ناهيك عن غياب الصحافة المحلية والمجلات الصادرة عن البلاد العربية ، لكن هذا الفراغ لم يلبث - برغم كل الضغوط التي تمارسها السلطات العسكرية - أن بدأ يمتليء شيئا فشيئا مع نشوء التفاعل والتواصل الحيوي بين الجيل الجديد من الادباء اليافعين ، وستظل تتكون وتتنامى قطرات الضوء تحت ليل الاحتلال ، وسوف يستمر العمل معا لاعادة تركيب ما هو كائن ، انطلاقا من الحلم بما سيكون ، والسجون والمعتقلات وكل ما من شأنه اخماد الوعي الجديد المنشق من رماد الهزيمة . ذات مساء أتلقى مكالمة هاتفية من محمود درويش - وكان آنذاك رئيس تحرير مجلة ( الجديد - - يسألني فيها المساهمة في الكتابة من أجل باب جديد استحدثه في المجلة عنوانه ( صفحات من مفكرة ) . قال محمود عبر الهاتف انه من هذا الباب يتسلل الى يوميات الكتاب والشعراء الخاصة ، ولكن عملية التسلل تجري بأسلوب جديد ، الذي نشرت منه فيما بعد بعض حلقات في مجلة الجديد ما بين العامين ۱۹۷۷ - ۱۹۷۸ ، حين كان يرأس تحريرها سميح القاسم . لقد كانت الاقليات العربية التي بقيت متجذرة في أرضها كشجر الزيتون الفلسطيني منقطعة انقطاعا تاما عن مواكبة الحركات الأدبية والمعطيات الفكرية في البلاد العربية ، فلم تكن المطبوعات العربية على مختلف أنواعها واتجاهاتها لتجد لها منفذا تنفذ منه إلى أولئك الظامئين المتعطشين اليها ؛ فاذا أتيح لأحدهم الوقوع على كتاب عربي غمرهم الفرح ، وأخذوا يتناوبون قراءته ونسخه واحدا بعد الآخر ، وحين شرع بعض الزائرين من شباب الجيل العربي هناك يفدون علي بين آونة وأخرى ، لفت انتباهي اهتمامهم الشديد بالكتب التي تزنر رفوفها غرفة الجلوس ؛ حيث أخذت السلطات العسكرية تمارس مصادرة الكتب من المكتبات الخاصة والعامة ، أم تاريخية الخ هذا عدا عن قوائم بأسماء الكتب الممنوعة ، فلم أملك أمام توسله الا الرضوخ والسماح له باستعارة الكتاب الذي لم يعد الى المكتبة أبدا ، وحين زارني واحد من جماعة الكويكرز الأمريكيين ، والذي حرمنا بالتالي من الاطلاع على المجلات الأدبية والفكرية التي تصدر في بيروت ومصر وسوريا الخ . فتعهد ذلك الانسان الكريم بتزويدي باستمرار بالمجلات التي أوصيه بموافاتي بها ، وكان من دواعي غبطتي أن أوافي محمود درويش وسميح القاسم بالمجلتين بعد مطالعتهما . وفي احدى رسائله الي قال سميح القاسم : ( برغم كوني مدينا لك بعدة مجلات فانني أجد في نفسي المزيد من الجرأة لأطلب المزيد من المجلات ، حتى لو أنت فقدت بعضها فلن تخرب الدنيا أكثر مما هي عليه من خراب : أنا فاقد وطنا فما خوفي على فقدان زهرة ؟ وأثناء لقائي بالزغيم الراحل جمال عبد الناصر في أواخر ديسمبر العام ١٩٦٨ ، لاسيما المحاولات المبذولة لترسيخ العدمية القومية في وجدان الأقلية العربية ، وكم شعرت بالسعادة حين سمعت من اذاعة القاهرة التحية الحارة التي وجهها الرئيس بعد ذلك اللقاء الى العرب الصامدين المناضلين تحت جناحي الخفاش الكبير منذ عشرين عاما . ويتصلان بوفود شبيبة العالم ، كنت في عمان أتصفح ذات ضحى جريدة الأنوار اللبنانية ، وأمامي فنجان أحتسي منه القهوة في مقهى و الدبلومات ، ، ووجدتني أذهل وأصعق وأنا أمضي في قراءة مقال مزدحم بتهم وافتراءات موجهة ضد الشاعرين ؛ كان واضحا كل الوضوح أن هدف الكاتب المفتري تحطيم هذين الرمزين الوطنيين وتشويه صورتيهما في الوجدان العربي فقبل ذلك بيومين فقط ، الاناشيد الوطنية بكل ما يملؤهما من حيوية وحماسة . ثم حدثته عما يعانيه الشاعران في وطنهما بسبب مواقفهما الوطنية الملتزمة ، ومقاومتهما لسمك القرش فيما هما يكابدان تجربة الغربة والاغتراب واللجوء في أرض الوطن السليب . عبر لي عن حقيقة كونه لم يطلع على المقال قبل ظهوره في الصحيفة ، كما حدثني عن مقال شبيه من حيث الطعن بمحمود ، كان قد تلقاه من فتاة فلسطينية تحاول كتابة الشعر ، وكانت هذه الفتاة قد غادرت اسرائيل قبل سنوات قليلة لتقيم في بيروت ، فقد مزقه والقاه في سلة المهملات .