ففي المرحلة الأولى أصدر كتابه « تحرير المرأة » محاولا الظهور بمظهر المجتهد المجدد؛ فبذل جهده للتدليل على ما زعمه من أن حجاب المرأة – كما هو سائد في المجتمعات الإسلامية – ليس من الإسلام ، وأن الدعوة إلى السفور ليس فيها ما يخالف الدين وأصوله العامة، فالحجاب – كما يدعي – أصل من أصول الأدب فحسب يلزم التمسك به ، ويؤكد ذلك بقولـه: « إن الشريعة ليس فيها نص يوجب الحجاب على الطريقة المعهودة، فاستحسنوها وأخذوا بها وألبسوها لباس الدين، كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء»لقد بحث الكاتب موضوعات الحجاب واشتغال المرأة بالشؤون العامة وتعدد الزوجات والطلاق، ووظف لما ذهب إليه آيات قرآنية توظيفا غير سليم؛ وتلخص منهجه في محاولة التوفيق بين الإسلام وبين مذاهب الغربيين في مرحلة أولى، وعندما جُوبِهَ الكتاب وصاحبه بمعارضة شديدة، انتقل الكاتب إلى مرحلة ثانية أكثر جراءة كشفت عن منطلقاته وأهدافه. ففي كتابه اللاحق «المرأة الجديدة»([6]) ظهر أثر الفكر الغربي واضحا؛ حيث دعا إلى التزام مناهج البحث الأوربية الحديثة التي ترفض المسلمات العقدية السابقة، سواء أكان مصدرها الدين السماوي أم غيره، ولا تعترف إلا بما ثبت بدليل من تجربة أو واقع، وهو ما يدعى «الأسلوب العلمي» الذي يُنسب إلى باحثي الاجتماع الأوربيين. ([7]) إن المنهج العلمي قد يكون محل اتفاق وذلك في العلوم التجريبية كالطبيعة والرياضيات والكيمياء والفيزياء والهندسة والطب… أما العلوم الإنسانية التي تبحث في أسرار النفس البشرية والعلاقات الاجتماعية والقيم الخلقية، فلا يتصور فيها وجود منهج موحد، بل إن علماء الغرب أنفسهم لم يتفقوا على منهج واحد لدراسة الإنسان وما يتعلق به من جوانب نفسية وفكرية وخلقية. ولعل من هذه الدراسات ما هو مسخر لخدمة أفكار ونظريات ربما كان من أولى أسسها محاربة الدين وهدم القيم والمبادئ الخلقية. ([8]) وهذا ما اتبعه قاسم أمين في منهجه الملتوي ، وأراد أن يظهر بمظهر مجدد العصر الذي تلمس مكمن الداء واضعا يده على الجرح، ولم يملك أدوات الاستنباط التي تؤهله لولوج ميــدان الاجتهاد. ([9]) ولذلك فإن ما أورده من أدلة – سواء أكانت نصوصاً قرآنيةً أم تاريخيةً أم عقليةً – تعامل معه تعاملاً موجهاً لخدمة أفكاره المسبقة تحت ذريعة فتح باب الاجتهاد للنهوض بالمجتمعات الإسلامية. وهو – على الرغم من أنه كان يوظف بعض حقائق الواقع في تشخيص أحوال الأمة وما تعانيه من أمراض – فإنه لا يلبث أن يعرب عن مقصده؛ إذ يدعو صراحةً – وفي افتتان شديد – إلى الأخذ بالحضارة الغربية وأساليبها. فبعد أن رد سبب الإعجاب الشديد بالماضي إلى الشعور بالضعف والعجز، قال : « هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له دواء إلا أننا نربي أولادنا على أن يتعرفوا على شؤون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها. إذا أتى ذلك الحين – ونرجو ألا يكون بعيدا – انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أنه من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسسا على العلوم العصرية الحديثة، وأن أحوال الإنسان مهما اختلفت – ماديةً كانت أو أدبيةً – خاضعة لسلطة العلم؛ لهذا نرى أن الأمم المتمدنة – على اختلافها في الجنس واللغة والوطن والدين – متشابهة تشابهاً عظيماً في شكل حكومتها وإدارتها ومحاكمها ونظام عائلتها وطرق تربيتها ولغاتها وكتابتها ومبانيها وطرقها، بل في كثير من العادات البسيطة كالملبس والتحية والأكل. وحملنا على أن نستلفت الأنظار إلى المرأة الأوربية ». [10]) إن الثورة التي دعا إليها قاسم أمين لم تقتصر على ميدان الاجتماع، بل شملت مجالات كثيرةً أهمها الأدب واللغة؛ فقد كان من الداعين إلى كتابة الآداب باللهجات العامية، ولا يخفى ما في هذه الدعوة من محاربة للغة القرآن التي أراد لأصحابها أن ينسلخوا منها كما انسلخت الأمم الأوربية الحديثة عن لغتها الأم ( اللاتينية ) . ومحاربة لغة القرآن الكريم موقف عدائي ضد الإسلام نفسه؛ لأن الوسيلة الضرورية لفهم هذا الدين ومعرفة أحكامه وما ارتبط به من علوم، إنما هي اللغة العربية الفصيحة كما نزل بها القرآن الكريم على خاتم الأنبياء عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.