ثالثاً ـ التأزم الخلقي : أو غير مهم؟ . المركز المحوري الذي احتلته (الروح) على مدار آلاف السنين غادرته منذ أكثر من مئة عام، وصار ينظر إليها اليـوم على أنها وهم أو خرافة من خرافات الماضي، وصار الإنسان في القرن العشرين، يقبل دون جدل بأنه لا شيء في هذا الكون إلا الطاقة والمادة المعروفتان. . . لكن يصح القـول أيضاً: إن الخطط التنموية في معظم البلدان الإسلامية، لا تعكس اهتماماً خاصاً بهذه المسألة عما ذكرناه لدى الآخرين، وما نراه من اختلاف يعود إلى جهود فردية وشعبية في أكثر الأمر . حتى السلوك الشعبي في العشرين سنة الأخيرة، وعلى المستوى النظري، . . هي الأخرى، وأعتقد أن مصادر الأزمة الأخلاقية عديدة، ولعل أهمها ثلاثة ، هي : 1 ـ المسألة الحاسمة في مجال الأخلاق، والجهـة التي ستتولى الإثابة أو العقوبة عليها في العالم الغربي ذهب معظم الفلاسفة إلى أن واضع القيم هو الإنسان، وهذا في الحقيقة يجعل الأخلاق والقيم أسيرة لأهواء البشر وملونة بألوان البرمجات المحلية ومقولات البيئات الثقافية المختلفة، والمصالح الحيوية . . . وهذا كله يحرم الأخلاق من وشاح القدسية والاحترام، ويجعل المثيب والمعاقب عليها مجهولاً في أكثر الأحيان ؛ وهذا ما يحدث في شتي أنحاء العالم! . ه يقول (فوكوياما): «لقد غدا الأمريكيون مشغولين بصحة أبدانهم : ماذا يأكلون ويشربون، وفي أي شكل يبدون أكثر من انشغالهم بالمسائل الأخلاقية التي كانت تقض مضاجع أجدادهم». مثل الاستقامة والتواضع، والشجاعة والنزاهة، والقاعدة الذهبية : «عامل الناس كما تحب أن يعاملوك، .. أو أن ينعموا بالسعادة إلا إذا تعلموا هذه المبادئ ، قوياً أمام التقدم؛ فقد افترضت (الحداثة العربية) أنه يجب بناء كل نشاط على العلم، واعتبرت كل ما لا يخضع للمعايير العلمية جزءاً من أوهام الإنسان القديم، وعاملاً من عوامل استلابه، وهي تحث على الكسل والتعصب، وتؤكد على العاطفة والروح، وتقتل العقلانية والموضوعية، وهي على نحو عام سبب فقدان العرب مقدرتهم على استيعاب الحضارة الحديثة، ومنشأ روح العبودية فيهم . وهذا التقليص ـ كمـا يقـول د. غليون ـ للتجـربـة الإنسانية والفردية والاجتماعية، ولم تحرز التقدم المنشودا . أصحاب الفائدة من الاندماج في الحضارة الغربية، والمالكون للقـوة الغاشمة رحبوا بفكرة إنهاء المنظومة الخلقية الإسلامية ؛ لأن ذلك يسهل السبل أمام ازدهار تجارتهم ونفوذهم، ويوجد إمكانية كبيرة لاستخدام قوتهم، والوصول إلى مصالحهم دون قيد؛ كانوا ـ وما زالـوا ـ يعتقدون أن التمسك بالأخلاق والقيم الإسلامية والإنسانية ، ويحول دون تدمير المدنية الإسلامية، وجعل أهلها هامشاً ضئيلاً على متن الغرب المنتصر . - جـ ـ المصدر الثالث لتأزم الأخلاق في عصرنا هذا، وعدم لقد أرسلت يفقد تدريجيا قدرته على ممارسة الضغط الأدبي على المنحرفين من أبنائه ؛ لأن الذين سيمارسون الضغط، يصبحون آنذاك