لم تكن خسارة الأدب العربي في وفاة الدكتور زكى مبارك - رحمه الله - هينة ولا بالتي يمكن أن تعوض . . ويعالجونها بيانها عن الطبع؛ وان هؤلاء العشرة البررة متى خلت أمكنتهم في الأجل القريب أو البعيد، من يحمل عنهم أمانة البيان، ويبلغ بعدهم رسالة الأدب، والشاعر المتغزل، ربيب سنتريس، وحبيب باريس وطبيب ليلى المريضة في العراق (الدكاترة) زكى مباركولا ريب أن أدب زكى مبارك سينال ما يستحقه من دراسة الباحثين وعناية المؤرخين، ويحتل مكانه اللائق به بين أدباء جيله، واترك لأصدقاء زكي مبارك أن يرثوا الصديق الوفي، ولتلاميذه وعشاق أدبه أن يدرسوا الكاتب البليغ، ومن الأزهر إلى الجامعة، . . فبادله أهله المحبة والإعجاب، . . .تحية وفاء إلى تلك الروح اللطيفة المرفرفة فوق بغداد. . .ترجع صلة الدكتور زكى كبارك بالعراق إلى عهود دراسته الأولى يوم عنى بالأدب العباسي وشغل نفسه أعوام طويلة بأدباء العراق، فبث هذه الدراسة في محبة العراق، واسترعى تاريخه الحافل تفكيره وألهب خياله. وقد خاطب العراقيين ذات مرة في بعض محاضراته العامة قائلاً: (وأنا في الواقع تلميذ بغداد قبل أن أكون تلميذ في القاهرة أو باريس، فإن رأيتم صراحتي فلا تلوموني، فاللوم على أسلافكم الذين شرعوا مذاهب العقل والمنطق)حتى إذا دعي - رحمه الله - إلى التعليم في دار المعلمين العالية ببغداد سنة 1937 رحب بذلك قائلاً: إن من العقل أن اعرف جوانب من الشرق بعد أن عرفت جوانب من الغرب. وصح عندي أن الهجرة إلى العراق قد تشرح دقائق الأدب في العصر العباسي، وليس من المقبول أن يصح لمثلى أن يصف باريس عن علم، ويصف بغداد عن جهل.وشد رحاله إلى بغداد، وأحدثت زيارته فيها حركة أدبية ونشاطاً فكرياً بما كان يبثه قلمه - على عادته أيان كان - في صحافة العراق ومجتمعاته وأنديته من حيوية وحركة. وحتى صحت لنفسي أخطاء كثيرة في فهم الأدب والتاريخ)قضى زكي مبارك في العراق تسعة أشهر حافلة بالعمل زاخرة بالإنتاج، ولم يقف نشاطه في حدود عمله الرسمي، أو دروسه في دار المعلمين العالية، وإلقاء عشرات المحاضرات. وقد عنى - رحمه الله - بشئون العراق الفكرية والثقافية عناية عظيمة، فدرس الأدب العراقي عن فهم وروية، وكتب عن المرأة العراقية ونهضتها، وتبنى فكرة إنشاء الجامعة العراقية، وتحمس لها أكثر من العراقيين، ودعا إليها في كل مناسبة - وأحياناً بدون مناسبة أيضاً - ولعله كان أول من دعا لها ووجه إليها أنظار المسؤولين، وحملهم على التفكير الجدي فيها. وتطوع - رحمه الله - لتصحيح ما كان خاطئا من الآراء والمعلومات عن العراق في البلاد العربية، فكان على قوله (من صور العراق في مصر، ومن صور مصر في العراق) وكان رسول الأخوة العراقية المصرية، أدى بقلمه ما لا تؤديه سفارات ولا معاهدات، قال في المصريين - وهو شاهد من أهلها - (إن المصريين يفدون إلى العراق وليس في صدورهم ثروة غير الحب، ومن أجل هذا يحبهم العراقيين، فإن سمعتم أن مصرياً شقي في العراق فاعلموا أنه مصري مزيف)كما قال في أهل العراق - وهو الخبير العارف بهم - (إن العراقيين يحبوننا اصدق الحب، فليعرفوا جيداً إننا نحبهم ونتمنى لهم كل الخير، وننظر إلى بلادهم نظر الأخوة الصادقة التي لا تضمر غير العطف والصدق).وطلب إليه أن يلقى في بغداد محاضرات أدبية عامة، ولما رآه من شبه بين شخصية الشريف الرضى وشخصيته في تدفق الإحساس وكآبة العاطفة وغدر الزمان، فأدى بذلك خدمتين جليلتين، الأولى للأدب العربي، والثانية للعراق لما جره الحديث من ذكر العراق ووصفه وتاريخه. وكان - رحمه الله - بما عرف عنه من اندفاع الشعور وحدة العاطفة ورقة الطبع قد درس الشريف الرضى ودعا الناس إلى دراسته ودلهم على مواطن العبقرية والعظمة في شعره. ولكنه كان أول من صدق أقواله فيه، حتى قال عند تقديمه المحاضرات مجموعة في كتاب،وفي بغداد نظم قصيدة ألقاها في (نادى القلم العراقي) يقول إنها أعظم ما نظم في حياته عنوانها (من جحيم الظلم في القاهرة إلى سير الوجد في بغداد) ومطلعهاوفدت على بغداد والقلب موجع .وقال - رحمه الله - في (وحي بغداد):