الشعر وتطوّره استمرار التقليد كان الشعر يجرى في مصر فى أثناء النصف الأول من القرن التاسع عشر على الصورة السيئة التى كان يجرى عليها في أثناء العصر العثماني ، أما الأغراض فكانت ضيقة تافهة ، وكانت المعانى مبتذلة ساقطة ، وأما الأساليب فكانت متكلفة ، مثقلة بأغلال البديع وما يتصل بها من حساب الجمل الذي كانوا يؤرخون به حوادث شعرهم وقصيدهم . ولم يكن أمام الشعراء مثل فنية عليا يحلمون بها ، إنما كل ما كان يحلم به الشاعر أن يتعلم فن العروض وصياغة النظم ، ثم يعالج هذه الصناعة على نحو ما يعالج طلاب المدارس الثانوية تمارين النحو والبلاغة ، فشعرهم أشبه ما يكون بكراريس التطبيق ، ليس فيه روح ولا حياة ولا عاطفة حقيقية أو شعور ، وإنما فيه المحاكاة والتقليد ونحن حين نقرأ هذا الشعر الآن لا نقرؤه لنجد فيه متعة أدبية، ولا لنغدى عواطفنا ومشاعرنا ، ولا لتزيد من ثروتنا الذهنية ، وإنما لتؤرخ طوراً من أ أطوار حياتنا الأدبية. وكان المظنون أن يتغير شعراؤنا منذ الحملة الفرنسية ومنذ أخذنا نتصل بالحياة الغربية ونكون لأنفسنا حياة عقلية جديدة ، وظلوا يحجلون في هذه السلاسل الممقوتة من البديع الذي لا تقبله النفس، ولا يطمئن إليه الذوق ، ولا وجدانية تشبه من بعض الوجوه روح الشعر الغربي عند أصحاب المنزع المعروف بالرومانسية ، ففي شعره وجدانية قوية ، وهى وجدانية شاكية تفيض حزناً وألماً ، وهو يعكسها على ما حوله في الطبيعة، فيجعلها يجزئياتها وكلياتها صدى لأحاسيسه . ثم هو ينزع إلى صورة جديدة غير مألوفة لنا في شعرنا القديم ، إذ يطيل في بعض قصائده ، ولا يجعلها خواطر وجدانية متناثرة ، بل يجعلها قصة على طريقة الغربيين. وبذلك كان من أوائل من ثبتوا النزعة القصصية أو الدرامية في شعرنا . وهو لا يندفع فى ذلك بأسلوب جديد ، ومثله شوقى إذ كان مثقفاً على طرازه بالآداب الفرنسية ، وقرأ فيها لفيكتور هيجو وغيره ، وحاول أن يترجم منها ، بل ترجم فعلا قصيدة البحيرة للامرتين . كما قلد فيكتور هيجو في ديوانه ( أساطير القرون ، فنظم قصيدته الطويلة : همت الفلك واحتواها الماء وحداها بمن تقل الرجاء أطلال يحاكي هذا الأسلوب التاريخي، وانبعث فى أواخر حياته يكتب الشعر التمثيلى لأول مرة في العربية . ومعنى ذلك أنه لم يقف ولم يجمد عند النماذج القديمة بل جدد، ولكن في هذه الحدود ، حدود التمسك بالصياغة العربية الرائعة . أما حافظ فكان مثل البارودى لا يتجه إلى الأدب الأوربي ولا يقلده ، ومع ذلك لم يتأخر عن عصره وروحه ، لأنه لم يكن أرستقراطي النشأة مثل البارودى وشوقى ، وكأنما أعفته ثقافته من تقليد الأدب الأوربى والاستقاء منه والنسج على منواله إلا بعض خيوط ضئيلة ربما أتته . من والمهم أن هؤلاء الشعراء الثلاثة حافظوا محافظة دقيقة على صورة القصيدة لم يتخلصوا تماماً . من البديعيات والمخمسات والتضمينات، إنما الذي تخلص من