسُنةٍ مُستحبةٍ،