تعريف علم الأخلاق وصلاته بعلوم أخرى وأهدافه فإذا حاولنا تعريف علم الأخلاق، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة لأن كلمة "خلق" وحدها تحتمل معنيين الخلق الحسن والخلق القبيح، ولذا فإننا ننتقل من تعريف الخلق لغويًا إلى تعريف علم الأخلاق وموضوع دراسته. ويمكن تعريف علم الأخلاق من حيث البحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان . ومن التعريفات لهذا العلم ما يتجه به نحو سلوك الإنسان بالنظر إلى مثل أعلى حتى يمكن وضع قواعد عامة للسلوك والأفعال تعين على "فعل الخير والابتعاد عن الشر" . ومن هذا التعريف نرى أننا في حاجة إلى إيضاح كثير من الموضوعات في المجال الأخلاقي. إن أول مسألة تواجهنا في دراسة الأخلاق هي معرفة الفرق بين الإرادة الخلقية والإرادة الطبيعية، ومنها ما يخضع للقوانين والمبادئ والقواعد "إن الحياة الإنسانية الصحيحة لا تبدأ إلا من حيث تنتهي الحياة الحيوانية الصرفة" . كما يواجهنا أيضًا النظر في القيم أو المبادئ الخلقية أو المثل العليا. أي على وجه الإجمال، نحن في دراستنا للأخلاق نقف وجهًا لوجه أمام الإنسان الذي يخوض تجربة الحياة الابتدائية بكل ما فيها من خير وشر، ونحاول أن نتعرف على مدى قدرته على اجتياز هذا الطريق أو ذاك. فقد غرس الله تعالى فينا بصائر أخلاقية فطرية، والذي ظهر من دراسة علماء النفس في بحوثهم في سيكولوجية الشعوب أن الأحكام التقديرية التي يطالب بها الدين. كذلك كشفت الدراسات الأنثروبولوجية الحديثة أن تاريخ الحضارة البشرية مليء بالشرائع الأخلاقية وأنها تتقارب تقاربًا شديدًا ، وحتى إذا افترضنا وجود اختلافات بينها فإنه ليس هناك ما يمنع ظهور أخلاقية مطلقة ، وهذا يعني أن الأساس الأخلاقي في البشرية فطري، وأن للقيم وجودها الذاتي حيث تفرض نفسها على الوجدان البشري بطريقة أولية حدسية "أما عجز بعض الأشخاص عن إدراك القيم أو التمييز بينها إنما هو "العمى الخلقي" الذي قد يرجع إلى انعدام النضج أو نقص التربية لديهم" . وإذا عدنا إلى استعراض التعريف الذي بدأنا به كلامنا، فإننا نجد أنفسنا في حاجة إلى بيان الآتي: 1- صفة علم الأخلاق كعلم معياري وليس علمًا وضعيًا. 2- التعريف بالقيم أو المبادئ الأخلاقية. 1) علم الأخلاق علم معياري: اتضح لنا من التعريفات الآنفة لعلم الأخلاق أن النظرة التقليدية له تعده علمًا معياريًا أي يدرس ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني فيضع بذلك قوانين الأفعال الإنسانية ومثلها أو المبادئ العليا لها، وكان هذا هو الاتجاه التقليدي "المعتمد بين جمهرة الأخلاقيين فهم هذا العلم وتحديد منهجه. ولكن مدرسة من علماء الاجتماع في فرنسا قد اتجهت بالأخلاق في نهاية القرن الغابر ومطلع القرن الراهن اتجاهًا اجتماعيًا صورت فيه علم الأخلاق فرعًا من علم الاجتماع موضوعًا ومنهجًا . وقد ذهب أتباع هذه المدرسة إلى اعتبار علم الأخلاق علمًا وضعيًا فهدموا بذلك التصور التقليدي له . وأطلقا