وآثاره ليست على شق واحد وإنما على جهات كثيرة ، فقد أثر على العقيدة ، وعلى الفرد ، وعلى الأمة ، ١- ولكي ننصف في تقويم اثار علم الكلام فلابد ان نذكر منفعة تحققت بسببه وهي : أن انتشاره في الامة أخرج لنا علماء أجلاء من ائمة السلف حملهم انتشاره على الرد عليه وإبطاله وتفسير قضاياه فظهر علم السلف وبان فضلهم وتجلى ذكاءهم وقوة حجتهم وعمق فهمهم وجودة قرائحهم كالشافعي والدارمي وأحمد والبخاري وأبي داوود والكناني وشيخ الإسلام وابن القيم والشاطبي فاندفع بوجودهم وبما قالوه من دقيق العلم وعميق الفهم ما ادعاه الشانوؤن من أن أهل الحديث والاثر حشوية ليس لهم فهم ولا غوص على المسائل ولو أخذنا شيخ الإسلام وحده لتبرهن للمنصف ما قدمه هذا الإمام من ثراء علمي وجهد عقلي هائل يجعله في مصاف أذكياء العالم. ٢ - إنه اثر على مسائل العقيدة بالإضرار بها فقد قاد الى نفي الصفات وتعطيل الباري عن صفاته كما قاد إلى تعطيل النصوص عن معانيها وجر إلى القول بالجبر في القدر والأرجاء في الأيمان والوعيد في الأسماء والأحكام وغير ذلك من المقالات التي أفسدت مسائل العقيدة وشوشتها ٣- إنه أثر على دلائل العقيدة حين أضر بطرق الأدلة ومسالكها فقرر ظنية أخبار الآحاد فعطل جمهور الأحاديث والآثار وجعلها عديمة الفائدة لا يؤخذ منها اعتقاد ولا تفيد علماً كما قرر المجاز الذي أبطل حقائق النصوص وقرر التأويل الذي أفسد دلالة الوحي وصرف العقول عن إدراك مراد ربهم وقرر ظنية الدلالة في الفاظ الوحي فبدلاً من الاهتداء بالوحي واليقين بما جاء به قاد الى الحيرة والضلال فأصبحت النصوص بحسبه - لا تهدي وإنما تضل ! ٤- قاد الى ضعف تصور الأفراد الذين اعتمدوا عليه فإن علم الكلام لم يقتصر عليه أحد إلا وضعف تصوره الصحيح عن ربه أو وقع في الحيرة والاضطراب في عقيدته ودينه. ه - وكما يفسد العلم والتصور فهو يفسد الإرادة والعمل فإن الكلام يورث الوهن في العبادة والرقة في الدين حتى يكون الواحد فاتر الهمة مقل من الطاعات. وبسبب فساد التصور وضعف الإرادة وقع كثير من المتكلمين في حيرة واضطراب ونزع منهم برد اليقين وطمأنينة النفس . لعمري لقد طفت المعاهد كلها فلم أر إلا واضعاً كف حائر وسيرت طرفي بين تلك المعالم على ذقن أو قارعاً من نادم (۱) وقال ابن أبي الحديد المتكلم الشيعي المعتزلي: فيك يا اغلوطه الفكر سافرت فيك العقول فما فلحى الله الألى زعموا كذبوا إن الذي ذكروا حار أمري وانقضى عمري ربحت إلا أذى السفر أنك المعروف بالنظر خارج عن قوة البشر (۲) وقال شمس الدين الخسروشاهي - من طلاب الفخر الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً فقال: ما تعتقد ؟ قال : ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟ أو كما قال، فقال : نعم. فقال أشكر الله على هذه النعمة، لكني والله لا أدري ما أعتقد، أعتقد ، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضلت لحيته (۳) . ولهذا حذر السلف من الكلام وذموه لضرره على إيمان المسلمين وطمأنينة نفوسهم. ٦ - وكما أثر على الفرد المسلم في علمه وعمله فقد أضر بالأمة حيث فرقها وشتت شملها وجعلها فرقاً وأحزاباً وطوائف كالخوارج والرافضة والمعتزلة والكرامية والأشاعرة والماتوريدية وغيرهم وكل فرقة تكفر الأخرى أو تفسقها أو تبدعها كما جر هذا إلى الإحتراب والقتال والقتل وهذا الضرر ضرر واضح فإن اختلاف عقائد هذه الأمة أورثت هذا النزاع والتفرق ، ٧- أن علم الكلام صد الأمة عن دينها حيث أن أطفالها وشبابها إذ خرجوا للتعليم في المساجد والكتاتيب - قديماً - والمدارس والكليات حديثاً - وأرادوا تعلم العقيدة التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم لم يظفروا بالعقيدة الصحيحة ونحن نعلم أن في كثير من بقاع الأرض إنما ينتشر علم الكلام المبتدع الذي لا صلة له بعقيدة الوحي فمن هنا صد علم الكلام الأمة عن دينها الحق إلا ما يقوم به المجددون كابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله - من ردها إلى عقيدتها الصافية ٨- وكما صد الأمة عن تلقي عقيدتها ودينها الصحيح فقد صد أعداءها من الدخول في الدين فإن العلماء والرهبان والأحبار والفلاسفة وسائر أهل العلوم في الأديان الأخرى، عقولهم ولا تطمئن نفوسهم بذلك. ۹ - أن أعداء الإسلام إذا وقفوا على الكلاميات وأبصروا ما فيها من الضعف استطالوا على المسلمين بما معهم من فلسفات وكلاميات لا تقل بريقاً عن هذه التي عند المسلمين وفي هذا من