الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للمدن الذكية شهدت المدن تطورا تاريخيا كبيرا بدأ منذ نشأتها كمدن كلاسيكية اعتمدت على الموارد الطبيعية والبنى التقليدية لتلبية احتياجات السكان، ومع تطور المجتمعات البشرية وزيادة متطلباتها باتت هذه المدن تواجه تحديات كبيرة تتعلق بالنمو السكاني، وفي هذا السياق برز مفهوم المدن الذكية كحل مبتكر وضروري يعتمد على التكنولوجيا الحديثة لتوفير بيئات مستدامة ومتكاملة تخدم رفاهية الإنسان وتحقق الكفاءة في إدارة الموارد. يركز هذا الفصل على الإطار المفاهيمي للمدن الذكية حيث ينقسم إلى مبحثين، الأول سيشمل مفهوم المدينة الذكية وبالتالي سنتطرق إلى الفرق بين المدن الذكية والمدن الكلاسيكية من حيث النشأة، حيث تُبرز المدن الذكية مزايا جديدة تعتمد على الابتكار الرقمي والحلول الذكية مقارنةً بالنهج التقليدي للمدن الكلاسيكية، أما المطلب الثاني فيتناول الركائز والدعائم الأساسية التي تقوم عليها المدن الذكية، والتي تشمل التكنولوجيا المتطورة، أما فيما يخص المبحث الثاني فسنناقش فيه دواعي التحول نحو المدن الذكية، حيث سنتطرق فيه إلى دوافع وأهداف التحول نحو المدينة الذكية، أما المطلب الثاني من هذا المبحث فسيشمل انعكاسات التحول نحو المدن الذكية. المبحث الأول: ماهية المدن الذكية سنتطرق في هذا المبحث إلى مدخل للمدن الذكية بحيث سنتعرف على ما هي هذه المدن، تعريفها والفرق بينها وبين المدن الكلاسيكية وذلك في المطلب الأول من هذا المبحث، إضافة إلى التعرف على ركائز هذه المدن الذكية وذلك في المطلب الثاني من هذا المبحث. المطلب الأول: مفهوم المدن الذكية سنتطرق في هذا المطلب إلى مفهوم المدن الذكية بحيث سنتطرق فيه إلى تحديد ما هو الفرق بين المدن الذكية والمدن الكلاسيكية، لكن قبل ذلك وجب علينا أولا التطرق إلى تحديد كيف نشأت المدينة الكلاسيكية وتعريفها وهذا في الفرع الأول من هذا المطلب، وكذا تحديد التطور التاريخي للمدن الذكية بالإضافة إلى تعريفها وذلك في الفرع الثاني، ثم التطرق إلى التمييز بين المدن الذكية والمدن الكلاسيكية وذلك في الفرع الثالث. الفرع الأول: التطور التاريخي وتعريف المدينة الكلاسيكية أولا: التطور التاريخي لنشأة المدينة إن المدينة كاستغلال للفضاء تحيلنا بمكوناتها وأسباب وجودها إلى مرجعية الجماعة الثقافية والدينية والإيديولوجية، ومن الناحية التاريخية بدأت المدن الباكرة على ضفاف الأنهار في منطقة الشرق الأدنى أما القاعدة الأساسية التي كانت تعتمد عليها فكانت الزراعة لأن غالبية هذه المدن القديمة لم تكن سوى تجمعات حضارية للمجتمعات الزراعية إلا أن اهتمامات الإنسان وزيادة حاجياته أدى إلى تطور المدن تاريخيا من القرى إلى المدن على ما هي عليها الآن بحسب تطور المعيار الوظيفي للمدن( ). يرى الكثير من العلماء والمفكرين القدماء والمعاصرين وعلى رأسهم أفلاطون أن المدينة تنشأ أصلا من عجز الفرد عن الاكتفاء بنفسه في سد حاجياته المتنامية، فيجتمع في مكان واحد عدد من الشركاء المتعاونين يشكلون مجتمعا يطلق عليه اسم مدينة " POLIS "، يتم الأخذ فيه والعطاء بحيث يعتقد كل