عليه اسم "علم العادات" إشارة إلى أن الأخلاق هي دراسة موضوعية تجريبية لقوانين العادات الخلقية عند الإنسان. ولكن علم الأخلاق- حتى كعلم عادات - لا يمكن أن يتجرد عن المبادئ والقيم المعنوية التي لا تخضع للتجربة. ومن الثابت تاريخيًا أن من المحاولات التي عرضت المبادئ الخلقية للاهتزاز كانت بواسطة السوفسطائيين القدماء في بلاد اليونان حيث إنهم في نظريتهم في المعرفة قد اتخذوا من الفرد مقياسًا للأشياء فأصبحت الحقائق وليدة الإحساسات والانطباعات الذاتية الفردية فشككوا في وجود الحقيقة الموضوعية الثابتة. كما امتدت نظريتهم الابستمولوجية أي في المعرفة إلى مجال الأخلاق "فكان الفرد مقياس الخير والشر" . وتتفق النظرية السقراطية مع ما ذهب إليه الفلاسفة التقليديون حيث وضعوا الأخلاق ضمن علومهم المعيارية كما أوضحنا - فأصبح موضوع الأخلاق عندهم هو قيمة الخير ، وبهذا التوضيح يظهر الفرق الأساسي بين النظرية الفلسفية التقليدية للأخلاق وبين النظرية الوضعية أو الوصفية أو التقريرية - التي تبناها بعض علماء الاجتماع - حيث أصبحت الأخلاق عندهم هي مجرد "القواعد السلوكية التي تسلم بها فيعة من الناس في حقبة من حقب التاريخ" . فنزعوا عن القيم الأخلاقية فكرة الثبات والدوام التي عرفناها عند مثل سقراط. وربما نشأت المشكلة في ميدان البحث الأخلاقي أن الأخلاق ترفض دافع البحث عن اللذة لذاتها كسلوك أخلاقي، لأن الشعور الخلقي يظهر أن ابتغاء اللذة لابد أن يفضي إلى حالة أليمة من التشتت الروحي والضياع النفسي، أي أن مسايرة الطبيعة من حيث نشدان اللذة وتجنب الألم لا تحقق لدى الإنسان مكارم الأخلاق التي يستمدها من معرفته للقيم والمبادئ الأخلاقية والمثل العليا. وفي نظرة إفيلية عامة لآراء فلاسفة الأخلاق رأينا سقراط قد خلع على الأخلاق طابعًا عقليًا لأنه عد الفضيلة علم والرذيلة جهل، وكذلك اتجه كانط في العصر الحديث إلى اعتبار الأوامر المطلقة في الأخلاق بمنزلة البديهيات في الرياضة إلي الطبيعة. ومن واقع هذه النظريات وغيرها التي تضع الأخلاق في صورة مبادئ وقوانين أخلاقية بصورة معيارية تعمل على تحديد القواعد كالحال في المنطق، فإن الأخلاق في هذه الحالة تصبح تشريعًا وتضطلع بمهمة التكليف والإلزام لا بمهمة العلم أو المعرفة . وفي تحريفنا للمبادئ نستطع أن نقول أنا سواء كانت خاصة بالعلوم أم بالأخلاق فهي القضايا الأولية "التي تعد نقطة بدء ضرورية لكل بحث كمبادئ علم الهندسة، وكمبدأ الواجب المطلق في الأخلاق . وأصبحت المكانة التي تتمتع بها هدفًا للهجوم، وذلك نتيجة للملاحظات "التي تقررها فلسفة العلوم بما يتعلق بالتحولات الحديثة في العلوم الرياضية والطبيعية وفي العلوم الأخلاقية والسياسية أيضًا" . ومن الخطورة بمكان إنزال القيم أو المبادئ الأخلاقية من محط نصها واستهدافها لتأثير النظريات النسبية التي سادت في القرن التاسع عشر، حيث امتدت فكرة الحقائق النسبية إلى ميدان الأخلاق وغلت في القول ونسبيتها، وسوت