يَتَّفِقُ الصَّرْفيُّون على أرْبعةٍ منها، والأمْرانِ الآخَرانِ مُختلَفٌ فيهما؛ فأمَّا ما يَتَّفِقون عليه فهُو:الأوَّلُ: الاشْتقاقُ (الأصْلُ)،ناءَ يَنَاء) مَقْلوبُ (نأى يَنْأى)؛ فيكونُ وَزْنُ (ناءَ يَناءُ) (فَلَعَ يَفْلَعُ) . فإنَّ التَّوجُّهَ والمُواجَهةَ والتَّوجيهَ والوَجَاهةَ يدُلُّ على أنَّ الكَلِمةَ مَقْلوبةٌ، ويكونُ (جاه) على وَزْنِ (عَفَل). فإِنَّ ورودَ مُفْرَدِه -وهو قَوْسٌ، ورَجُلٌ مُتقوِّسٌ-دلَّ على أنَّ أصْلَه (قُوُوس) ووَزْنُها (فُعُول)، ثُمَّ نُقِلتِ اللَّامُ إلى مَوضِعِ العَينِ، ثُمَّ غُيِّرتْ حَرَكةُ القافِ (الضَّمَّةُ) إلى الكسْرةِ إتباعًا، فإنَّ التَّوحيدَ والوَحدةَ والتَّوحُّدَ يدُلُّ على أنَّ أصْلَه (واحِد)، ثُمَّ نُقلتِ الفاءُ (الواو) لِمَوضعِ اللَّامِ (الدَّال)، ولا يُمكِنُ الابتداءُ بالألِفِ،الثَّاني: التَّصحيحُ معَ وُجودِ مُوجِبِ الإعْلالِ، فإِنَّ تَصحيحَه معَ وُجودِ مُوجِبٍ لإعْلالِ الياءِ، وهُو تَحريكُها وانْفِتاحُ ما قبلَها -دَليلٌ على أنَّه مَقْلوبُ (يَئِسَ)، فيكونُ أيِسَ على وَزْنِ (عَفِلَ)، ويُعرَفُ القَلْبُ هنا أيضًا بأصْلِه،الثَّالِثُ: نُدْرَةُ الاسْتعمالِ، جمعِ رِئْمٍ -وهُو الظَّبْيُ- مَقْلوبِ (أَرْآم)، وعُرِف القَلْبُ مِن نُدْرَةِ اسْتعمالِ (آرام) وكَثْرةِ اسْتعمالِ أرآمٍ، قُدِّمتِ العَينُ (الهَمْزةُ الثَّانيةُ) في مَوضِعِ الفاءِ، ويُمكنُ أنْ يُقالَ: إنَّ عَلامةَ القَلْبِ هُنا وُرودُ الأصْلِ،ذكَر سِيبَوَيهِ عَلامةً أخْرى للقلْبِ، وهَيَ ألَّا تأتيَ الكَلِمةُ المَقْلوبةُ إلَّا مع حُروفٍ زائِدةٍ، فيكونُ المُجَرَّدُ مِنَ الزَّوائِدِ هو الأصْلَ، وعلى ذلك حَكَم سِيبَوَيهِ في (اطمأنَّ وطأمنَ) أنَّ الأصْلَ فيهما طأمَنَ، لأنَّ الزِّيادةَ تُضعِفُ الكَلِمةَ، والكَلِمةُ إذا لَحِقها ضَعْفٌ أسرَع إليها ضعْفٌ آخَرُ، إذْ رأى أنَّ اطمأنَّ هي الأصْلُ؛ويَختلِفُ الصَّرْفيونَ في أمْرينِ:1- أنْ يؤدِّيَ ترْكُ القَلْبِ إلى اجْتِماعِ هَمْزتينِ، وذلك عندَ الخَليلِ بنِ أحْمدَ،أ- في الجَمْعِ الأقْصى لمُفْرَدٍ لامُه هَمْزةٌ قبلَها مدٌّ، فلو لم نَقُلْ بِالقَلْبِ المَكانيِّ، لانْقلَبتِ الياءُ هَمْزةً كما في صَحائِفَ؛ ما يؤدِّي لاجْتِماعِ هَمْزتَين، فيَفِرُّ الخَليلُ مِنِ اجْتِماعِ الهَمْزتَين بالقَولِ بِالقَلْبِ المَكانيِّ، وذلك حتَّى لا يَتوالى إعْلالانِ كما هو رأيُ سِيبَوَيهِ والجُمْهورِ؛ إذْ يَروْن أنَّ الياءَ تُقلَبُ هَمْزةُ أوَّلًا، فتَصيرُ (خطائِئ) بهَمْزتين، وهُو ما وصَل إليه الخَليلُ عن طَريقِ القَلْبِ المَكانيِّ مُتفادِيًا تَواليَ إعْلالَين، ثُمَّ يَشْتركُ الخَليلُ وسِيبَوَيهِ في سائِرِ الخُطواتِ وُصولًا إلى (خَطايا)، وعلى ذلك يكونُ وَزْنُ خَطايا عندَ الخَليلِ -وعلى رأيِه الكُوفِيُّونَ- (فَعَالَى)، ووَزْنُها عندَ سِيبَوَيهِ والجُمْهورِ (فَعَائِل)، ويَرجَحُ رأيُ الجُمْهورِ لأنَّه قد ثبَت عنِ العَربِ النُّطقُ بالهَمْزتَينِ في قولِهم: غفَر اللهُ خطائِئَه .