المقطع الخامس : التجربة الجزائرية في مكافحة الفساد مقدمة المقطع : تعتبر مكافحة الفساد الإداري من أبرز التحديات التي تواجه الدول في مسارها نحو تعزيز التنمية المستدامة والحكم الرشيد. وتقديم الخدمات العامة، وفي الجزائر، تبنت الحكومة إطارًا قانونيا شاملا لمكافحة الفساد، يهدف إلى تعزيز الشفافية، وتطوير آليات فعالة لمكافحة الجرائم المالية والإدارية. يأتي هذا في سياق التزامات الجزائر الدولية، التي تضع مكافحة الفساد على رأس أولوياتها، خاصة في ظل توقيعها على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. أهداف المقطع تتمثل في الآتي: -1 توضیح مفهوم الفساد الإداري وأثره على المؤسسات العامة والتنمية في الجزائر. -2 تسليط الضوء على التشريعات والإجراءات القانونية التي اعتمدتها الجزائر لمكافحة الفساد الإداري. -3- دراسة مدى توافق النظام القانوني الجزائري مع الاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. - استعراض كيف تسهم الشراكات الدولية في تعزيز جهود الجزائر لمكافحة الفساد، سواء على المستوى القانوني أو المؤسسي. تقديم مقترحات لتطوير وتحسين التشريعات والإجراءات المتبعة في الجزائر لمكافحة الفساد الإداري. أولا : مواءمة التشريعات الوطنية مع المنظومة القانونية الدولية تبنت الجزائر إطارا قانونيا متكاملاً لمكافحة الفساد، يقوم على مجموعة من النصوص التشريعية والتنظيمية التي تهدف إلى الوقاية من هذه الظاهرة ومعاقبة مرتكبيها، وتعزيز الشفافية في تسيير الشأن العام. وقد جاءت هذه النصوص انسجاما مع التزامات الجزائر الدولية، خاصة بعد المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد فيما يلي أبرز القوانين والمراسيم التي تشكل الأساس القانوني لهذه الجهود أ- القانون رقم 06-01 المؤرخ في 20 فبراير 2006 المتعلق بالوقاية من الفساد ومكافحته : وقد تم اعتماده في سياق الإصلاحات التشريعية التي باشرتها الدولة المواءمة منظومتها القانونية مع المعايير الدولية، ولا سيما بعد توقيع الجزائر على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد سنة 2004. ويتميز القانون 06-01 بجوانب متعددة تشمل التعريف الوقاية الزجر، وانشاء آليات مؤسساتية فعالة، كالتالي: ضبط تعريف دقيق لجرائم الفساد وذلك لتفادي أي تأويل غامض أو استغلال قانوني من بين هذه الجرائم نذكر: الرشوة، سواء كانت رشوة مباشرة أو غير مباشرة للموظفين العموميين أو المسؤولين السياسيين اختلاس المال العام أو التبديد غير المشروع للممتلكات العمومية ، استغلال النفوذ لتحقيق منافع شخصية أو لفائدة الغير ، الإثراء غير المشروع، وهو حيازة ممتلكات لا تتناسب مع المداخيل القانونية للموظف أو المسؤول دون إثبات مصدر مشروع لها. كرس القانون إنشاء هيئة مستقلة تعرف باسم الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته، التي تكلف بعدة مهام استراتيجية، منها: اقتراح السياسات العامة في مجال مكافحة الفساد متابعة تنفيذ التدابير الوقائية داخل الإدارات والمؤسسات العمومية. إعداد تقارير دورية حول حالة الفساد في البلاد ورفعها إلى السلطات المختصة. تعزيز التعاون مع المنظمات الدولية والإقليمية ذات الصلة. - آليات التبليغ وحماية المبلغين من أبرز ما جاء به القانون أيضا، التنصيص على إجراءات فعالة لتشجيع الإبلاغ عن أفعال الفساد وذلك من خلال فتح قنوات آمنة وسرية للإبلاغ، سواء عبر المؤسسات أو عبر الهيئة الوطنية المختصة . ضمان