واحد منهم أن التبادل يعود عليه بالمنفعة، وتصف طائفة أخرى من المفكرين بأن المدينة على أنها ذلك التجمع البشري البالغ الكثافة والذي يتميز بالتعقيد والتنظيم في آن واحد، وهي تضم مكونات مادية وأخرى غير مادية متلاحمتين فيما بينهما. كما أن المدينة تعتبر مركزا لتلبية المصالح وقضاء الحاجيات والأغراض المتعددة والمتنوعة للأفراد والجماعات باختلاف أهدافهم وميولاتهم النفسية والاجتماعية( ). حيث تعود أولى مظاهر التحضر ونشأة المدينة إلى أكثر من 6000 عام وقد ظهرت في منطقة المشرق العربي وبالتحديد في مصر وبلاد الشام والعراق أين ظهرت حضارات مزدهرة وكان ظهورها مرتبطا بتقدم مجموعة المعارف الإنسانية والأساليب الفنية المستخدمة في تلبية الحاجات وبعد الفتح الإسلامي ازدادت حركة التحضر إذ أخذ المسلمون يطورون القلاع والحصون وكانت تنمو إلى جانب ذلك عوامل الاستقرار المرتبطة بتوفير وسائل العيش، أما في الغرب فقد أخذت بالتزايد الفعلي إذ برزت مظاهر التحضر منذ الألف الأولى قبل الميلاد ففي غضون القرن السابع والثامن قبل الميلاد أخذت تنتشر ظاهرة (المدينة – الدولة) وتعد المدن اليونانية خير نموذج ( ). تتطور المدينة بتطور تاريخها ولهذا مرت بعدة مراحل وتختلف نشأة المدينة باختلاف كل دولة وهناك عدة اختلافات ونظريات حول الجانب التاريخي لنشأة وظهور وتطور المدينة، حيث ينقسم الجانب التاريخي لنشأة المدينة عبر عدة مراحل والملخصة في الجدول التالي: جدول رقم 01: يوضح المراحل التاريخية لنشأة وتطور المدينة المراحل التاريخية سمات كل مرحلة المرحلة الأولى: مرحلة العصور القديمة تتميز هذه المرحلة بأنها أصل نشأة المدن ومن بينها: - بلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا): تاريخيا تعتبر هذه المنطقة من أقدم مراكز نشأة المدن حيث إرتبطت بعوامل جغرافية معينة فكان النهر هو المحور الجغرافي لنشأة هذه المدينة، حيث ظهرت المدن فيها حوالي 3500 ق. م، مثل " أور " و" أورك "و " بابل "، كما أن المدينة كانت تتوسطها المعابد الكبيرة مثل " الزقورات " وكانت محاطة بالأسوار والقصور والمؤسسات التعليمية التي تعلم اللغة، بالإضافة إلى الحكم السياسي لهذه المدن وكذا القوانين التي تنظمها ومن بينها شريعة حمورابي. ( ) -ثم ظهرت مدينة مصر القديمة التي تقوم على المجال الديني (المعبد)، كما وجدت الكتابة والتقويم الفرعوني وتعداد السكان وجمع الضرائب وظهور المحاكم وكانت هذه المدن متعاونة فيما بينها وتكونت شبكة من الطرق والمواصلات فيما بينها. المرحلة الثانية: مرحلة العصور الوسطى المدن في هذه المرحلة أخذت بالإنتشار في غرب أوروبا وهذا راجع للجانب السياسي وثمرة إنتعاش التجارة والصناعة ( ). التجارة، .. المصدر: من إعداد التلاميذ بقوله: ". ومتى عظم الدخل والخرج اتسعت أحوال الساكن، ووسع المِصْرُ"، كما أن للمدينة عامل جغرافي مهم والتي لولاه لما اختاره الأفراد لتشكيل مدينتهم ألا وهي الموارد المختلفة المتمثلة في: الأرض، التربة الخصبة، المناخ، الموارد المتاحة كالمياه والرياح . ثانيا: تعريف المدينة الكلاسيكية تعتبر المدينة أهم وأعقد نمط عمراني شيده الإنسان بما