ذلك كله هو البارودى ، وهو يعد الرائد المثالى لهذه الحركة، إذ اشترك في الثورة العرابية ، ويصور حياته الخاصة ومتعه قبل منفاه آلامه يصور في المنفى كماوهمومه فهو لم يكن مقلداً للقدماء بالمعنى السيء للتقليد ، إنما كل ما هناك أنه يريد أن يرد إلى شعرنا جزالته ونصاعته ورصانته ، أما بعد ذلك فشخصيته في شعره قوية بارزة ، وليس هذا فحسب ، فإنه يستشعر الحرية القومية ، فيتحدث عن مطامح أمته السياسية ويأسى لما تتردى فيه من ويعرض للأحداث الخطيرة التي مرت بها ، ويصف أمجادها الغابرة . وبهذا كله يعد البارودى رائد شعرنا الحديث ، فقد أنقذه من عثرة الأساليب الركيكة ، حياة نفسه وروح عصره وقومه في الفترة التي عاش فيها ، إذ جعله متنفسا حقيقيا لعواطفه ومشاعر أمته وما ألم به وبها من أحداث وخطوب وعلى هذه الشاكلة أخذ شعرنا يتجه في مجراه الحديث ، وهو مجرى يصب فيه فرعان كبيران : فرع الحرية الشخصية وفرع الحرية القومية . ومما يدل على أن الفرع الأخير هو الذي كان يغلب على المياه الدافقة فيه أنه ظهرت أسراب تنحدر من جدول مصرى بحت ، هو جدول العامية ، فإن جماعة أرادت أن تصر أدبنا كما مصرت أوربا الحديثة أدبها ، فأخذ كل شعب فيها منذ كانت النهضة ينفصل عن التعبير باللاتينية إلى لغته المحلية ، فكانت الآداب الفرنسية والإنجليزية والإيطالية وغيرها من الآداب الغربية . أحلامه أجله ولكنه لم يكن يريد بذلك مصر، إنما كان يريد شخصه ومطامعه في تحقيق إمبراطورية ضخمة ، إنما كانت التي تدفعه إلى النهوض بالجيش وإعداد حياة علمية من ولذلك لم يحقق للمصريين حرياتهم الفردية والسياسية ، ولا حقق لهم رخاء مادياً : إلى رخاء أدبى ، فوقف الأدب ووقف الشعر معه عند حياة جامدة بهم ينتهى خاملة هي محسنات واقرأ في دواوين الشعراء الذين عاصروا محمد على وعباساً الأول وسعيداً من مثل إسماعيل الخشاب والشيخ حسن العطار والشيخ محمد شهاب الدين والسيد الدرویش ؛ فلن تجد سوى صور لفظية قد تدثرت بثياب غليظة من البديع ، ولن تجد شعوراً ولا عاطفة . وقيم الشعور والعاطفة وكل شيء في الحياة المصرية خامد ها مد ؟ لقد تبلدت الحياة ، فجمد الشعر والشعراء ، ولم يعد هناك إلا التقليد ، وهو تقليد قاصر يقف عند النماذج العثمانية وما يقترب منها ، وكل ما له من فضل تكديس ألوان البديع بل أثقاله ، وإضافة أثقال جديدة من مثل أن ينظم الشاعر قصيدة من حروف معجمة أو مهملة أو تقرأ أبياتها من آخرها إلى أولها على نحو ما تقرأ من أولها إلى آخرها، أو يستخرج منها تاريخاً بحساب الجمل . فقد أصبح الشعر حساباً وأرقاماً وتمارين هندسية عسيرة الحل ، فإن ترك ذلك الشاعر فإلى الاقتباس والتضمين والتشطير والتخميس لقصائد معروفة . وليس للشاعر من فضل في هذا العمل إلا أنه يجرى كلاماً على آلات العروض والقوافى ، وهو كلام مفكك ، يرص الشاعر الألفاظ على نحو ما عمال يصنع المطابع ،