الحماية القانونية للمبلغين، من أي شكل من أشكال الانتقام، سواء الإداري أو المهني أو الشخصي مع تشجيع ثقافة المشاركة المجتمعية، ب المرسوم التنفيذي رقم 06-414 المتعلق بتحديد نموذج التصريح بالممتلكات والقضائية - أن تكشف عن حالات الثراء غير المبرر، أو وجود فجوات كبيرة بين الدخل والممتلكات ما يثير الشكوك حول مصدر تلك الثروات. في حال وجود شبهات قوية أو دلائل ملموسة، يمكن أن تبادر الجهات المختصة إلى فتح تحقيقات إدارية أو قضائية، تمكن من محاسبة المسؤول ومتابعته قانونيًا إن ثبت تورطه، وبهذا يتحول التصريح بالممتلكات من مجرد إجراء إداري إلى أداة رقابية ردعية ووقائية فعالة، تُساهم في تعزيز ثقة المواطن في مؤسسات الدولة، وتحقيق التوازن بين السلطة والمسؤولية. ج المرسوم التنفيذي رقم 06-415 الذي يُحدد كيفيات التصريح بالممتلكات للأعوان العموميين يمثل المرسوم التنفيذي رقم 06-415 المؤرخ في 22 نوفمبر 2006 ، الإطار الإجرائي والتطبيقي لتجسيد أحكام المرسوم السابق رقم 06-414 المتعلق بنموذج التصريح بالممتلكات ، فهو لا يكتفي بتحديد من يجب عليه التصريح، بل يضع أيضا الشروط والمواعيد، والطرق العملية لذلك. ويُعد هذا النص ركيزة أساسية لتفعيل نظام التصريح بالممتلكات كأداة فعالة لمراقبة الذمة المالية للموظفين العموميين ومكافحة مظاهر الفساد داخل أجهزة الدولة ومؤسساتها ومن ضمن ما جاء به : فعلى عكس الاعتقاد السائد بأن التصريحيخص فقط الوزراء أو كبار المسؤولين، فقد أقر النص شمول مختلف الفئات من الأعوان العموميين، بما في ذلك: مديرو المؤسسات العمومية الاقتصادية والخدماتية. المنتخبون المحليون على مستوى المجالس البلدية والولائية. المسؤولون الأمنيون والعسكريون من ذوي الرتب والمسؤوليات الحساسة. ويؤكد هذا التوسع على توجه الدولة نحو شمولية الرقابة المالية ، وعدم اقتصارها على النخب العليا، ما يشكل خطوة مهمة نحو الحوكمة الرشيدة وتعزيز النزاهة داخل مختلف مستويات الإدارة العمومية. -2- تنظيم الإجراءات العملية للتصريح : يحدد المرسوم مجموعة من الإجراءات والآليات التي تنظم طريقة تقديم التصريح بالممتلكات وتسهل مراقبته لاحقا. ومن بين أبرز الجوانب التنظيمية طرق تقديم التصريح: أتاح المرسوم خيارين لتقديم التصريح، إما يدويا عن طريق وثائق ورقية تسلم للجهات المعنية، أو إلكترونيا عبر أنظمة معلومات خاصة، إن وجدت، مما يُظهر وعيا متزايدًا بأهمية الرقمنة في تحسين أداء الإدارة. - الآجال القانونية يلزم النص الأعوان العموميين بتقديم التصريح خلال أجل لا يتعدى 30 يوما من تاريخ تعيينهم أو انتخابهم في مناصبهم، مع إعادة التصريح عند كل تغيير جوهري في الوضعية المالية، أو عند انتهاء المهام. وهذا التنظيم الزمني يُسهم في ديمومة الرقابة ويمنع التلاعب. الجهة المكلفة بالرقابة والحفظ: يحدد المرسوم المؤسسات المخولة باستلام وحفظ التصريحات والتي غالبا ما تكون هيئة وطنية مستقلة أو مصالح خاصة بوزارة العدل وزارة المالية، أو المفتشية العامة للدولة. وهذا التحديد يمنح المرسوم صبغة تنفيذية واضحة، ويعزز من المصداقية الإدارية في تطبيق القانون. -3 آليات الرقابة والتحقيق في الحالات المشبوهة : من النقاط الحيوية التي ينص عليها المرسوم، توفير آليات واضحة وفعالة للتعامل مع التصريحات التي قد تنطوي على شبهة فساد أو تضارب كبير بين الدخل المصرح به والممتلكات الحقيقية. وتشمل هذه الآليات: تحليل ومقارنة البيانات: تراجع الجهات المختصة