أخذت المسيحية تنتشر انتشارا حثيثا بحيث لم يكد ينتهي القرن الأول إلا وكانت كل ولاية رومانية من الولايات المطلة على البحر المتوسط تضم بين جوانبها جالية مسيحية ، بل إن المسيحيين كونوا جالية ملحوظة في روما نفسها منذ وقد مبكر يرجع إلى سنة ٦٤م مما عرضهم لنقمة الإمبراطور نيرون واضطهاده، ولم يقتصر اعتناق المسيحية حينئذ على الطبقات الدنيا من المجتمع الروماني بل امتدت للطبقات العليا التي تمثل الجانب الأرستقراطي في المجتمع الروماني، وأن الطبقات العليا في المجتمع الروماني لم تقبل على اعتناق المسيحية في أعداد ضخمة إلا بعد أن تم الصلح بين الكنيسة والدولة بمقتضى مرسوم ميلان سنة ۳۱۳ م، وهنا نلاحظ أن ظروف الإمبراطورية الرومانية والأوضاع التي أحاطت بها كانت أكبر مساعد على سرعة انتشار المسيحية بين ربوعها . و نشاط التبادل التجاري بين مختلف أجزائها مدنها وأطرافها برباط وثيق ، فضلا عن الأمن والسلام الذين سادا ربوعها هذا كله عدا سيادة اللغة اللاتينية في الأجزاء الغربية من الإمبراطورية ، أجزائها الشرقية ، مما جعل من اليسير انتقال الآراء والأفكار والمعتقدات في سهولة بين مختلف أنحاء الإمبراطورية ، ووصولها إلى أقصى أطراف البلاد . أي أنه يجب على جميع الرعايا - مع اختلاف عقائدهم - أن يعترفوا بعبادة الإمبراطور القائم (وهو اجراء يشبه يمين الولاء للحاكم حاليا) ، ولم يعف من هذا التكليف الأخير داخل حدود الإمبراطورية الرومانية سوى اليهود ، في حين لم يتمتع المسيحيون بهذا القدر من الحرية الدينية ومن الثابت أن المسيحية لم تكن الديانة الأجنبية الوحيدة التي كان على الحكومة ولكن لم يكد ينتهي القرن الأول حتى اتضح الأمر وظهرت الفوارق واضحة بين الديانتين ، كما رفضوا الخدمة في الجيش الروماني ، وهكذا أخذت الحكومة الرومانية تغير نظرتها إلى المسيحيين وتعتبرهم فئة هدامة تهدد أوضاع الإمبراطورية وسلامتها ، فمنعت اجتماعات المسيحيين وأخذت تنظم حملات الاضطهاد ضدهم وكان الإمبراطور نيرون أشد اضطهادا لهم، اذ قدم مسيحى روما طعاما للنار العظيمة التي أشعلها سنة ٦٤ م ، إلى غير ذلك من الاجراءات المشددة التي جعلت المسيحيين يطلقون على الفترة الأخيرة من حكمه عصر الشهداء ، ويبدو أن هدف دقلديانوس من هذه السياسة كان محاولة ذلك أن قيام الكنيسة كهيئة مستقلة أو كدولة داخل الدولة ، أمر يتعارض مع المبدأ الأول الذي أقام عليه دقلديانوس نظامه الذي يقضي بخضوع جميع الرعايا لسيادة الدولة المطلقة. لاسيما بعد أن اعترف الإمبراطور قسطنطين بسياسة الأمر الواقع وأصدر مرسوم ميلان الشهير عام ٣١٣م معترفا بالديانة المسيحية كإحدى الشرائع المصرح باعتناقها داخل الإمبراطورية ، بمعنى أن يتمتع المسيحيون في الإمبراطورية بكافة الحقوق التي تمتع بها غيرهم من أتباع الديانات الأخرى ويضمن للمسيحيين وكافة الطوائف الأخرى حرية اختيار وممارسة العقيدة التي يرتضونها وبذلك ضمن من وجهة نظره رضاء جميع الآلهة والقوى السماوية ، وأمر مرسوم ميلان برد جميع الحقوق الدينية إلى المسيحية التي حرموا منها ظلماً وعدواناً ، وأن تعاد للكنيسة جميع أماكن العبادة والأراضي العامة المصادرة دون جدل أو إبطاء أو تكلفة . واقترن هذا الانذار الصارم بوعد كريم قضي بأن يتم دفع تعويض من خزانة الإمبراطورية وهنا نتوقف قليلا لنتدبر أهمية