ب- في اسمِ الفاعِلِ مِنَ الأجْوفِ الثُّلاثيِّ المَهْموزِ اللَّامِ،القَلْبُ فيها بأنْ تُقلَبَ اللَّامُ في مَوضِعِ العَينِ، فلا يَحدُثُ الْتقاءٌ للهَمْزتَين؛ ويكونُ الوَزْنُ (فالِع) ثُمَّ (فالٍ)، والَّذي دفَعه للقَولِ بِالقَلْبِ المَكانيِّ الفِرارُ مِن كَثْرةِ التَّغييراتِ وتَوالي إعْلالَين كما في مَذْهبِ سِيبَوَيهِ الَّذي يقلِبُ الياءَ في (جايِئ) هَمْزةً كما في قائِل وبائِع، ويكونُ وَزْنُ الكَلِمةِ (فاعِل) ثُمَّ (فاعٍ) .وقد أيَّد رأيَ الخَليلِ كَثيرٌ مِنَ النُّحاةِ كأبي عليٍّ الفارِسيِّ ، وابنِ عَقيلٍ وأجازَه سِيبَوَيهِ، فقال: (إنَّ كِلا القولَينِ حَسَنٌ جَميلٌ) ، وأيَّد مَذْهبَ سِيبَوَيهِ ابنُ مالِكٍ ،والرَّاجِحُ: أنَّ كِلا القَولَين جَميلٌ، كما ذكَر سِيبَوَيهِ، وإلى هذا ذهَب المُبرِّدُ وابنُ جِنِّي وأبو حيَّانَ .ج- في جَمْعِ اسمِ الفاعِلِ مِنَ الأجْوفِ الثُّلاثيِّ المَهْموزِ، مِثْلُ: جَواءٍ (فَواعِل) جمْعُ جائِية.فقدْ ذهَب الخَليلُ إلى أنَّ أصْلَ جَواءٍ: (جَوَايئٌ)، قُلِبتِ اللَّامُ في مَوضِعِ العَينِ؛ فصارتْ (جَوائِي) بوَزْنِ (فَوَالِع)، ثُمَّ عُومِل مُعامَلةَ (قاضٍ): (جَواءٍ) بوَزْنِ (فَوَالٍ)، أمَّا سِيبَوَيهِ فلا يَقولُ بِالقَلْبِ، وإن أدَّى لاجْتِماعِ هَمْزتَين -وهُو ما فرَّ منه الخَليلُ- إنَّما يَرَى أنَّ أصْلَ جَوَاءٍ: (جَوايِئ) أُبدِلتِ الياءُ هَمْزةً؛ فصارت: (جوائِئ)، فاجْتمَعتْ هَمْزتانِ فأُبدِلتِ الثَّانيةُ ياءً؛ فصارت: (جَوائِي) بوَزْنِ (فَواعِل)، ثُمَّ جرَت مَجْرى قاضٍ: جَواءٍ بوَزْنِ (فَوَاعٍ).والرَّاجِحُ ما ذهَب إليه سِيبَوَيهِ، وهُو ما ذهَب إليه الجُمْهورُ .2- أنْ يُؤدِّيَ ترْكُ القَلْبِ إلى المَنْعِ مِنَ الصَّرْفِ بِلا عِلَّةٍ، وأتى ذلك في كَلِمةٍ واحِدةٍ، وذلك على مَذْهبِ الخَليلِ وسِيبَوَيهِ، فإنَّنا لو لم نقُلْ بِقَلْبِها، للزِمَ منعُ (أفْعَال/ أَشْيَاء) مِنَ الصَّرْفِ من دونِ علَّةٍ؛ إذْ جاءتْ مَمْنوعةً مِنَ الصَّرْفِ في قولِه تعالى: لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ [المائدة: 101] ، فرأى الخَليلُ وسِيبَوَيهِ أنَّ أشْياءَ أصْلُها: شَيْئَاء (فَعْلَاء) مِن لفْظِ شَيءٍ، وهُو اسمُ جمْعٍ كقَصْبَاء وطَرْفَاء، فقُدِّمتِ الهَمْزةُ (لامُ الكَلِمةِ) في مَوضِعِ الفاءِ، فصار أشْياءَ على وَزْنِ لَفْعَاءَ، فَمُنِعتْ مِنَ الصَّرْفِ بالنَّظرِ إلى الأصْلِ،ومَنْ لم يَقُلْ بِالقَلْبِ في (أشياء) ذهَب مَذْهبَين:مَذْهبُ الكِسائيِّ ويرى أنَّها أفْعالٌ جَمْعُ شَيءٍ.ومَذْهبُ الفَرَّاءِ والأخْفَشِ أنَّها (أفْعِلاء) والأصْلُ (أشْيِئَاء) فحُذِفتِ اللَّامُ (الهَمْزة)، ويُخالِفُ أبو الحَسنِ الفرَّاءَ في وَزْنِ (شيءٍ)؛ فأبُو الحَسنِ يَرى أنَّه (فَعْلٌ) كبَيْتٍ، والفَرَّاءُ يَرَى أنَّه مُخفَّفٌ مِن (فَيْعِل)، فخُفِّف كما خُفِّف (هيِّن وميِّت)، فقالوا: (هَيْنٌ ومَيْتٌ) .