ثانياً: الدولة والمجتمع المدني: علاقات التكامل: لاشك أن فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني على أنها علاقة تعارض وصراع، هو فهم يشوبه الكثير من القصور ويتضح ذلك من درس طبيعة النشأة التاريخية لكل من المجتمع المدني والدولة، وكيف أن هذه النشأة قد حددت لكل منهما وظائف وأدوار محددة، لقد تأسس مفهوم الدول - الأمة في المجتمعات الحديثة على مجموعة من الأفكار التي تناوئ فكرة التحكم والسيطرة على مقدرات المجتمع دون إرادة هذا المجتمع. ومن ثم فقد كان الولوج إلى الدولة الحديثة مفعما بالنظر في الدولة على أنها تجسد الإرادة العامة للأمة، أو هي الوجه العيني المجسد الروح المجتمع لتنظيم الحياة العامة وضبط التوثرات بين الأفراد والإنابة عنهم في تنفيذ العقاب. لقد كانت هذه هي جوهر الأفكار التي قام عليها التعاقد الإجتماعي في الدولة الحديثة. ولم يكن لهذا التعاقد أن يظهر إلى الوجود إلا في إطار ديمقراطي وما كانت الثورات - والحروب أحيانا التي خاضتها الشعوب الحرة إلا أحد أدوات السعي نحو وضع صيغة التعاقد الاجتماعي هذه موضع التنفيذ العملي من خلال إقامة الدولة الديمقراطية التي لا تحتكر سلطة استخدام القصر إلا من أجل الصالح العام، الضمان الأكثر فعالية من ذلك هو استقلال أجهزة الدولة في علاقتها بالفنات الاجتماعية المختلفة، الذي يؤدي - من الناحية النظرية - وظائف مدى هامة الأولى: هي تكوين حائط منيع من التنظيمات الاجتماعية التي : تحول دون أن تتحول الدولة إلى الطغيان، على تحقيق الصالح العام الذي يُساهم هو نفسه في بلورته وتحديد معالمه وعلاقات الافراد متم سات و سیان سلم التفاعل ولقد كانت فكرة المجتمع المدني ذاتها عندما ظهرت في كتابات هيجل، كانت تفهم لا على أنها أداه للمقاومة، بل أداه لتحقيق النظام والإلتزام بالمسئولية العامة. لقد وسع هيجل" من مفهوم المجتمع المدني ليشمل على العلاقات المنظمة التي يقيمها الأفراد في حياتهم، والسوق أنها العلاقات الحرة التي تعبر بالأساس عن الهوية الفردية، ولكن هذه المصالح لا يمكن أن تتحقق إلا عبر معاك عملية تبادل اجتماعي، ومن ثم فقد أكد على أهمية وجود مؤسسات وسيطة هي عماد المجتمع المدني، واتخذ دوركايم" موقفا أقرب إلى ذلك في تأسيسه لنظرية تقسيم العمل. إن تقسيم العمل هو مبدأ أخلاقي يتم العمل به في حال تطور المجتمع من صور التنظيم الآلية إلى صور التنظيم العضوية، فلا يُمكن في المجتمع الصناعي الحديث أن يتعايش الأفراد دون شكل من أشكال تقسيم العمل. ولكن تقسيم العمل يعمل على تباعد الأفراد الذين كانت تجمعهم روابط تضامنية قوية في المجتمع القديم، وتقف هذه الروابط التي تعد روابط مدنية في منتصف الطريق بين الأفراد والجماعات وبين الدولة. فهي تساعد الأفراد من ناحية على تجميع أنفسهم فلا يتحولون إلى غوغاء في النظام الديمقراطي الليبرالي، وهي في اتجاهها إلى أعلى تمنع الدولة من أن تتحول إلى طاغية. فالدولة النظام السياسي العلماني) هي أداه المجتمع في تحقيق النظام العام في المجتمع الذي يتقلص فيه دور السلطة الدينية. ولكن الأفراد يحتاجون في المجتمع الجديد إلى صور من التجمعات التي تخلق روحاً جمعية داخل المجتمع وتمكن الأفراد من أن يتفاعلوا وأن يُشكلوا روابط جمعية تعيد إنتاج الإتفاق الاجتماعي عبر ما تمارسه من طقوس وعلاقات وتجمعات (۱۰). وهذا هو ما أطلقت عليه الدراسات المعاصرة مفهوم المجال العام public sphere ، في مقابل المجال السياسي الذي تتحرك فيه الدولة، والمجال الخاص للأفراد في حياتهم اليومية ولقد أبرزت بحوث الدولة المعاصرة أهمية التكامل بين الدولة والمجتمع. وان