بين العادات الأخلاقية المتغيرة في كل قطر وفي كل أمة وفي كل عصر، وبين القاعدة الأخلاقية الثابتة . نخلص من كل ذلك إلى أن كلمة القيم أو المبادئ تشير إلى معاني الضرورة والكلية والثبات والإطلاق، ولهذا فإننا نحذر من النظر إلى المبادئ الأخلاقية بمفهوم العصر الحاضر في الغرب المتسم بطابع النسبية والمرونة، لأننا إذا أخضعنا القيم الأخلاقية إلى قوانين التغير والنسبية فلن نلبث أن نصيب الحقيقة في الصميم (وبالتالي فإنه لن يلبث أن يؤدي إلى بلبلة الرأي العام الأخلاقي) . ينبغي تحرير الفعل الأخلاقي من التقيد بالزمان أو المكان، لأن لا يكون أخلاقًا على الحقيقة إلا إذا تخلص من الرغبة أو الهوى، والإلزام في القانون الأخلاقي ينبع من ذاته، يقول كاريل "يجب على الإنسان أن يفرض على نفسه قاعدة داخلية حتى يستطيع أن يحتفظ بتوازنه العقلي والعضوي. إن أي دولة قادرة على فرض القانون على الشعب بالقوة، ولكن الإلزام الأخلاقي يختلفن عن الحتمية في القانون الوضعي، فهذا الإلزام ينطوي على المسئولية الأخلاقية لأن الأفعال تصدر عنه ككائنات أخلاقية تملك الحرية وهي وثيقة الصلة بالأخلاق . وينبغي أن يدرك كل فرد ضرورة فعل الخير وتجنب فعل الشر وأن يرغم نفسه على اتباع هذا المنهاج ببذل جهد إرادي، فالإلزام هو المحور الذي تدور حوله المشكلة الأخلاقية؛ وهكذا فإننا نجد أنفسنا أمام علاقات واضحة محددة تتناول المبادئ الأخلاقية في إطلاقها وثباتها وعموميتها كهدف أسمى يسعى الإنسان لتحقيقه. ودعائم الإلزام التي تشكل عنصر الضرورة للفعل الأخلاقي، ولكننا سرعان ما نصطدم بالمشكلة الأخلاقية، وتتضح أبعاد هذه المشكلة في الإلحاح المستمر الذي يواجه الإنسان في نشاطه الدائم للاختيار بين هذا الفعل أو ذاك، واضطراره لأن يفرض على نفسه قاعدة معينة للسلوك فيختار الأحسن من بين أوجه التصرف العديدة وأن يتخلص من أنانيته وحقده . فإنه مما لا شك فيه "أن النظر في سلوك الإنسان ينتقل بنا إلى مشاكل جديدة تدخل في نطاق دراستنا من حيث التزامه الخلقي ومسئوليته عن أفعاله التي ترتكز على ركنين أساسيين هما: العقل وحرية الاختيار . إن النظام الأخلاقي يوجهنا - كما يقول دوركايم - نحو السيطرة على النفس بالذات ويعلمنا كيف نسلك على غير ماتريد دوافعنا الباطنة، ولذا فإن كل فعل أخلاقي يتضمن مقاومة نبديها لميل معين - وكبتًا لشهوة ما - وتقييمًا لنزوع خاص . أضفت إلى ذلك أن الإنسان هو الكائن الأخلاقي الذي أعده الله سبحانه لقابلية الارتفاع إلى درجات الكمال بمقتضى روحه التي تمده لبلوغ الغاية المطلوبة وهو يشعر في أعماقه بهذا الصراع الدائم بين روحه المهيأة وبين أخلاط عناصر جزئه الأرضي أي جسده المعرض للسقوط . إن الدور الذي تقوم به الأخلاق هو تجريد هذا العنصر الروحي فترتقي به فوق المستوى الطبيعي ، وهو ما يسميه بارتملي المبدأ الأسى أو القانون الملزم لنا. فهو بمثابة القانون الملزم الذي يناجي العقل "هوالمبدأ الأسمى وفوق الإنساني" . ويذهب