قلة قليلة، وموقفها نفسها يصبح موضع تشكيك ، ويتحولون من قوة نافذة إلى قوة غريبة (فطوبى للغرباء) بل إن (الفتوى) نفسها قد تتراجع حيث تكثر الضرورات، ويتضخم ما تعم به البلوى، ريتراجع المصلحون من موقع إلى موقع؛ فالمشكلات الخلقية في عالم يسوده الغني والحرية والاكتشاف، وهو بدون أي عقيدة دينية ـ لا بد أن تكون مغايرة للمشكلات الخلقية في بلد فقير ، تنتشر فيه البطالة والخرافة والعصبية القبلية والظلم . فالأفكار والعقائد والأوضاع المعيشية والسياسية . . . تنعكس على نحو مباشر على الأوضاع الخلقية، وتتنوع هذه الأخيرة بتنوعها. تختلف من بلد إلى آخر، يعاني بلد آخر من الآثار الخلقية للفقر والبطالة، . . فتأمين الحاجات الضرورية هو شغلهم الشاغل، وامتلاك بيت يؤوي الواحد منهم فيه عياله، صار يعد اليوم عبارة عن لقد أرسلت إن الفضيلة ـ في معظم الأحوال ـ هي شيء يقع بين رذيلتين، والكرم وضعية يحدها من أمامها السرف والتبذير، والاحتياط الشديد في التدبير ؛ وهكذا. وكثير من الشباب الذين قذفت بهم الثانويات والجامعات إلى معترك الحياة ، . . وهذا كله لا يشكل الوسط الصالح للاستقامة الخلقية، حين يعيش المرء في مجتمع يقتات معظم موظفيـه من وراء الرشوة، وحجة أن فلاناً (التقي) يفعله؛ ولذا فإنه لم يعد حراما، . . ولا يخفى أن ألفاظ الثناء في الشارع الإسلامي، فعلى حين كان الناس يقولون : فلان آدمي وابن حلال وطيب، لقد أرسلت نصر كبير في معركة شرسة؛ وقد صار كثيرون منهم أشبه بالحيوان البري الذي يقضي حياته في حديقة حیوانات؛ بل هو معزول عن أعماق ذاته ! . ـ يعاني السواد الأعظم من المسلمين من ضعف الإحساس بـ (الواجب) وهو المبدأ الذي يتجاوز المصلحة المباشرة والفردية؛ وقدرته على الالتزام تجاه غيره، ـ هناك فريق كبير من المسلمين ، يعاني على الصعيد الحضاري من ذبول روح المدنية لديه، . . وهو نزوع ذو أثر سلبي على الإحساس بالمصلحة الوطنية، ـ هناك سلوكات خاطئة، أخذوا يعرضون عن النقص في كينونتهم الإيمانية والأخلاقية بالاتجاه نحو المزيد من الاستهلاك البذخي والترفي، بالإضافة إلى رغبة قوية في الاكتناز بشراء العقارات والقصور وشراء السيارات الفاخرة . . . ـ على الرغم من سهولة الاتصال بين الناس، تجتاح كثيرين منهم وهناك اندفاع متزايد نحو البحث عن الخلاص الشخصي بعيداً عن خلاص الجماعة ـ المجتمع ـ مع أن الأدبيات الإسلامية في هذا الشأن، تعلمنا أن من غير الممكن الحصول على تقدم فردي حقيقي في وسط منهار . لا تقل حيث إن التقدم الحضاري من غير قاعدة روحية وخلقية، وما يتحقق منه، موجودة، وما يتقنه ؛ مما أنتج تعاظم الملكية ونشوء مجتمعات الوفرة والخدمات والجامعات والمصانع . ولكل من تواصل معه من شعوب الأطراف . معان محايدة عقائديا وأخلاقيا، وقد تكون في اتجاه الأسوأ؛ فالبنية الجسدية في سن الكهولة، في ظل فقد المرجعية العليا، مما يجعل الإنسان منهمكا