1) في العصر الجاهلي: حظي الطلل في الشعر الجاهلي مكانا مهما ببعديه الجغرافي و النفسي لدى الشعراء، كما اتخذ المكان بنية شعرية تضفي على النص صورا متعددة تتجلى في ذات الشاعر، إذ تطرق ابن قتيبة لتوضيح تجليات المكان في الشعر القديم فبدأ الحديث عن ذكر الديار و الرحلة ، و من أهم الشعراء الذين تناول المكان في شعرهم من خلال مقدمات الطللية، نجد امرؤ القيس في معلقته ذكره للطلل حيث وقف و استوقف و بكى و استبكى في البيتين التاليين : قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرى حَبِيْبِ وَ مَنْزِلِ بِسِقْطِ اللِوَى بَيْنَ الدَخولِ فَحَومَلِ فَتُوَضِحُ فَالمِقْرَاةُ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا لَمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبِ وَ شَمْأَلِ فالشاعر من خلال هذه الأبيات يخاطب من كان يسيران معه طالبا منهما الوقوف من أجل البكاء لتذكير حبيبا افترق عنه و منزل خرج منه و يظهر في الموضعين (الدخول، فحومل) فيعدد الأماكن التي تذكره بالمحبوبة فيبكي و ينقل تجربته إلينا على الصعيد النفسي و فيه مشاركة الأخرين على الصعيد الاجتماعي و بالتالي هذه الأماكن تركت في نفسيته أثر في مشهد تعداد الطلل. 2) في العصر صدر الاسلام: في العصر صدر الإسلام ظاهرة الطللية تبرز مدى تمسك الشاعر بالمكان الذي يعد جزء من حياته كما أنها غيرت رؤيته من خلال تأثره بثيار الإسلامي الذي تميز بالعقيدة و التوحيد بحيث جعلته يذكر الأماكن المقدسة بعيدا عن اللهو و الغزل و يتلفظ المكان بوضوح و تعبير "و لقد بين حسان بن ثابت في ابداعه الشعري التجدد الذي يستطيع الشاعر أن يغير من المعاني التي عدت تقليدا في الوقفة الطللية، لتعطي معاني تجارب حياتية مجتمعية عاشها الشاعر و هو يشعر بانتماءات شكلت بمجموعها هويته بل هوية عصره في صدر الإسلام، إذ يقف حسان بن ثابت بعد رحيل الرسول – صلى الله عليه و سلم – من الديار برحلة الموت ، يقف على الآثار التي تركها النبي في المكان الذي يشكل عمق انتماء الشاعر له ". و في مطلع قصيدته "بوركت يا قبر الرسول" : بِطَيبَة رَسمٌ للرَّسولِ و مَعْهَدُ مُنِيرٌ وَ قَدْ تَعْفُو الُّرُّسومُ وتَهْمَدُ وَلا تَنْمَحِي الآيَاتُ مِنْ دَارِ حُرْمَةٍ بِهَا مِنْبَرُ الهَادِي الذي كَانَ يَصْعَدُ وَ وَاضحُ آثَارِ وَ بَاقْي مَعَالمٍ وَ رَبْعٌ لَهُ فِيْهِ مُصَلّى وَ مَسجِدُ يعبر الشاعر حسان بن ثابت رضي الله عنه من خلال الأبيات رثاءه لرسول الله – صلى الله عليه و سلم- عن حزنه لوفاة الرسول الكريم فيذكر(طيبة) مدينة الرسول – صلى الله عليه و سلم- و(مسجد) الذي تلى فيه القرآن الكريم و هذه الأماكن تشهد على عظمة الرسول الله– صلى الله عليه و سلم – فهي مضيئة و باقية كدليل لعظمة الرسول الكريم و لهذا وقف الشاعر أمام قبر الرسول الكريم يبكي علىفراقه و يدعو بالبركة للمدينة المنورة التي أقام بها الرسول الكريم. نجد في هذه الأبيات أسماء الأمكنة (طيبة/دار حرمة/ ربع/ مسجد) التي تبقى صورتها في ذاكرة الشاعرة مختزنة بكسب مرور الوقت . 