وإذا انتقلنا إلى العصر العباسي فإننا نجد بالإضافة إلى نمو الملاحظات البلاغية محاولات أولية لتدوين هذه الملاحظات وتسجيلها، كما هو الشأن في كتب الجاحظ، وبخاصة كتاب البيان والتبيين». وقد أدى إلى هذه النقلة الجديدة عوامل منها تطور الشعر والنثر بتأثير الحضارة العباسية، ومنها ظهور طائفتين من العلماء المعلمين عنيتا بشؤون اللغة والبيان إحداهما طائفة محافظة هي طائفة اللغويين، وهؤلاء كانوا يعلمون رواية الأدب وأصوله اللغوية والنحوية وكان اهتمامهم بالشعر الجاهلي والإسلامي أكثر من اهتمامهم بالشعر العباسي، وقد هداهم البحث في أساليب الشعر القديم من ناحيتيها اللغوية والنحوية إلى استنباط بعض الخصائص الأسلوبية على نحو ما نجد في كتاب سيبويه من مثل كلامه عن التقديم والتأخير، والحذف والذكر والتعريف والتنكير،كذلك نلتقي بكتاب معاني القرآن للفراء ۲۰۷ هـ»، والذي يعنى فيه بالتأويل وتصوير خصائص بعض التراكيب، والإشارة إلى ما في أي الذكر الحكيم من الصور البيانية . ثم نلتقي بكتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (٢١١هـ) الذي كان معاصراً للفراء، وهذا الكتاب لا يبحث في مجاز القرآن من الجانب البلاغي، وأبو عبيدة هذا هو أول من تكلم بلفظ المجاز، كما ذكر ابن تيمية في كتابه «الإيمان» ولكنه لم يتكلم عن المجاز الذي هو قسيم الحقيقة، وإنما المجاز عنده يعني بيان المعنى. ومع هذا فقد وردت في كتابه «مجاز القرآن» إشارات إلى بعض الأساليب البيانية كالتشبيه والاستعارة والكناية، وبعض خصائص التعبير النحوية التي لها دلالات معنوية من مثل الذكر والحذف والالتفات والتقديم والتأخير. ومع ما اهتدى إليه كل من الفراء وأبي عبيدة من السمات والخصائص البيانية فإن مدلولاتها البلاغية لم تتبلور وتحدد في ذهن أي منهما أو أي من اللغويين والنحاة المعاصرين لهما . أما طائفة العلماء المعلمين الأخرى التي ظهرت في العصر العباسي فهي طائفة علماء الكلام وفي طليعتهم المعتزلة الذين كانوا يدربون تلاميذهم على فنون الخطابة والجدل والبحث والمناظرة في الموضوعات المتصلة بفكرهم الاعتزالي. وكان هذا التدريب يعمق ويمتد حتى يشمل الكلام وصناعته وقيمته البلاغية والجمالية . وقد حفظ لنا كتاب البيان والتبيين للجاحظ قدراً كبيراً من ملاحظات المعتزلة المتصلة بالبلاغة العربية وهذه قد استقوها من مصدرين هما: التقاليد العربية والثقافات الأجنبية التي شاعت في عصرهم واطلعوا عليها. فالثقافات الأجنبية التي أخذوا أنفسهم بدراستها وتعمقوا في فلسفتها ومنطقها قد عادت عليهم بفائدتين لهما أثرهما في شؤون البلاغة : فائدة عقلية بحتة مصدرها دراسة الفلسفة الإغريقية التي نظمت عقولهم تنظيماً دقيقاً أعانهم على استنباط القضايا البلاغية، وفائدة أخرى ترجع إلى طلبهم معرفة ما في ثقافات الأمم الأخرى التي وصلت إليهم من قواعد البلاغة والبيان .