دائماً في تجارب (الصواب والخطأ) فرح بإنجاز ، ندم عليه، وخوف منه . . وهذا ما نشاهده اليوم في مسائل وقضايا كثيرة . فطر الخالق - جل وعلا ـ الأحياء عليها، حيث يتمكن الكائن الحي من التخلص من مشكلاته، وتحقيق أهدافه، وتحسين وضعيته العامة من خلال ما يمتلك من طموحات وآمال في الانتقال من طور إلى طور. وأمـة الغرب حين مجدت (التقدم) إلى حد العبادة، يحصل لدى الناس تشوق وطموح إلى تعميمه على جوانب الحياة الأخرى . ولا يخفى أن نظرية (داروين) في النشوء والارتقاء ، قد أحدثت زلزالاً في بنية الفكر الغربي، وأوجدت تياراً عميقاً من حب التغيير والتجديد، مما لا يدع مجالاً للشك في أن البشرية تسير دوماً نحو الأفضل، ما دام كل جديدها هكذا! . ليدل على التقدم المادي، ثم اختزل مرة أخرى؛ ليدل على المتقدم الاقتصادي وحده ! وهذا الاختزال المخيف كاف لتحييد المكانة الحيوية لكل جوانب الحياة الأخرى؛ الروحية والأخلاقية والاجتماعية والمعنوية . . . في سبيل التقدم الذي هو أولوية مطلقة، تصبح الراحة من أجل العمل، لقد أرسلت ويصبح إشباع الغرائز ـ بأي وسيلة كانت ـ أمراً مشروعاً، ما دام يؤدي إلى فراغ البال من أجل مزيد من الإنتاج . الربـا يصبح عمود الاقتصاد العالمي، ما دام يسهل الاستثمار - هكذا يظن ، وتفاعل المشكلات البيتية بسبب عمل المرأة، التقدم يستلزم السحب من الرصيد البيئي والحيوي ، من أجل حركة التصنيع ، وما تستلزمه من استهلاك الموارد، وأباح بالتالي التضحية بكل أشياء المراتب الأخرى! . انطلاقاً من الرؤية الغربية في إهمال ما لا يمكن قياسه، تم إهمال الثمن الذي تدفعه البشرية لتأليه التقدم والسعي إليه مهما كانت النتيجة ؛ لأن عائد التقدم محسوس ومباشر، ويمكن قياسه؛ فهو غير محسوس، لو تم تحويل السعادة والطمأنينة والشعور بالاستنارة الداخلية والرفاهية الروحية إلى مؤشرات على التقدم، سيقال لنا: إن السعادة شيء نسبي متغير، وكذا الاستنارة والطمأنينة ؛ وهي تختلف من فرد إلى آخر، فهل هذا يعني أن التقدم شيء والسعادة شيء آخر؟ وإذا كان الأمر كذلك فما الذي ينجزه التقدم للإنسان إذن : التمدد المادي أم التحقق الإنساني؟ لقد أرسلت سيكون أول خطوة على طريق التصحيح والبناء، وهذا ما علينا أن نفعله خامساً ـ تغير المفاهيم : نجد أن هناك تغيراً كبيراً قد شمل عدداً هائلاً من الأفكار والمفاهيم والأحاسيس في كل الحقول المعرفية ، وجميع مجالات الحياة ولا يعني التغير أن تبدلاً تاماً قد حصل في كل شيء فيما سنعرضه، وإنما يعني أن التغيرات التي نتحدث عنها آخذة في التعمـق والانتشار في الأرض كلها، وبعضها سلبي، لكنها جميعاً نشأت بسبب مجمل التغيرات العلمية والحضارية، وما استجد من الصور الذهنية عن البنية الكونية الهائلة، وما حدث من أنماط وأساليب معيشية في حيـاة حيث إن الفهم العميق هو مفتاح التعامل الراشد، وأساس اختيار الموقف الصحيح ، أ ـ كـان (الحاضر) وحده هو الذي يسير معظم حياة الناس؛ ذلك لأن معرفتهم بالماضي محدودة، لا يعني شيئاً، فهم يأكلون وينامون ويمرحون أعمال عندما يشعرون بالرغبة في ذلك . وكان معظمهم يقضون أوقاتهم في بسيطة، لا تحتاج إلى تفكير عقلي، صار علماً مهماً ـ وعند بعض المؤرخين هو علم العلوم ؛ إذ فيه جذور الحاضر ، ولا فهم للحاضر من غير فهمه . كما أن الأمم صارت اليـوم تستخدم معطياتـه العامة على أنها أدوات في تربية أجيالها . أما المستقبل ؛ فبعد أن كان غائباً عن إحساس أكثر الناس، صار هو البعد الأساسي، وصار ينظر إلى الحاضر من خلاله، حيث يسود شعور قوي بأنه لا يمكن ضبط الحاضر، بل إن هناك من المقولات ما يجعل التحقق الذاتي لكل واحد منا مرهونا بحضور بعد المستقبل في ذهنه ومشاعره، وذلك الحضور رهن بوجود ذات تتحرك نحوه؛ لكن تلك الذات ليست جوهراً ثابتاً قد تحقق مسبقاً، ولا تستطيع الذات مهما كانت عظيمة أن تحافظ على تماسكها إلا من خلال إمساكها ببعد المستقبل، فهو موزع على الماضي والمستقبل . ب ـ كان الناس في الماضي حريصين على سمعتهم حرصاً شديداً، من خلال الشائعات والمقولات المرسلة . وكان الناس سريعي التصديق لكل ما يقال . فزلة واحدة من شخص كافية لتكوين محور لنقائص كثيرة، . . لم يكن هذا على صعيد العامة، فحسب، ونتيجة لعدم معرفة أحدهما بجواب سؤال أو سؤالين، يحكم عليه شهود وهكذا يدخل عالماً، وله بعد ذلك أن يعيش مغموماً، وملفوفاً بمشاعر الإحباط، وقد تسوء الأمور ليلقى حتفه كمداً، كما مات ـ كما زعموا - بسبب هزيمته في المسألة (الزنبورية)، ضعف الاتصال، لم يمكن الناس من إجراء الكثير من المقارنات ؛ هذا كله قد تغير اليوم، وأقل اهتماما بنقد غيرهم، حتى قل حياء كثير من الناس، وضعفت قدرة المجتمع على ضبط أفراده وردعهم ، وعلى كل حال فالتغيرات في هذه المسألة تميل إلى الصحة والإيجابية. جـ ـ اختلفت النظرة إلى كبار السن، فقد كانوا هم المرجع في حل المنازعات، كما كانوا يمثلون مستودعات الخبرة المتناقلة عن الأجيال السابقة ؛ مما أعطاهم تميزاً ظاهراً على الشباب. وتوفر الجامعات والمعاهد العليا، انعكس الأمر؛ فالجمهور من الناشئة اليوم أفضل تعلمـاً من جيل الكبار - على نحو عام ـ وقد صار احترام الكبار في السن وتقديرهم نابعاً من احترام السن، وإدارة أوضاعه، فكل ذلك صار من مهارات الأجيال الحديثة . - قال له (1) التقى سيبويه شيخ النحاة مع الكسائي مؤسس المدرسة الكوفية في النحو بحضرة البرمكي، وسأل الكسائي سيبويه : ماذا تقول العرب : كنت أظن أن العقرب أشد لسعة من الزنبور ، الكسائي : أخطأت العرب تقول: فإذا هو هي، وتقول فإذا هو إياها فخرج شيخ النحاة مكسور الخاطر، لقد أرسلت فالكبار يتهمون الشباب بأنهم متهورون، . . ولعل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه ـ قد أشار إلى هذه البلبلة حين قال : «فساد الدين إذا جاء العلم من قبل