يمكن اعتبار انتشار ثقافة الاستهلاك والماديات من أعظم التغيرات السلبية في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، بما لها من تبِعات نفسية واجتماعية واقتصادية، وأراها تزداد شِدّة وانتشارا عاما بعد عام، وقد اخترت في هذا المقال أن أتحدث عنها من خلال تتبع نشأة عملية الاستهلاك، لكن العالم انتقل نقلة نوعية بعد عصر النهضة الأوروبية التي مهّدت للصناعة والرأسمالية، إذ يمكن لمصنع أن يُنتج في ساعة ماينتجه الحرفي في عشرات السنوات سابقا. واستفاد من نظريات علم النفس وعلم الاجتماع فائدة كبيرة، التحدي الذي واجهه المنتجون هو: كيف نقنع المستهلك بشراء منتجنا وهو لايحتاجه حقيقة؟ والجواب بسيط وعميق: لابد من خلق شعور بالحاجة إلى هذه السلعة وتصعيد الرغبة فيها إلى الحد الذي يجعل المستهلك يقرر أن شراءها أمر لابد منه. كان التسويق شخصيا عبر الباعة المتجولين وفي الأسواق، أما بعد ظهور الانترنت، ثم وسائل التواصل الاجتماعي فقد قفز التسويق قفزات هائلة، وبالتالي انتشرت حُمّى الاستهلاك والمادية في العالم أجمع، بدلا من كونها محصورة في المجتمعات الرأسمالية أو الطبقات المخملية في المجتمعات الأخرى. يعتمد فنّ التسويق على فهم نفسية الإنسان وكيفية التلاعب بها بإثارة رغبته في الحصول على سلعة ما، أي التأثير عليه ليكون الشراء عادة عنده وليس سلوكا عارضًا، من أجل ضمان عدم تكدّس السلع. من أهم الأمور التي يعتمد عليها التسويق تأثّر الإنسان بالبيئة من حوله مهما كانت قوة قناعاته الداخلية، والسلوكيات التي يقوم بها الناس في مجتمعه، فمثلا قبل عدة سنوات كانت المرأة العاقلة حتى لوكانت غنية ميسورة لايمكنها أن تدفع آلاف الريالات لشراء حقيبة، ولا يمكن أن يوافق الأب العاقل على إقامة حفلة لابنه في فندق فخم لمجرد أنه تخرج من الروضة، فقد تم تنميط سلوكيات المجتمع وتحول الإسراف والاستهلاك لعادات راسخة يصعب اجتثاثها رغم تأذّي الجميع منها. ثم مشاهير التواصل الاجتماعي، ثم يتطبّع المجتمع على السلوك وينتقل لعامة الناس، وهؤلاء بالذات -أعني عامة الناس- يسوّقون للشركات من جيوبهم الخاصة، فهم يشترون السلع بمالهم، فينتشر السلوك الاستهلاكي في المجتمع انتشار النار في الهشيم، ولاتمضي سنوات قليلة حتى يُعدي الأجربُ السليمَ، تعد حُمّى الاستهلاك حديثة نسبيا في مجتمعاتنا العربية، فهي حدثت أولا في المجتمعات الغربية التي تحكمها الأنظمة الرأسمالية وعلى رأسها: الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تحدّث مفكرون عدة عن هذا الأمر وتأثيره على الأفراد والمجتمعات، ومنهم الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي وصف التسويق وإشاعة سلوك الاستهلاك بأنه (امبريالية نفسية) بمعنى استعمار نفسي، فهو يقول إن الاستعمار العسكري الذي يُنزِل الجيوش إلى الأرض بهدف نهب ثروات البلد قد ولّى عهده، وحلّ محلّه الاستعمار النفسي الذي يحتل عقل الإنسان ومشاعره ويجعله يهب ماله طوعًا للشركات، وهذا اقتباس من كلام المسيري رحمه الله، وأرجو أن يدرك القارئ أن كلمة امبريالية تعني: استعمار إن أبعاد الامبريالية النفسية أكثر عُمقًا وشمولا من الامبريالية العسكرية، فهي تنطلق من الإيمان بأن الهدف من الإنتاج هو الاستهلاك، وأن الهدف من تزايد الإنتاج هو تزايد الاستهلاك، ومزيدًا من المعنى إن هو صعّد استهلاكه (وقد عُرّفت التنمية والحداثة بأنها ثورة التوقعات المتزايدة)، وأن الإنسان أساسًا حيوان اقتصادي جسماني لايبحث إلا عن منفعته الاقتصادية ولذته الجسدية، ولذا كانت الحاجة أم الاختراع في الماضي، ص 256) سأضرب في الفقرات التالية مثالا لخلق السلوك الاستهلاكي وهو مثال ( الاحتفالات والهدايا)، وإدمان السفر والمطاعم، وعمليات التجميل وأدوات الزينة والملابس الفاخرة، و كل الكماليات