لقد ابتهج رجال الفكر والأدب والفن بتأميم الصحافة، يؤدي هذا التأميم إلى تخليص صحافتنا من مذهب التفاهة الذي كان قد أخذ مرتبطا ارتباطا وثيقا بنزعة النفع التجاري عند بعض أصحاب الصحف ومن يختارونهم للإشراف على تحريرها، ظاهرة التنافس إلى أسفل جلبا للقصر من القراء، قصر العقل والثقافة لا السن وحدها. ونحن عندما ننظر إلى تاريخ صحافتنا نلاحظ أنها كانت صحافة رأي عندما كانت تكافح الاستعمار أو تتصارع على صفحاتها آراء الأحزاب ولم يكن من المعقول بعد أن تخلصنا من الاستعمار ومن صراع الأحزاب أن تنحدر صحافتنا شيئا فشيئا نحو التفاهة وما يشبه الإفلاس الثقافي مع أن حياتنا العامة لا تزال كما قال الرئيس عبد الناصر في حاجة ماسة إلى تعميق مفاهيمها الجديدة عند المواطنين وإلى نقد إجراءات التنفيذ وخطط التنمية وأداة الحكم في ظل فلسفة جديدة أخذت توسع شيئا فشيئا من اختصاصات الدولة ونشاطها في مجالات الاقتصاد والخدمات والعلم والثقافة. لقد كان بعض أصحاب الصحف والمشرفون على تحريرها يدعون قبل التأميم أن الثقافة والأدب والفن ليس لها قراء حتى سمعت عددا منهم يدعون أن الكتاب لا يقرأ لهم غير زملائهم الكتاب الذين لا يتجاوزون العشرات أو المئات عددا، ولقد شهدت صحافتنا في تاريخها القريب ما يثبت عكسها تماما. فمازلت أذكر كيف كنا ونحن طلبة في المدارس الثانوية أو في الجامعة نعرض لأنها كانت لسان حزب الأرستقراطية المعادي بينما كنا نقبل في لهفة وحماسة على السياسة الأسبوعية؛ كانت تقدم لنا المقالات الثقافية والأدبية والفنية والعلمية والنقدية التي تغذي نفوسنا. ومن المؤكد أن جيلنا قد تعلم من هذه الصحيفة وأمثالها أكثر مما تعلم وإنتاج الفكر الجديد، بينما كان كتاب السياسة الأسبوعية من أمثال طه حسين السواء، ونحن عندما نراجع تراثنا الثقافي الحديث نرى أن معظمه وقد يكون خيره میون ما نشرته الصحف عندئذ من مقالات وأبحاث جمعت بعد ذلك في كتب ولا تزال حتى اليوم محتفظة بقيمتها وجدواها في تثقيف الأجيال المتلاحقة بأجزائه الثلاثة للدكتور طه من دورين هيكل، و «الفصول» و «ساعات بين الكتب» و «مطالعات في الكتب والحياة» لعباس محمود العقاد، الد ديا، و و «زعماء محسن الزيات، وغيرها. أو المجلات قبل أن تجمع في كتب وتصبح من أهم تراثنا الثقافي والأدبي بل أقوى مشاهد على نهضتنا الجديدة. ولعله من الخير أن نلاحظ أن هذه في إنجلترا نجد لها نظائر منذ الاسبكتاتور لستيل أديسون حتى اليوم، فرنسا حيث لا تزال مجلدات «أحاديث الاثنين» و«أحاديث الاثنين الجديدة » السانت بين الناقد الشهير، ومجلدات «انطباعات مسرحية» للناقد جول لومتير، وأربعون عاما في المسرح للناقد فرانسيس سارسي من أمهات كتب الأدب تجمع في عشرات المجلدات، وكذلك الأمر في ألمانيا، حيث لا يزال كتاب الناقد الفيلسوف السنج وعنوانه «الفن الدرامي» في همبورج معتبرا من عيون الأدب في بل من عيون الأدب العالمي كله. وهو الآخر نشر مقالات في الصحف قبل يجمع في كتاب. الفنيتها وتخصصها فإن هناك على العكس من ذلك ألوانا من الأدب والفن يجب أن تنشر في الصحف حتى تؤتي ثمارها وتصل إلى الجمهور الذي لا يجوز أن لشدة اتصالها بحياته ولجدواها في تنويره وتثقيفه مثل التبسيط يصحح مقياسا للحياة، وما الأدب والفن إلا تصوير وتحليل وتوجية للحياة، تأخذ بزمام هام من أزمة الحياة الاجتماعية. والأدبية والفنية قلة، فأقول إننا حتى لو سلمنا جدلا ببعض الصحة لهذه الدعوى فإنها لا تزال غير منتجة، وذلك لأن هذه القلة لا بد أن تزداد يوما بعد يوم حتى فالأمر ليس دائما أمر عدد والصحافة ليست تجارة ولا ينبغي لها أن تكون كما والقلة التي لا تزال تقبل على الثقافة والأدب والفن ولم تجذبها التفاهة هي القلة المستنيرة المحصنة وهي القلة التي تكون القيادة الفكرية والاجتماعية والأخلاقية في بلادنا أي أنها هي التي تكون الرأي العام، وتوجيه، وإليها يجب أن توجه الصحافة اهتمامها حتى ننجح في رفع الكثرة إلى مستوى الرشد الثقافي والاجتماعي فتنضم عندئذ للقلة المستنيرة. نهائيا من ظاهرة السلبية والانسياق والإقبال على التافه المبتذل. لقد تم تأميم صحافتنا والحمد لله وبقي أن تحقق الصحافة الهدف من التأميم، وهو الإقلاع عن التفاهة وعن التسابق إلى أسفل والإيمان بأن للصحافة رسالة في تثقيف الشعب وتوجيهه، وذلك لتوثيق الصلة بينها وبين الثقافة والإقلاع عن محاربة هذه الثقافة بتضييق المجال أمامها واحترام الجمهور وتصحيح الرأي حتى لا يستمر النظر إليه بمنظار التفاهة الذي يوهم بأن جمهورنا لا يقبل إلا على التافه المبتذل،