التعارض بينهما يشي بمشكلات في نشأة الدولة، وفي نشأة المجتمع المدني وعدم توافقه مع أهداف الدولة من ناحية أخرى. وظهرت في هذا السياق قضايا نظرية هامة تضيف إلى الرصيد الكلاسيكي في دراسة الدولة أبعاداً جديدة: والدولة التنموية هي دولة منغرسة في المجتمع، تتمتع بدرجة عالية من الشرعية والروح الإندماجية والعلاقات الإيجابية مع القوى الاجتماعية المختلفة، ولذلك فإن الدولة التنموية تلعب دوراً مركزياً في المجتمع من خلال تبني أيديولوجية تنموية تعتبر تحقيق التنمية والتقدم رسالة وهدفاً للدولة. وتتمكن الدولة التنموية من تحقيق هذه الرسالة عبر مركزية دورها وشرعيتها وكفاءتها في العمل وروحها الإندماجية واستقلالها عن القوى المختلفة في المجتمع، فليست كل الدول تمتلك أيديولوجية تنموية، ومن هنا فإن الدولة لا تستطيع أن تقيم علاقة متوازنة مع مجتمعها إلا إذا توفرت لها شروط عديدة. لقد أكدت نظرية الدولة في الثمانينيات من القرن الماضي على مفهوم استقلال الدولة بوصفه مفهوما يفسر كثيراً من الإشكاليات المثارة حول علاقة الدولة بالطبقة؛ ولقد فهم الإستقلال هنا بوصفه موقفا للدولة في المجتمع الرأسمالي الذي تقود فيه الطبقة البرجوازية عمليات التطور الاقتصادي (۱۲). أما في الدولة التنموية فإن الإستقلال يجب أن يكون ايجابياً وفاعلا ولا يتحقق ذلك إلا بقوة الدولة. ونخب سياسية منجزة وحيادية ومستقلة، ويبتعد عن علاقات الجاهلية، وتحقيق درجة عالية من التماسك القائم على العلاقات المهنية والعلاقات الإندماجية. هنا لا تكون الدولة مستقلة عن المجتمع بقدر ما هي مرتبطة به من خلال شبكة علاقات تمكن النخب السياسية من أن تناقش الأهداف والسياسات، وأن تقيم علاقات بناءة مع رجال الأعمال وقوى المجتمع المدني، ثمة تطوير هنا لمفهوم استقلالية الدولة، فإذا كانت الدولة يجب أن تستقل بإرادتها عن القوى الاجتماعية المختلفة لتحقيق التوازن بينها، فهى العين اليقظة التي ترعى المصلحة العامة وتعمل على تحقيقها. ولذلك فإن علاقاتها وما ترسيه من قيم ومبادئ، وما تقوم به من تشارك أو تعاون أو تشبيك، لا يُقلل من استقلاليتها بقدر ما يُضفي على هذه الإستقلالية طابعاً جديداً لا يُحول الدولة إلى دولة رخوة هشة، ولكنه يحولها إلى دولة تنموية قوية. وفي هذا الإطار تعمل الدولة والمجتمع المدني كتنظيمات متوازنة في إطار قانوني واحد، بحيث لا تعمل الدولة على فرض أطر ضابطة تمليها من أعلى. وفي المقابل تتخلى الدولة عن بعض وظائفها الضابطة ودخولها إلى السلطات المحلية والروابط المحلية التي تكون على دراية أكبر بالمشكلات وإمكانية حلولها. تلك السياسات التي تقوم الدولة ذاتها بتحديد أهدافها العامة. وفضلا عن ذلك تعمل الدولة على تشجيع تنظيم المصالح في تنظيمات، وفي هذا النموذج تعمل تنظيمات المجتمع المدني دوراً وسيطاً بين الإقتصاد وبين التنظيمات الرسمية للدولة. ولا يُمكن لهذه العلاقة الثلاثية بين التنظيمات الرسمية للدولة والإقتصاد والمجتمع المدني أن تؤتي ثمارها إلا بواسطة توافر شرطين هامين الإندماجية والتفاوض deliberation بحيث تضمن الدولة استمرار روح الإندماجية والتفاوض، شريطة ألا تتحول الإندماجية إلى خدمة مصالح شخصية ضيقة، فسوف تختل العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالفعل السياسي والتفاعل السياسي يجب أن يتأسسا على عملية جدلية من تبادل الآراء المبنية على التفكير العقلاني والتدبر والتفاوض من أجل حل المواقف يكاد التحليل السابق أن يضعنا أمام نموذج مثالي للعلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، فماذا عسى أن تكون العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني في واقع بعض المجتمعات في العالم ومن بينها المجتمع العربي ؟ بمعنى آخر وما هي الكوابح التي يُمكن أن تعوق قيام دولة تنموية أو ديمقراطية ترابطية في كثير من هذه البلدان ؟ ثالثاً : مشكلات في العلاقة بين المجتمع المدنى والدولة: إلى أى مدى يمكن أن تنتظم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة ؟ وهل هذه العلاقة المتكاملة المثالية يمكن تحقيقها في الواقع ؟ الحقيقة أن الواقع يختلف دائما عن المثال؛ وان المجتمعات تختلف قرباً أو بعداً عنه في ضوء مستوى الشرعية الذي تتمتع به، ومن ثم مستوى احتواء الدولة لسكانها، ودرجة وضوح أهداف النخبة السياسية ومن ثم وعى الدولة والقوى الفاعلة معها المجتمع المدني والقطاع الخاص بأهمية تحديد معالم واضحة للصالح العام الذي يتجاوز المصالح الخاصة لهذه القوى أو لأطراف فيها، ومستوى وعى النخبة بأهمية التفاوض والمداولة والتدبر في صناعة القرار وتنظيمها للعلاقة بين قوى المجتمع المختلفة. ونحن بحاجة إلى دراسات مقارنة عميقة بين الدول المختلفة (خاصة الدول العربية لكي تتوصل إلى بيانات موضوعية يُمكن من خلالها أن نتعرف على مدى قرب الدول من أو بعدها عن المنظومة المتكاملة بين الدولة والمجتمع المدني. ومع ذلك فبإمكاننا أن نطرح - على المستوى النظري - بعض المشكلات التي نفترض أنها يمكن أن تمنع أو تكبح قيام مثل هذه العلاقة. وترتبط بعض هذه المشكلات بتكوين الدولة، ويرتبط بعضها الآخر بتكوين المجتمع المدني. وفي ضوء هذا السياق يمكننا الإشارة إلى المشكلات التالية : - تضخم أجهزة الدولة : وتتدرج هذه النظم السياسية في درجة تفوق الدولة في علاقتها بالقوى الاجتماعية المختلفة. ففي الوقت الذي يحتفظ فيه النظام الليبرالي الحر بدرجة من التوازن بين الدولة والقوى الاجتماعية الطبقات والحركات الإجتماعية وتنظيمات المجتمع المدني)، ولقد قدم هذان النموذجان دليلا على الطريقة التي يمكن أن تتضخم بها أجهزة الدولة لتجعل المجتمع مشدوداً إلى أعلى بشكل دائم لا يتحرك فيه ساكن إلا بأذن من مشيئة الإدارة المركزية. هنا ينحصر دور المجتمع المدني إلى أدنى درجة، ولقد أكد بعض منظري الدولة في العالم الثالث على فكرة مفادها أن معظم هذه الدول قد تأسست في أحضان القوى الإستعمارية. وبعد ذهاب هذه القوى احتفظت الدول بنفس أجهزتها الإستعمارية ووسعت من أدواتها، فهذه العلاقات تجعل الأساس الاقتصادي الذي تقوم عليه الدولة موجوداً في دول المركز، وتترك البنية الداخلية في حالة من التخلف وبين الإثنين تقف الدولة التابعة في حالة تضخم تستمده من علاقاتها العميقة مع دول المركز، يعمل على كل القوى الاجتماعية، وتشتيت جهودها كما يجعل صوت الدولة وأجهزتها هو الصوت الأعلى، بل أن صوت الدولة القوي قد يخترق تنظيمات المجتمع المدني نفسه. وأحسب أن هذا الظرف يُشتت قوى المجتمع المدني، - الدولة والحياد بين الطبقات والقوى الاجتماعية : وهنا تبرز أمامنا مشكلة أخرى للعلاقة بين الدولة والمجتمع، وهو علاقة الدولة بالطبقات الاجتماعية. ففى النظم الإشتراكية تنحاز الدولة انحيازاً كاملا للطبقات العاملة، وتعمل الصدق على من التشريعات التى توسع من قاعدة هذه الطبقة، ولقد واجهت الدول الإشتراكية مشكلات وصعوبات جمة في تحقيق هذا الهدف، في الوقت الذي حدث فيه هذا فشلت الدولة في أن تمنع ظهور فئات متميزة، ويتمتعون بمزايا سياسية واقتصادية مختلفة. أما في المجتمعات المجتمعات الرأسمالية فقد انقسم الرأى بين اتجاهين : اتجاه يرى أن الدولة في المجتمع الرأسمالي متحيزة بالضرورة، الدولة مستقلة