التي أصبحنا نراها ضرورة وقد عاش أجدادنا آلاف السنوات بدونها. وقد حثّ شرعنا المطهّر على الاحتفال بالأعراس والعيدين، وأباح الاحتفال بالمناسبات بشكل عام إلا مادلّ الدليل على حُرمته، كما حثّ على الإهداء وقبول الهدية لأن ذلك مما يقرب القلوب لبعضها وينشر المحبة، لكن الثقافة الاستهلاكية قفزت بهذا الأمر الطبيعي الجميل إلى مستويات ظهر فيها الإسراف من وجهين: الأول هو إختراع المناسبات من العدم لمجرد الاحتفال، والثاني: الإسراف في مستوى الحفلات والهدايا، بمعنى استغلال عادة موجودة من القدم، إن ترويج ثقافة الاحتفال الدائم، أمر تسويقي بحت، الهدف منه حثّ المستهلك على الاستمرار في الشراء لضمان رواج السلع التي تقذفها المصانع كل يوم، وتُقدّم العُروض والتخفيضات، وتروّج الإعلانات. كما تُشجّع ثقافة الاحتفال بالمناسبات الخاصة وإيجاد أي مبرر للاحتفال، أو تقيم أخرى حفلة طلاق، أو حفلة توديع العزوبية، أو بمناسبة وصول عدد المتابعين لكذا…وهكذا قائمة طويلة لاحتفالات متقاربة جدا في زمنها، وفي كل عام ترى عجبًا من الإبداع والتقليد في اختراع المناسبات حجة للاحتفال، وقد سرى هذا الأمر لمجتمعنا فأصبحنا نسمع بدعا جديدة من الاحتفالات المستمرة لمناسبات تشعر أنها اختُلِقت اختلاقا لمجرد الاحتفال، بل ويتعدى الأمر ذلك للاحتفالات التي تخالف الشرع كعيد الحب، أمر آخر أود لفت الانتباه للمبالغة فيه، وهو أن الهدايا والحفلات أصبحت تتجه -سنة بعد أخرى- للبذخ والمبالغة، فالجميع يتوق لإعطاء واستقبال هدايا باهظة الثمن، تصوروا كيف يمكن لأب بدخل متوسط لديه خمس بنات مثلا، بل في طريقة تغليفها المتكلفة جدا والتي لافائدة منها سوى التصوير. وقد سمّى المسيري المادية في الفكر الغربي بــ(الفردوس الأرضي) حيث يقوم الحُلُم الأمريكي على فكرة تحقيق السعادة الفردية المطلقة في هذه الدنيا، حيث تخلى الإنسان الغربي عن فكرة الفردوس السماوي (الجنة) وقرر السعي للفردوس الأرضي في الدنيا. ومنها أيضا الإرهاق المادي الذي يُثقل كاهل الأفراد والأسر، لأن التوقعات والمتطلبات تتزايد عاما بعد عام، والحاجة لدخل إضافي، أو الرجل بضرورة البحث عن دخل إضافي لتلبية الحاجات المتزايدة، وتشعره بالدونية عندما لايستطيع مجاراة غيره، مما قد يصيبه بأذى نفسي كبير، وتمتد للعلاقات الاجتماعية فتجعل تقييم المرء في المجتمع ومكانته قائمة على مستوى معيشته، لا على أخلاقه وقرابته وسنّه وغيرها من الاعتبارات الصحيحة، والحاجة للتقدير أساسية وعميقة في نفس الإنسان، آمل أن أكون قد وفقت في إلقاء نظرة على هذا النفق المظلم الذي دخلنا فيه، لكنني لن أختم المقال دون وصف طريقة الخروج من هذا النفق، ولعلي أوجز هذا الدور في ثلاث مراحل هامة: أولا: إرادة التغيير: لابد أولا من إدراك أننا في مشكلة، يأتي بعدها اليقين بالقدرة على التغيير بإذن الله، ثانيا: بناء الوعي: وأن المسلم فيها مسؤول عن وقته وماله وتصرفاته، ثم التثقيف بمسألة الرأسمالية والاستهلاك، وتأثير وسائل الإعلام على نفسية الإنسان، ثم محاولة نشر هذه الثقافة في الأسرة والأبناء والمجتمع بحسب مستوى تأثير الإنسان، ثالثا: سلوك التغيير: لكننا نفوسنا تضعف عند التطبيق، كتلاوة القرآن وقراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم القراءة، والدراسة، لابد أيضا من تعويد النفس على الصبر، والإنفاق بما يتلاءم مع الدخل فقط، وألا نكلف أنفسنا أو أهالينا مبالغ طائلة لمجرد اتباع الهوى ومجاراة الناس أو حب التفوق عليهم، إن تبسيطك لحياتك ورفضك لمجاراة السَّفَه الاستهلاكي، دليل وعيك، كما أن رفضك هذا تعبيرٌ عن قوتك واستقلالك أمام من يريد استعمار نفسك والاستيلاء على مافي جيبك. كما أودّ أن ألفت الانتباه لسلوك قد يفعله المرء دون قصد إشاعة السلوك الاستهلاكي عند الناس،