3) في العصر الأموي: يتجلى رثاء المكان في العصر الأموي برؤية خاصة تظهر ارتباط الشاعر الأموي بالمكان منذ لحظة وجوده في الحياة و هذا الارتباط يجعل شعوره بالألفة و جزء لا يتجزأ منه و عند رحيل يصفه بالمقفر، فالشاعر حينما يتذكر ماضيه يستعين بالحبية التي هي بمثابة مكان له ، أي يستدعي كل منهما الأخر فالمكان مجرد صورة للحبيبة و لذلك نجد "قيس الملوح" من خلال ديوانه "مجنون ليلى" في وصفه للمكان من خلال البيتين التاليين : أَبُوسُ تُرابَ رِجلكِ يَا لُوَيْلِي وَ لَوْلاَ ذَاكَ لاَ أَدَعِي مُصَابَا وَ مَا بَوسُ التُرَابَ لِحُبِ أَرْضِ وَ لَكِنَ حُبَ مِنْ وَطِيءِ التُرَابَا توضح هذه الأبيات تعلق الشاعر بأرضه و ترابها و قفارها التي ساهمت في حب ليلاه و تلبية طلبه و جعله يقبل الأرض لمدى تمسكه و ارتباطه من خلال تكرار لفظتي (التراب/ الأرض) ليؤكد حبه و قداسته لمكانه. 4) في العصر العباسي: يعد رثاء المدن من أهم الأغراض الشعرية التي ظهرت في العصر العباسي فمن خلالها يعبر الشاعر عن صدقه و عاطفته فالرثاء المدن لقول عزالدين اسماعيل أنه جديد من جهة كما أن علاقة الإنسان بالمدينة لم تكن وطيدة و لم تشهد المدن الإسلامية قبل هذا العصر الدمار و التخريب ما شهدته مدن العراق في هذا العصر فالمدينة في العصر العباسي تمثل كيان له معنى و وجود في نفوس أهلها مرتبطة بروابط مادية و معنوية تولد في نفسيتهم شعور انساني نبيل إزاء المدينة و عبروا عن ما رأوه من دمار و خراب. هَلِ الحَدتُ الحَمراءُ تَعرِفُ لَونَهَا وَ تَعْلَمُ أَيُّ السَّاقِيَيْنِ الْغَمَائِمُ؟ سَقَتهَا الغَمَامُ الغُرُّ قُبْلَ نُزُولِهِ فَلَمَّا دَنَا مِنْهَا سَقَتْهَا الْجَمَاجِمُ بَنَاهَا فَأعلَى و اَلقَنَا تَقْرَعُ الْقَنَا وَ مَوْجُ المَنَايَا حَوْلَهَا مُتَلاَطِمُ يتحدث الشاعر عن القلعة التي تلطخت بالدماء و صارت حمراء كما يوضح أن قلعة الحدث سقتها الغيوم مطراً قبل بداية المعركة أما بعد المعركة تحولت إلى جثث و جمام و دماء. و من خلال هذه الأبيات تم توظيف لفظة (الحدث) التي تعد مكان بالنسبة للشاعر. 5) في العصر الأندلسي: تعد الأماكن الأندلسية جزء من شعر الرثاء الأندلسي أي أخدت الأندلس خطوات واسعة في الحضارة المادية، فثراؤها ساعدها في وفرة كل من البساتين و الثمار و كثرة المعادن كما تناول الشاعر الأندلسي موضوع المدينة التي لها علاقة بما يحيط بالشاعر و تخلدا في وصفها بأسلوب مرن و سلس، و من أبرز الشعراء الأندلسيين برع في وصف المكان هو "ابن خفاجة " الذي تميز في وصفه للطبيعة و أطلق عليه لقب "شاعر الطبيعة". و يقول في هذا الصدد : فابن خفاجة محب لوطنه و معجب ببلدته لهذا استهل ب (أندلس) التي تعد بلده و ملجأه. 6) في العصر الحديث: ظهر المكان في العصر الحديث بصيغة مغايرة عن الطلل التي كانت مطلع قصائد شعراء العصر القديم، "فالمكان بمعنى الوطن خاصة قد أصبح جزء من التجربة الحياتية للشاعر،