الصغير استعصى عليه الكبير . وصلاح الناس إذا جاء العلم من قبل الكبير تابعه عليه الصغيرة . وتأملنا في النظرة القديمة للأشياء والماهيات ، وإلى طبيعـة نظر المفكرين والفلاسفة إلى القضايا والمسائل المختلفة ـ وجدنا ـ على نحو واضح ـ اهتماما بذات الشيء وماهيته . ولا يتفكر أصحابه في شروط الاستجابة له، ولا يتحدثون عن تلك الشروط فضلاً عن العمل على توفيرها. والإنسان والظروف التي يعيش فيها . . . دون الانتباه إلى ارتباطاته بالنظم الأخرى؛ فالباحث في علم الاقتصاد، لا يحاول استشفاف العلاقة بين علم الاقتصاد أو النظام الاقتصادي وبين النظام السياسي أو الاجتماعي أو الأخلاقي . اليوم هناك نظرة جديدة أيضاً؛ فمجموعة النظم الحياتية، تشكل في النهاية المناخ الحضاري الذي يغلف كل أنشطة الناس، إلا أنها على مستوى بناها العميقة مترابطة ومتداخلة أكثر مما يظن . مما يمكنه من تقديم رؤي كلية . لقد أرسلت واليـوم يتجه كثيرون إلى الاشتغال بفهم العلاقة بين الثابت والمتغير، ويرون أن جوهر التطور، ويصل الأمر ببعض المفكرين إلى القول : إن (الماهيات) ما هي إلا هبة العلاقات التي تربط بينها. واكتشاف الماهيات سيكون من خلال نقد العلاقات التي تربط بين الأشياء، من خلال التركيز على ما ذكرناه يشيع الآن في الأوساط الفكريـة نوع من الرفض لكل النماذج الجاهزة والأفكار الكلية؛ وإنما عليهم أن يتجاوزوا كل ما هو موجود، لابتداع نماذج جديدة، وهذه النماذج يجب أن تكون طليقة، ومخزون الخبرة الناقصة، ونزوات الهوى خلطة عجيبة، هـ ـ في عصرنا الحاضر تم تغيير كثير من المفاهيم المتعلقة بالنفس البشرية والاجتماع الإنساني، والحياة والموت، والحقوق والواجبات؛ وجذور جذورها، ليجد الإنسان ـ في الغرب خاصة ـ نفسه بعيداً عن أي شيء مقدس ، قريباً من كل ما هو مادي وغريزي ومصلحي . فهو المخلوق في أحسن تقويم ، . . هذا الإنسان يجد نفسه فجأة ومرة واحدة مسلوباً كل ذلك، لقد أرسلت وراجت سوق الصور العارية، وزاد استهلاك الأطعمة. المسلمين لم ينفعلوا بنظرية التطور على المستوى العقدي ، ا وهو حل حيث لا حل، كما أنه البوابة الوحيدة للحياة السرمدية الباقية . ومهما تفاوت الناس، فإنهم أمام المـوت سـواء. ومظهرا من مظاهر العدل الإلهي المطلق ، كان الموت هو الغائب الحاضر ، ويجب على الناس أن يقاوموا أسبابه إلى آخر لحظة . . . ومقاومة الأمراض لن تأتي بالخلود، لكنها كثيراً ما تطيل أمد المعاناة . ارتباك عظيم يواجهه الوعي، وقلق عظيم يقض مضاجع الكثيرين، وكل ذلك من جراء استدبار الوحي، وانهماكهم في الملذات والشهوات وجمع المال ـ دون قيد ـ وأكل حقوق العباد . يتأكد لديك أن هؤلاء لا يفكرون في الموت، وإلا فإنك لن تعثر على أي تفسير مقبول لكل ما هم عليه . كانت رابطة القرابة والجوار والصداقة، لقد أرسلت المشروط، ومواقف التعاون والمروءة والنخوة . . . أما اليوم فقد ضعف وجود كل