هذه الخطوة الجريئة التي أقدم عليها قسطنطين، فإذا تذكرنا أن الإمبراطورية الرومانية قامت على أساس وإذا تذكرنا ما نزل بالمسيحية في مختلف الولايات الرومانية من تعذيب واضطهاد ثم ما ترتب على اعتراف قسطنطين بالمسيحية من انتشار سريع لهذه الديانية الجديدة وازدياد نفوذ رجالها حتى أصبحت الكنيسة أقوي هيئة في تاريخ أوروبا العصور الوسطى ، لأدركنا أهمية هذه الخطوة التي أقدم عليها قسطنطين. وهل أصدره عن عقيدة صادقة وإيمان بالمسيحية أم كان مجرد تذكر أن قسطنطين لم يعمد إلا على فراش الموت حيث وضع الأسقف يده على رأسه وأتم اجراء الطقوس الدينية ، ولعل ما دفع المؤرخين إلى هذا الخلط وتعدد رواياتهم سلوك قسطنطين نفسه والواقع أن هناك تدرج بطيء غير محسوس انتهى بإعلان قسطنطين نفسه حامياً للمسيحية فلقد كان من الشاق على وأن يؤمن بالديانة المسيحية. كما توجد أدلة أخرى عديدة توضح استمرار اعتناقه الوثنية، بحيث أن آسيا الصغرى غدت من المراكز الرئيسة للمسيحية في القرن الرابع ، وبذلك دان لسلطانه الجزء الغربي من الإمبراطورية ولم يبق أمامه سوى اخضاع جزئها الشرقي ، حتى تتحقق له السيادة العامة على الإمبراطورية كلها وقيل أن قسطنطين رأى في منامه المسيح ومعه الصليب وأمره باتخاذ هذا الصليب شعارا له خلال الزحف على عدوه ، وكان انتصاره من الدوافع الأساسية لاعترافه بالمسيحية واعتناقها. وتعهد بحماية أرواح المسيحيين وممتلكاتهم أسوة ببقية رعايا الإمبراطورية ، ومن هذا يبدو أن سياسة قسطنطين الدينية تمثل حلقة انتقال ، أما بلاطه فقد أصبح يغص بالأساقفة والقساوسة من مختلف المذاهب المسيحية ، هذا في الوقت الذي صارت وظائف الدولة الكبيرة قسمة بين الوثنيين والمسيحيين ، وهكذا يمكن القول بأن قسطنطين ظل حتى أواخر وقد شهدت المسيحية منذ أوائل عهدها خلافات مذهبية خطيرة كان لها أثر عظيم في تاريخ الشرق والغرب جميعا ، قسمت المسيحيين وبالتالي العالم الروماني إلى معسكرين وأثارت البغضاء الدينية والسياسية بينهما لمدة قرنين من الزمان ، وهى مشكلة تحديد العلاقة بين المسيح الابن والاله الأب ، ذلك أنه حدث خلاف بين اثنين من رجال الكنيسة بالإسكندرية حول تحديد هذه العلاقة فقال أريوس وهو كاهن ولما كان المسيح الابن مخلوق للاله الأب فهو اذاً دونه ولا يمكن بأي حال أن يعادل الابن الإله الأب في المستوى، وبعبارة أخرى فان المسيح مخلوق لا إله أما أثناسيوس فقال بأن فكرة الثالوث المقدس تحتم بأن يكون الابن مساويا للإله الأب تماما في كل شيء بحكم أنهما من عنصر واحد بعينه ، هذا وإن كانا شخصين متميزين . وأن أي اتجاه نحو التقليل من مركزه يؤدي إلى اضعاف الدعوة المسيحية. في حين كان المذهب الأثناسيوسي يستقيم وتفكير عامة الناس من البسطاء الذين يحكمون عواطفهم قبل عقولهم ، في حين كانت معظم الطبقات الوسطى والدنيا التي انتمي اليها رجال الدين من الأثناسيوسيين. إذ حضره نحو ثلاثمائة من رجال الدين في الشرق والغرب ترأسه الإمبراطور قسطنطين نفسه ، وقد أدان مجمع نيقية أريوس ، وبالتالي تقرر نفيه إلى إليريا والتخلص من كتاباته وتحريم تداولها واضطهاد أتباعه من الأريوسيين. ومنها فاستدعى أريوس من منفاه سنة ٣٢٧م ونستطيع أن نعلل هذا التغيير الذي طرأ على مسلك قسطنطين بما كان يعتزمه الإمبراطور من نقل عاصمته إلى القسطنطينية ،