ا نستطيع أن نُنكر أن القرن التاسع عشر الميلادي (الثالث عشر الهجري)، وكان الاستعمار يسعى إلى تعميق هذا التخلف من جانب، وهما أمران يؤدي أحدهما إلى الآخر، فما دام المؤمن بالإسلام - كما يزعمون - متخلفًا، فمن الطبيعي أن يأخذ عن المتقدمين الذين يستعمرون بلاده ويسيطرون عليها: سياسيًّا وتربويًّا واجتماعيًّا. القائم على الذوبان في حضارة الغرب، بينما رأى كثيرون للأسف ضرورة الثقة في ديننا وحضارتنا بطريقة جامدة، لا تسمح للتطور أن يتفاعل مع الموروث الأصيل؛ حتى يتمكَّن الأصيل من مواجهة العصر، وصناعة إنسان وحضارة مختلفين يأخذان صحيح التراث، وصحيح الحضارة الأوروبية، فيتحرك بالتالي النقل والعقل معًا، وكلا الطرفين تصلَّب في موقعه، فهذا ماضَوِي يعيش في القرون الماضية غير متفاعل مع التراث تفاعلاً عصريًّا، وذاك ساجد في قِبلة الغرب - بخيره وشره - كما ظهر عند بعض المتشنجين في لبنان ومصر. وكان الشيخ محمد عبده في بدايات حياته قد عانى من جمود الدراسة في الأزهر، وفي المسجد الأحمدي في طنطا بخاصة، فقد جعل الفقهاء كتب الفقه القديمة وكتبهم - على علاتها - أساس الدين، فانصرفت الأذهان بالتالي عن القرآن والحديث، وقد رأى الإمام بقاء الأزهر على حاله مُحالاً، فلا بد من إصلاح شأنه، وظُلِمت بالتالي علوم الإسلام وبقية العلوم. وقد وضع الشيخ محمد عبده لائحة لإصلاح الأزهر، يهدف منها إلى حذف الحشو الموجود في المناهج، وإضافة علوم جديدة يستفيد منها التلميذ، كذلك عدم معاملة التلميذ بالقسوة والإهانة؛ حتى نُنمي فيه الكرامة والاعتزاز بالنفس، كذلك النظر في القائمين على التدريس، وأن يجعلوا هَمَّهم الأكبر هو مستقبل الجيل الذي يعلِّمونه، وليس الحصول على الراتب الشهري. إنه الجيل الذي يجب أن ينشأ صاحب نظرة في كل ما يحيط به، بعيدًا عن أن يكون مجرد آلة للصانع؛ ليصبح هو الآلة والصانع والبدن والرأس في آنٍ واحد. ونعتقد أن الإمام كان أكثر توفيقًا من الدكتور محمد عمارة الذي خالَفه في بعض آرائه؛ رغبة منه في الاعتماد على السياسة بطريقة كبيرة لا يميل إليها الإمام محمد عبده[1]، كما كان الإمام موفقًا في النظر إلى التربية الدينية على أنها أساس يَسبق التربية في مجال الزراعات والصناعات والتجارات، وهو رأي اختلف فيه معه أيضًا الدكتور محمد عمارة الذي بالَغ، فوصَف موقف الإمام بأنه موقف شديد المحافظة؛ يُنكر دور العلوم الدنيوية في تأديب النفس وإحيائها، ويستغني عن الاستفادة من التراث الإنساني، ووصفه أيضًا بالتالي بأن أُفقه ليس رحبًا، يكتفي بالتركيز على أمور الدين بطريقة لا تخلو من غُلوٍّ في تقدير جانب من العلوم، والتقصير في تقدير جوانب أخرى[2]. يقول الإمام محمد عبده: وكان الحق فيكم وكان المجد معه. فيظن قوم أنه علم الصناعة، وهذا ظن باطل، فإنا لو رجعنا إلى ما يشكوه كل منَّا، إن الصناعة لو وجدت بأيدينا، نجد فينا عجزًا عن حفظها، وإن المنفعة قد تتهيأ لنا ثم تنفلت منا لشيء في نفوسنا، والغفلة عن المصلحة الثابتة، وكل أدبٍ لها هو في الدين، فما فقَدناه هو التبحر في آداب الدين، وما نحس من أنفسنا طلبه هو التفقُّه في الدين، ولكنا نطلب علمًا مرعيًّا ملحوظًا، عرَفت مقامها من الوجود، فانتصبت لنصره، وأيقَنت بحاجتها إلى مشاركيها في الوطن والدولة والمِلة، وتخليص ما خلطنا، فهذه كتبنا الدينية والأدبية حاوية لما فوق الكفاية مما نطلب"[3]. وهذا النص فيه دَلالة على طبيعة أسلوب محمد عبده في فن المقالة التربوية، فالأسلوب - مع تطوره وخلوِّه من السجع - متأثر بكتابات سابقيه ومعاصريه، وفيه الدلالة على الأسلوب السائد في عصره، بل نكاد نزعُم أن هناك تناغمًا بين أسلوب الأفغاني، ومحمد عبده (في مرحلة ثوريته الأفغانية)، مناسب للعصر. وجدير بالذكر أن الدكتور محمد عمارة قد اعترف بأن النظرة الدينية للإمام لا تعني أن الرجل كان داعية تعليم ديني فقط؛ لأن الإمام فرَّق بين (التعليم الديني) والتعليم المؤسس على مبادئ الدين، وهذا يعني أن التعليم المدني يجب أن يَستجيب لظروف عصره، ويقيم مع التعاليم الدينية الصلات التي يُنبه على ضرورتها الأستاذ الإمام، وبهذا يقترب الدكتور عمارة مما قصد إليه محمد عبده، والغايات الربانية الإنسانية كهدف. وما ضلَّ التعليم في الشرق والغرب، وكاد يدمر الإنسانية إلا عندما فقَد هذه المفاتيح الدينية. ويرى الشيخ محمد عبده طبقية التعليم، فليس كل الناس قادرين على التعليم الروحي أو الإبداعي، وهي وجهة نظر أثبَت الواقع الذي نعيشه اليوم صِدقها، وأعضاء المحاكم،