بارتملي إلى أننا نشعر في أعماق نفوسنا بصدى هذا القانون ونعجز عن تغييره رغم وحي منافعنا وعمليات شهواتنا. فإن الإرادة على عكس هذا القانون "هي نحن. ومن الصراع الناشب بينها يجد الإنسان أنه يحمل في نفسه ما يشبه القانون أو المحكمة تملك الحق في إصدار الحكم بالإدانة أو البراءة حاسب أنواع سلوكه، إن الأخلاق إذن لصيقة بالإرادة، أي صعودًا إلى المستوى الإنساني الراقي، أو هبوطًا إلى المستوى الحيواني. وكأنه يضعنا بهذا التعريف أمام مرآة نفسنا لكي ننظر فيها ثم نعدل اتجاه إرادتنا لنتحرى فعل الخير ونتجنب فعل الشر. وهذا هو هدفنا من دراسة علم الأخلاق. قلنا في البداية إن الخلق في اللغة: هو الحجية والطب والعادة ولكن كلمة "خُلُق" وحدها لا تعطي معنى الأخلاق الحسنة؛ فكيف نكتسب الأخلاق الحسنة ونتخلص من الأخلاق السيئة؟ فلا يكفي في الدراسة الأخلاقية البحث العلمي في الحياة الخلقية وقوانينها، ولكن يجب أن نهدف إلى الإقناع بأنه في إمكاننا بواسطة الجهد الدائب أن نرتفع بأخلاقنا إلى المستويات الحسنة وأن نتخلص من الأخلاق السيئة، وهذا ما تنبه إليه علماء الإسلام حيث هدفوا إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة بالتكلف والمران. منهم الإمام ابن القيم الذي رأى أن يكون الخلق بالنفس يتم على مراحل ويأتي بالتكيف والتمرن، كالتحلم والتشجع والتكرم وسائر الأخلاق، فإذا تكلفه الإنسان واستدعاه صار سجية وطبعًا مستندًا في ذلك إلى حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - "ومن يتصبر يصبره الله" . ويقول الراغب الأصفهاني: "الإنسان مفطور في أصل الخلقة على أن يصلح أفعاله وأخلاقه وعلى أن يفسدها، وتصبح الدراسة الأخلاقية مساعدة على بذل الجهد الأخلاقي المطلوب، إذا اقتنعنا بعد البحث والدراسة أن في إمكان الإنسان التخلص من أخلاقه الرديئة واكتساب الأخلاق الحسنة، فالعلم لابد أن يقودنا إلى العمل وإلا فلا فائدة فيه إذ الاكتفاء بالعلم دون العمل مضيعة للوقت والجهد. الهدف إذن من علم الأخلاق - كما يحدده ابن مسكويه "421هـ" أن نحصل لأنفسنا خلقًا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي . ويشير ابن مسكويه في عبارته إلى رياضة النفس وتقويمها بالتهذيب والصقل حتى تصير الأخلاق ملكه. ويقول زميلنا الفاضل الدكتور عبد اللطيف العبد "إنه لابد من إعادة بناء شخصية الإنسان المسلم على أساس من القيم الأخلاقية الرفيعة، لا على أساس المنهج المادي وحده، ولتحقيق ذلك لابد من معرفتنا بأنفسنا والوقوف على المعركة الدائرة فيها بين الإرادة والغرائز. مهما تعددت النظريات الأخلاقية وتباينت الفلسفات التي تعالج المشكلات الأخلاقية فإنها تتفق على موضوع واحد تتخذ منه أساسًا لأبحاثها وهو الإنسان بعامة والإرادة الإنسانية بخاصة إذ أن الأخلاق تدور على ماهية الإنسان فهي تعد بالبحث في عواطفه وغرائزه وانفعالاته وميوله وحاجات أساسية يتفق فيها مع الحيوان، ولا يعنينا في الدراسة الأخلاقية