والسبب فقط مراعاة لحالتهم الصحية لنرى واحدة منهما تذهب لتحية أسرها وتوديعه قبل ذهابها. شعارهم تعلموه من قول ربهم وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. دخول الأرض المقدسة في أعقاب خروج موسى عليه السلام وقومه من مصر أتى الأمر الإلهي لاتباع موسى على لسان النبي الكريم يا قوم دخلوا الأرض المقدسة مقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتد على أحد بالكم فتنقلب خاسرين، فما كان ممن أرهق الأنبياء وقتل المرسلين إلا أن قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. وهو ما تحقق في عهد خليفة موسى النبي يوشع بن نون عليه السلام. ففتح فلسطين وبيت المقدس ليقسم عهد بني إسرائيل في الأرض المقدسة إلى ثلاثة عهود تتناوب فيها الإصلاح والفساد ليتغلب في النهاية فسادهم على صلاحهم، فلا يذكرهم الله في قرانه إلا بكل سوء. حتى إنهم لما ذهبوا مع موسى ليتوب إلى ربهم تمردوا وطلبوا أن يروا الله جهرة. وهذا كله في الجيل الذي نجا قبل أيام بمعجزة خالدة من فرعون وجنده قبل أن تتوالى عليهم العصور، ويؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، ولم يكتفوا بذلك وتمردوا على الأنبياء حتى قتلوا منهم الكثير كما فعلوا في زكريا ويحيى عليهما السلام، ولهذا ذهب عدد من المفسرين أن الطغيان الأشوري ومثله البابلي وما تبعهما من شتات لبني إسرائيل في الأرض إنما كان عقابا من الله على هذا الإفساد وذلك الكفر. فبدأت حركة الفتوحات بالشام في عهد أبي بكر قبل أن يستكمل بها عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ويأتي فيها أمر الخليفة بالتوجه إلى بيت المقدس أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم. فإن كان قدم فلا سبيل لقتاله فسلموا له. ولهذا عرض البطريرك الاستسلام المشروطة بقدوم خليفة المسلمين بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس، وقد كان فتح عمر نبيلا رفيقا، وظلت في أمن المسلمين إلى أن دبت بين أمراء الشام الفتن، وانقسم صفهم إلى أحزاب دخل من بينها عدو مجرم لا يشبع من الدماء. بعد قرابة خمسة قرون من الفتح أتى عام أربعمائة واثنين وتسعين من الهجرة وتحققت مقولة عمر التي واسى بها بطريرك القدس فالدنيا دواليك، فبينما نجد حصار المسلمين للقدس انتهى بفتحها السلمي وإتيان الخليفة بنفسه لتسلم مفاتيحها بسلام متبوع بتأمين أهلها، حتى إنهم قتلوا مسيحيين من بني دينهم لتشابه ملامحهم العربية مع المسلمين. حتى إن الصليبيين أرسلوا إلى بابا الفاتيكان أوربان الثاني يخبرونه مفتخرا بما أحدثوه، حتى استيقظت المقاومة على يد عماد الدين زنكي في الموصل، قبل أن يدركه الأجل ويسلم الراية لولده نور الدين محمود، ومن ثم إلى صلاح الدين الأيوبي الذي كسر شوكة الصليبيين في معركة حطين الشهيرة عام خمسمائة وثلاثة وثمانين للهجرة، وبعد حصار لم يدم أكثر من اثني عشر يوما دخل صلاح الدين بيت المقدس فاتحا مسترجعا قبلة المسلمين الأولى إلى أحضانهم، وقد نقلت الوثائق الصليبية عددا من شهادات المقاتلين الصليبيين أنفسهم ممن أقروا بذلك المقاتل الأسير أرنولد الذي شهد بابتعاد قومه تماما عن أخلاق الفروسية في مقابل خصمهم المسلم الذي جسد كل القيم النبيلة التي فرطت فيها جماعته. فانظر إلى تلك الرحمة ونقيضها بين غزاة صنعوا من الدماء أنهارا، ادعت الحركة الصليبية الشيء نفسه تحت قيادة روحية للبابا أوربان الثاني الذي أعلن الحركة في مجمع كليرمونت سنة ألف وخمسة وتسعين وحدد لها الطريق والهدف النهائي فلسطين أرض المسيح ومهدي. غير أنهم نسوا أن حطين وارد أثار أسلافهم بعد تسعين عاما في تراب التاريخ،