التصريحات وتقارنها مع المعلومات المتوفرة لدى الإدارات الضريبية والمصرفية، مما يمكن من اكتشاف الزيادات غير المبررة في الثروات. فتح تحقيقات إدارية وقضائية في حال وجود مؤشرات قوية على وجود تضارب أو كذب في التصريحيمكن فتح تحقيق إداري أولي، تفعيل مبدأ المساءلة: إن هذا المسار القانوني الواضح يعيد الثقة للمواطن في مؤسسات الدولة، ويبرز أن مكافحة الفساد ليست مجرد شعارات بل مسعى حقيقي تتبناه الدولة عبر أدوات قانونية ومؤسساتية. د القانون رقم 05-01 المعدل والمتمم بالقانون 12-02 - الإطار القانوني لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب يمثل هذا القانون محطة بارزة في المنظومة التشريعية الجزائرية، خاصة تلك المرتبطة بتبييض الأموال وتمويل الإرهاب. مثل توصيات مجموعة العمل المالي (GAFI) والاتفاقيات الأممية لمكافحة الجريمة المنظمة. وسعيها لتقوية البنية القانونية الوطنية ضدها وسنتعرض إلى أبرز ما جاء فيه : -1- تجريم عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب : كرس القانون بشكل صريح تجريم تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، باعتبارهما جرائم خطيرة تمس النظام المالي وتشكل تهديدا مباشرًا على استقرار الدولة. وقد عرف القانون هذه الجرائم بدقة، بحيث تشمل: تحويل أو نقل الأموال مع العلم بأنها ناتجة عن نشاط إجرامي، لغرض إخفاء أو تمويه مصدرها غير المشروع. - إخفاء أو تمويه طبيعة الأموال أو مصدرها أو ملكيتها أو مكانها أو طريقة التصرف فيها. - المساهمة أو التسهيل في تمويل كيانات أو أفراد معروفين بتورطهم في أنشطة إرهابية، سواء كان التمويل مباشرًا أو غير مباشر، نقدا أو عبر أصول أخرى. ويعتبر هذا التجريم خطوة أساسية تسمح للقضاء بملاحقة الفاعلين، وتعطي سلطات واسعة لأجهزة الأمن والرقابة المالية. 2- آليات رقابة صارمة على الأنشطة البنكية والتحويلات المالية : باعتباره المجال الأول الذي تستغله الشبكات الإجرامية في تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ولهذا السبب، فرض القانون على المؤسسات المالية، بما فيها: البنوك، شركات التأمين مكاتب الصرف ، الوسطاء الماليين والمحاسبين والمستشارين، القيام بعدة التزامات من بينها التعرف على هوية العملاء والتحقق من مصدر أموالهم في العمليات ذات المبالغ الكبيرة أو غير الاعتيادية. إخطار السلطات المختصة عند وجود شبهات في العمليات المالية أو البنكية التي قد تنطوي على تبييض أموال. الاحتفاظ بسجلات تفصيلية للمعاملات لفترة زمنية محددة، لتسهيل المراجعة أو التحقيق في حال الضرورة. هذه الإجراءات تجسد مبدأ "اعرف عميلك"، وتعد من الركائز الأساسية في أنظمة الامتثال المالي المعاصرة. 3- إنشاء وحدة الاستعلام المالي (CTRF) : من أهم الآليات العملية التي نص عليها القانون، وهي هيئة مستقلة مكلفة بتلقي وتحليل التصريحات الخاصة بالعمليات المشبوهة، والتي تقدم من طرف المؤسسات المالية أو أي جهة خاضعة للرقابة ، تشمل مهام جمع وتحليل المعلومات المتعلقة بالمعاملات التي يُحتمل أن ترتبط بتبييض الأموال أو تمويل الإرهاب. التنسيق مع الوحدات النظيرة الأجنبية، في إطار الاتفاقيات الثنائية والدولية، لتبادل المعلومات الاستخباراتية المالية. المساهمة في تطوير السياسة الوطنية للوقاية من الجرائم المالية من خلال إعداد تقارير دورية وتقديم توصيات فنية للحكومة. إن وجود هذه الوحدة يُعزز الطابع المؤسساتي في مكافحة هذه الجرائم،