هذا، أما على مستوى الشعوب والأمم، فإن كل الروابط التاريخية والجغرافية والثقافية قد تكون غير كافية عندما يقع غبن حقيقي أو استغلال مكشوف لمنع نشوب حرب أهلية، بعد أن شعر البنغلاديشيون بنوع من الغبن الاقتصادي والإداري . كثيرة جداً، ويكفي أن نعلم أننا نعيش حياة لم تتبدل، ولكن كل شيء فيها قد تغير ؛ ومن المهم أن نفكر في أبعاد ذلك التغير، سادساً العنف وإرادة القوة : يمكن القول: إن الحضارة الحديثة، لم يحدث ذلك من غير أساس، وإنما كان ثمرة طبيعية لبعض النظريات العلمية والفلسفية والأخلاقية التي ركزت في وعي الإنسان لقد أرسلت الحديث حتمية الصراع في العالم والذي يحتم توفير الطاقة التي يحتاجها الانتصار في معارك، لانهاية لها. أوضح (داروين) في نظريته أن المجتمع الإنساني والطبيعة البيولوجية شيء واحد. وبناء عليه لا بد أن يحكم هذا المجتمع الإنساني القوانين نفسها: قوانين المنافسة والصراع والعدوان؛ وإرادة القوة، أما الشر فهو كل ما يصدر عن الضعف . أن يساعدوا أيضاً على هذا الفناء. وأن أشد الرذائل ضرراً الشفقة على الضعفاء العاجزين. ولهذا كان أبغض شيء إلى (نيتشه) السلام. والحرب عنده أقدس شيء ، لأن الشفقة تقوم عقبة في سبيل قانون (الانتخاب الطبيعي) الذي يقضي بألا يبقى غير الصالح للبقاء! . مفهوم الصراع وإرادة القوة جديد على المجتمعات النامية ـ ولاسيما الإسلامية منها - فالقيم السائدة فيها هي الشفقة والرحمة والمحبة والعناية والتضامن بين أفراد المجتمع ، ، لكن الوضعية الحضارية العامة القائمة على تضخيم المكاسب والتمدد باستمرار - تشجع على التنافس والتصارع، وتجاوز الضعفاء والمساكين . العنف في كل مكان نتيجة انتشار النموذج الفكري والمعرفي الغربي الذي في هذا القرن قام أكثر من (130) حرباً، من (۱۲۰) مليون إنسان لقد أرسلت الإنجاز الإسلامي الضخم في زمان النبي ﷺ والذي تمثل في تحرير مساحات واسعة من الأرض وإدخال أعداد كبيرة من الناس في الإسلام، ذلك الإنجاز لم يخسر فيه المسلمون سوی (٢٥٩) شخصاً؛ وكانت خسائر المشركين نحواً من (٧٥٦) شخصاً فقط ! وذلك لأن الإسلام يدعو إلى الرحمة ونشر الدين بالكلمة الطيبة والمثل الأعلى، ولا يتم إلا في حدود الحاجة . والجاهز للعدوان يعرف كيف يحقق مصالحه مع دعوته إلى سيادة الشرعية الدولية، ونصب موازين العدالة؛ تقوم على أساس تحقيق المصالح عن طريق الاعتماد على النظام والقانون والمسالمة الدولية، فإذا كان بإمكان الغرب أن يصل إلى أهدافه دون إراقة دماء، وكل شيء بقانون، القتل والنهب والسلب والدعارة . لكن دون أدنى قاعدة أخلاقية ! . لماذا استعمار البلدان المستضعفة، . . إذا كان بإمكانك جعل الآخرين يأتون إليك ، فلماذا تذهب إليهم؟ . أمـا سـيـاسـات الأمـر المواقع، من أجل إيجاد واقع معين، رهم ممكنة ، حيث يصبح المتضررون من واقع سيئ مشلولي الحركة بعد ترسخه وحاجته إلى جهود كبيرة كي يتغير ؛