كما قلنا العلوم والمعارف، ولهذا قلنا إن هذه الإرادة هي مركز الدائرة في المعظم- إن لم يكن كافة مذاهب المفكرين الأخلاقيين والفلاسفة، لأن علم الأخلاق يتناول دراسة أفعال الناس بالقياس إلى مثل أعلى . فلا الروح ولا الجسم يمكن أن يفحص كل منهما على حدة - إذ يتكون الإنسان من جميع وجوه نشاطه الفعلية والمحتملة، والواقع أن كل عصر وكل مجتمع إدنا يضعان تحت "مفهوم الإنسان" إنسان "هذا العصر" أو هذا المجتمع لا "الإنسان المطلق" أو الإنسان بصفة عامة. فإن من الحق أيضًا كما يقول "دوركايم "إن الرجل الأوربي في أيامنا هذه ما يزال يعتقد أن الإنسان هو على وجه التحديد "إنسان هذا المجتمع الغرب المسيحي" . وهذه النظرة تفسر لنا اختلاف الفلاسفة وعلماء الأخلاق في معالجتهم للمسائل الأخلاقية، على أن الاكتفاء بوصف الإنسان بأنه كائن ناطق روحي شاعر بذاته ، قد يصلح في مجال دراسة علم النفس الذي يعنى بدراسة الإنسان من الناحية النفسية أو العقلية، ولكنه لا يعطينا المدلول الرئيسي في مجال الأخلاق؛ وتظهر المسئولية الأخلاقية بوضوح إذا نظرنا إلى ركنيها الرئيسيين وهما كما بينا من قبل - العقل وحرية الاختيار ، وما دام الأمر كذلك فإن البحث في مجال الأخلاق له صلة وثيقة بالتربية. صلة الأخلاق بالتربية: وتظهر الوظيفة الأولى للمربي في العمل على تفتيح ذهن الحدث أو الشاب للقيم الخلقية . وتظهر التربية وللإنسانية الكاملة إذا نظرنا إلى احتياجات وللإنسان المتعددة ومواهبه المتنوعة وأحطنا بقواه وملكاته جميعها لكي نتعهدها بالتنمية والتقوية. والتربية الأدبية التي تتعهد اللسان وتقومه وتصلح بيانه، والتربية الاجتماعية وهدفها تنمية روح الإيثار والغيرة ضد الأنانية والتعريف بالنظم والقوانين السائدة بالمجتمع، وهناك أيضًا التربية الإنسانية لتوسيع الأفق والتنبيه إلى الأخوة العالمية. والتربية الدينية للتسامي بالروح إلى الأفق الأعلى بإطلاق. وتأتي التربية الخلقية للتوجيه المستمر للعمل على سنن الاستقامة حتى تتكون العادات الصالحة والأخلاق الحميدة الراسخة . ومن المعلوم أن التربية الخلقية هي السياج التي تحيط بألوان التربية جميعًا، فمن واجب الفنان مراعاة قانون الحشمة واللياقة والمحافظة على ستر الحياء والعفاف، وهكذا ينبغي أن نخضع سائر ألوان التربية في وسائلها وأساليبها وبواعثها لقواعد الآداب وأن نقيس ذلك كله بمقاييس الفضيلة . وتحتاج التربية الخلقية إلى أنواع من التعب والصبر وطول المرانة لتكوين الملكة الخلقية حتى يصبح السلوك الأخلاقي عملًا انبعاثيًا محببًا إلى القلب. أما الكسالى الضعفاء فلا تتكون لديهم الملكات، كذلك لا ينبغي أن نغفل بيان الصلة الوثيقة بين الأخلاق والدين كمصدر رئيسي لقدسية القوانين الأخلاقية ودافع قوي للإنسان إلى الأعمال الخيرة. صلة الأخلاق بالدين: هناك تعريفات مختلفة للدين بوجه عام، وصت أعمال عبودية تتعلق بالله" أو أنه نظام اجتماعي لطائفة من الناس يؤلف بينها إقامة شعائر موقوتة، وتعبد