نعمة الألملندع الآن جانبا وصف ما كان من الخلاف بين علماء النفس في الألم، والفرق بينه وبين اللذة، ولندع كذلك بحوثهم الطويلة في تقسيم الألم إلى أنواع فنوع منه كالذي نشعر به عند وجع الأسنان، ونوع كالذي نشعر به عند الفشل في محاولة، إلخ. ولا يهرب من شيء غيره، وأنه حين يفر من لذة فإنما يفعل ذلك لطلب لذة أكبر منها، وأنه حين يتحمل الألم فإنما هو يفر من ألم أكبر منه، أو يتطلب بألمه لذة أكبر مما تحمل، لندع هذا كله، وأثر الألم فيها، فيخيل إلي أنا مدينون للألم بأكثر مما نحن مدينون للذة، إن شئت، فتعال معي نبحث في عالم الأدب : أليس أكثره وخيره وليد الألم؟ أوليس الغزل الرقيق نتيجة لألم الهجر أو الصد أو الفراق ؟ . ذلك الألم الطويل العريض العميق، تتخلله لحظات قصيرة من وصال لذيذ، وأصدق قولا، وأشد في نفوس السامعين أثرا ولو عشق الأديب فوفق كل التوفيق في عشقه واسعفه الحبيب دائما ومتعه بما يرغب دائما، ولم يخلف لنا أدبا ولا شبه أدب، ولو كان مجنون ليلى عاقل ليلى لكان كسائر العقلاء، والألم من أن يعد من سقط المتاع، والتطلع لأن يكون له الصدر أو القبر؟ وعلى هذا المحور دارت حياته ودار شعره، ولكان سقاء كأبيه، يروي الماء ولا يروي الشعر. وأبقى اسمه قوة حسه. ولو شئت لعددت كثيرا من أدباء العرب والغرب، وحينا ألم النفي، إلى غير هذا من أنواع الآلام. وطرفة، وفكاهة العابثين، وكان غنى ابن المعتز ولذته ينبوعا صافيا لحسن التشبيهات، وخلف الألم أدب المأساة (التراجيديا)، ولكن أي الأدبين أفعل في النفس؟ وأيهما أدل على صدق الحس؟ وأيهما أنبل عاطفة؟ وأيهما أكرم شعورا؟ أي النفسين خير أمن يبكي من رؤية البائسين، فعطف عليه، أو هزأة فضحك منه؟ على أني خشيت أن تكون اللذة التي أخرجت الأدب الضاحك ليست إلا ألما مفضضا، وجحيما في ثوب نعيم. ثم تعال إلى الحياة الاجتماعية، ألست ترى معي أن خير الأمم من تألم للشر يصيبه، وأصدقهم حسا، وأشد منهم سخطا، لأن ألم نفسه مما يرى بهم،ومن نعم الله أن أوجد أنواعا من الألم هي آلام لذيذة، تتطلبها النفوس الراقية وتتعشقها. ولو عرض عليها أن تعوض عنها لذائذ صرفة لما قبلتها، لرفض في غير تردد، ما اختار من حياته بديلا؛ وأصبح يهيم بهذا الألم اللذيذ، ويرى اللذة الصرفة لذة أليمة،