تحمله من خصائص ومميزات تحدد هويتها التاريخية والثقافية، ولازالت المدينة تشغل أذهان المفكرين في العصر الحالي، غير أنه ورغم كثرة العلماء المهتمين بتعريف المدينة عامة والمدينة الكلاسيكية على وجه الخصوص إلا أنهم لم يعطوا تعريفا محددا ودقيقا لها، وهذا راجع إلى نسبية مفهوم هذا المصطلح وتأثره بالزمان والمكان، وقبل التطرق لمفهوم المدينة الكلاسيكية تجدر الإشارة للتعريف بالمدينة. وهذا في إطار ما جاء به القانون رقم 06-06 والمتضمن القانون التوجيهي للمدينة والذي عرفها بأنها: " كل تجمع حضري ذو حجم سكاني يتوقف على وظائف إدارية واقتصادية واجتماعية وثقافية". وبقراءة سريعة لهذا النص نرى أن المشرع أخذ بالمعيارين الإحصائي أي الحجم السكاني والوظيفي أي ما يتعلق بالوظائف الاقتصادية والاجتماعية والخدمات في تعريفه للمدينة، وهذا ما أكدته أيضا المادة الخامسة من نفس القانون التي تنص على أنه: "زيادة على تصنيفها حسب الحجم السكاني، تصنف المدن حسب وظائفها ومستوى إشعاعها المحلي والجهوي والوطني والدولي، وعلى وجه الخصوص تراثها التاريخي والثقافي والمعماري". أما بالنسبة لمصطلح المدينة الكلاسيكية فقد تم تعريفه من عدة زوايا ومجالات نذكر منها: 1/ اجتماعيا: حسب رأي روبرت بارك فإن المدينة الكلاسيكية هي ظاهرة اجتماعية وليست مجرد تجمعات من الناس بل هي مجموعة من العادات والتقاليد، وبالتالي تعتبر المدينة الكلاسيكية في المفهوم الاجتماعي منطقة ثقافية ذات مميزات خاصة بها. 2/ وظيفيا: هي وحدة عمرانية ذات تكامل وظيفي لها عدة وظائف فهي لا تشمل قطاع الزراعة فحسب بل تتعداه للصناعة والتبادل التجاري والحرفي والصناعات الثقيلة وكل ماله علاقة بوصول تطورها إلى العالمية. 3/ تاريخيا: عرفها ممفورد بأنها حقيقة تراكمية في المكان والزمان، ويمكن استقراء تاريخها من مجموعة التراكمات التاريخية والأخذ بالمبدأ التاريخي الذي يقول إن المدينة تاريخ قديم، ويرى الجغرافيون أن المدينة الكلاسيكية حقيقة مادية يمكن تحديدها والتعرف عليها بمظهر مبانيها وكتلتها وطبيعة شوارعها ومؤسساتها وكذلك تفردها بطابع عمراني مميز. من خلال ما سبق ذكره يمكن تقديم تعريف شامل للمدينة الكلاسيكية على أنها: هي عبارة عن تجمعات سكانية تعيش في إقليم مهيئ ومحدد المساحة ومشيد بعدة بنايات التي تتفرد بطابعها العمراني المميز وبناها التحتية التي تحمل العديد من السمات منها الاقتصادية، الاجتماعية، الوظيفية، الثقافية أين يعكس هذا التجمع المراحل التاريخية التي تأثرت بها تلك المدينة ويجعلها تختلف عن المدن الكلاسيكية الأخرى. أولا: التطور التاريخي للمدن الذكية بدأ مصطلح "المدينة الذكية" بالظهور في أوائل التسعينيات، حيث ركز الباحثون على دور التكنولوجيا والابتكار والعولمة في توجيه عملية التحضر. بحلول عام 2008، الذي عرف المدينة الذكية كبيئة مجهزة بأجهزة وأدوات متصلة ومترابطة تعزز فعالية مختلف الخدمات الحضرية. عملت دول عدة على إطلاق مبادرات وطنية لتطوير المدن الذكية. فقد كانت الولايات المتحدة من أوائل الدول التي تبنت هذا المفهوم من خلال دعم باراك أوباما لمشروع "الكوكب الأكثر ذكاءً".