ببعض الصلوات وإيمان بأمر نحو الكمال الذاتي المطلق وإيمان باتصال الإنسان بقوة روحانية أسمى هي الله الواحد، وإلى الخلق باعتباره قوة النزوع إلى فعل الخير وضبط النفس عن الهوى، كان القانون الأخلاقي الكامل هو الذي يرسم طريق المعاملة الإلهية كما يرسم طريق المعاملة الإنسانية. بل مصدر حكم وتشريع في الوقت نفسه، كان القانون الديني الكامل هو الذي لا يقف عند وصفه الحقائق العليا النظرية وإغراء النفس بحبها وتقديسها، بل يمتد إلى وجوه النشاط المختلفة في الحياة العملية فيضع لها المنهاج السوي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والجماعة. وهكذا يصل القانون الديني إذا استكمل عناصره إلى بسط جناحيه على علم الأخلاق كله، بل على سائر القوانين المنظمة لعلاقات الأفراد والشعوب بحيث يجعلها جزءً متممًا لحقيقته ويصبغ كل قواعدها بصبغته القدسية . والعقيدة باعتبارها المصدر الرئيسي للإحساس بقدسية القوانين الأخلاقية هي أكبر دافع يدفع الإنسان إلى الأعمال الإيجابية الخيرة وأقوى رادع يكفه عن اتباع الهوى . ذلك لأن القانون لا يكفي وحده لضبط السلوك الإنساني. ويذهب الفيلسوف الألماني فيخته إلى أن الأخلاق من غير دين عبث، وبالمثل يضع غاندي الدين ومكارم الأخلاق في مرتبة واحدة لا يقبلان الانفصال، بل يرى أن الدين يغذي الأخلاق وينميها وينعشها كما أن الماء يغذي الزرع وينميه. فخرج منها بنتيجة مهمة أعلنها في قوله "بدون الدين لا يمكن أن تكون هناك أخلاق وبدون أخلاق لا يمكن أن يكون هناك قانون" . ودور الدين في تربية الأفراد لا يقل شأنًا عنه في تربية الجماعات والأمم، فلا تغني العلوم والثقافات عن التربية والتهذيب الديني لأن العلم سلاح ذو حدين، ولابد له من رقيب أخلاقي عند استخدامه لكي يوجه إلى خير الإنسانية - لا لدمارها ونشر الشر والفساد في ربوع الأرض، وليس أدل على ذلك من الأقوال التي نسوقها لبعض أقطاب العلم والزعماء وقواد الحرب في العالم الغربي نفسه. يقول روبرت ميلكيان العالم الطبيعي الأمريكي "إن أهم أمر في الحياة هو الإيمان بحقيقة المعنويات وقيمة الأخلاق. ولقد كان زوال هذا الإيمان سببًا للحرب العامة وإذا لم نجتهد الآن لاكتسابه أو لتقويته فلن يبقى للعلم قيمة، إذ لن يستطيعوا المثابرة على البقاء بماديتها "وأنها لا يمكن أن تنجو إذا سرى الروح الديني في جميع مسامها. أن أهم عوامل الانتصار في الحرب هو العامل الأخلاقي موقنًا بأن الجيش إذا سار على غير مرضاة الله سار على غير هدى، وحث جنوده بالانتصار على أنفاسهم قبل العدو. وهو نفس الهدف الذي رمى إليه المارشال بيتان عقب توقيعه الهدنة إثر هزيمة فرنسا في الحرب العالمية الثانية من النداء الذي وجهه إلى أمته قال فيه: "إنني أدعوكم أول كل شيء إلى نهوض أخلاقي" . إن العقيدة الدينية إذن تجعل للأخلاق فعالية وإيجابية مؤثرة، وهذا هو السبب في أن الأخلاق الدينية أقوى من الأخلاق المدنية إلى حد يستحيل معه المقارنة، ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق، إلا إذا نظر إلى قوانين الحياة على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية . وخير دليل يبرهن على هذا الرأي ما يسجله لنا التاريخ الإسلامي من عجائب الانقياد والطاعة للأوامر الإلهية التي كان المسلمون يصدعون بها حال التبليغ بها، ومنها ما حدث عند نزول النهي عن الخمر "فعن أي بريدة عن أبيه قال - بينما نحن قعود على شراب لنا ونحن نشرب الخمر حلًا، يتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذات قرابة فما منهم امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به تصديقًا وإيمانًا بما أنزل الله من كتاب، وما أحوجنا إذا أردنا استعادة أمجادنا من جديد إلى الانقياد لأوامر شرع الله تعالى كما فعلت أجيال المسلمين من قبل إبان ازدهار حضارتنا الإسلامية، لا سيما إذا علمنا - كما بينا توًا - أن الأخلاق هي الركن المكين للحضارات والأمم. عندئذ تأتي مناسبة طرح الصلة بين الأخلاق والحضارة، على أن نهب العالم والحياة معنى حقيقيًا". ويرى أن طابع الحضارة أخلاقي في أساسه، فهناك إذن ارتباط بين الحضارة ونظرتنا إلى الكون وإلى الحياة، فإن المعتقدات - لا الإنجازات التكنولوجية - هي القوة الدافعة للحضارة . ومرد اهتمامه بالمعنى والغرض يرجع إلى أنه بافتقاد النظرة الكونية، ويرى أن مأساة الإنسان المعاصر هي تضاؤل الحرية والقدرة على التفكير وأن بداية كل حياة روحية ذات قيمة هي الإيمان بالشجاع بالحق والقول به صراحة مقترحًا تخصيص ثلاث دقائق كل مساء للنظر في السماء المرصعة بما لا نهاية له من النجوم تمهيدًا لإصلاح الأحوال التي نعيش فيها اليوم. وعلى أية حال فإنه عبر عن فطرته في حاجة الإنسان الماسة إلى التفكر في أوقات متقاربة - كما ينبغي للمسلم أن يفعل "لا ثلاث دقائق فحسب كل مساء" ليتحرر من آلية الحياة الاجتماعية ويراجع نفسه ويجد نشاطه الذهني ليظل متيقظًا ومدركًا لمعنى الحياة والنشأة والغاية، 2- هز الناس في هذا العصر ودفعهم إلى التفكير الأولى في حقيقة الإنسان ومكانته في العالم، لأن الكمال الروحي والأخلاقي للفرد هو الغاية القصوى من الحضارة . منطلقًا بها انطلاقة مادية هائلة أثرت على السواد الأعظم من الكتل البشرية في القرن العشرين، في فقدان السمو فوق المادية وتمكن المادية المبتذلة لدى الإنسان الغير المرتبط بوازع يزعه "والذي يتخذ من عالم أحاسيسه المادية مقياسها لكل شيء، ولكن لم تصل إلى حد التطور العقيم غير القويم الذي انتهى إليه العالم الغربي، معللًا ذلك بأن دروع المقاومة للعالم الإسلامي تمثلت في الاستمساك بالفضيلة والأخلاق الحميدة بالرغم من مظاهر التدهور. فقد أخذت الأزمات بخناقها . أنه دين يدعو للفضيلة والأخلاق الحميدة بينما يعرف من خبراته السابقة عن مجتمعات الغرب أن الغربي يرى التحلي بالفضيلة والالتزام الخلقي، وسنمضي في بحثنا في الفصل التالي لعرض مذاهب الأخلاق عند بعض فلاسفة اليونان وبيان أوجه القصور فيها.