أو الإشتراكية الإجتماعية، وتحقيقها انتصارات سياسية في ويتلخص هذا الرأي في القول بأن للدولة في المجتمع الرأسمالي وظائف تنحصر في حفظ الأمن العام، وصيانة الحرمات الإجتماعية والسياسية، وتحقيق العدالة والمساواة ولا تستطيع الدولة أن تحقق مصالحها وهى في وضع التحيز لطبقة بعينها، ولذلك فإنها يجب أن تسعى إلى أن تكون مستقلة عن الطبقات الاجتماعية. ويحقق لها هذا الإستقلال مطلبين هامين أهمية استقلال الدولة عن الصفات الاجتماعية المطلب الأول: عدم سيطرة فئة معينة على قرارات الدولة، ولذلك فإن الدولة لا تستطيع أن تحقق سيادتها المطلقة وقوتها المطلقة وهي ضرورة لإقامة المجتمع في حالة التحيز والإلتباس. وتعمل على أن تكفل لهم القدرة على استبقاء حياتهم وفتح آفاق أمام حل مشكلاتهم. ظل محير الدولة يزدهر في دولة تظهر تحيز ال والسؤال الآن: هل يمكن للمجتمع المدني أن واضحا لأحد الطبقات على حساب الأخرى ؟ أو لأحد القطاعات على حساب القطاعات الأخرى ؟ ولنا أن نسأل أيضاً: إذا كان موقف الإستقلال يمنح فرصاً متكافئة للجميع، يتحول هدف المجتمع المدني في هذا الظرف من حالة التدبر العقلاني والتفاوض من أجل الصالح العام، يتحول إلى أحد أدوات تلطيف العنف والتطرف، هذا إذا لم يُسهم فيه أصلا ( أفكر في هذا السياق في بعض التنظيمات ذات الميول المتطرفة والتي تتخذ من العنف وسيلة لتحقيق بعض أهدافها وهي تحتمي بمظلة المجتمع المدني). طور "هابرماس" مفهوم المجال العام ليُشير إلى الفضاء العام الذي يصنعه الأفراد العاديون عبر لقاءاهم وتنظيماتهم المستقلة، الذي يُمكن أن يُطلق عليه أيضاً الفضاء المدني أو المجال العام، في المشاركة في مناقشة الأمور العامة بشكل مستقل عن سلطة الدولة. ويمتد هذا الفضاء العام من جلسات النقاش الخاصة في المقاهي والصالونات والندوات إلى المناقشات الأكثر تنظيماً داخل المؤسسات المدنية وجماعات المصالح والحركات الإجتماعية المنظمة. وتساهم المفاوضات والمناقشات داخل المجال العام في إثراء العملية الديمقراطية، فرغم الإستقلال الذي يتمتع به المجال العام، وهو يُتيح الفرصة لتأطير عمليات للحوار البناء في مقابل سلطات الدولة من ناحية والقطاع الخاص الذي يقوم على التبادل الحر من ناحية أخرى. بل يعبر عن عمليات التباين الكبرى الذي حدثت في المجتمع الرأسمالي على اثر فصل الكنسية عن الحكومة، ويتطلب المجال العام شروطاً من أهمها أنه يتأسس على مفاهيم واضحة للمساواة، وإدراك واعي بأن الهدف من النقاش والتفاوض هو تحقيق الصالح العام وأن هذا النقاش ينطلق أصلا من اهتمام شخصي بهذا الصالح العام، وعدم احتكار هذا الميدان من قبل شلة أو قلة أو جماعة، فهو مفتوح لكل الاتجاهات والتيارات ويتأسيس النقاش داخله على مبدأ عقلاني رشيد يقوم على الاختيار الحر والتفاوض الحر، وأخيراً فإن المجال العام يتأسس على فعل اتصالي، فهو لا ينغلق على نفسه ولكنه يفتح قنوات اتصالية مع القوى والإتجاهات داخل المجالات الأخرى. ويُعد المجال العام بذلك فضاء الحرية الحقيقي في المجتمع. على أسس من المشاركة والتسامح والعمومية، التي تتجاوز كل ما هو خاص إلى ما هو عام، بما في ذلك تجاوز لغة الحوار لدى كل فئة إلى لغة سياقية عامة، وتجاوز الاقتصار على فئة معينة أو أعضاء في تنظيمات معينة، فهو ذو حدود مفتوحة للمشاركة الجماعية، بمعنى أن الحوار والنقاش داخل المجال العام ليس سلبيا، ولا يستهدف المعارضة من أجل المعارضة على العكس من ذلك أنه يدفع إلى الأمام بالحوار البناء الإيجابي من أجل الصالح العام. فالمجالات الحوارية الجدلية البناءة تتجمع في النهاية في مجال عام حواري وجدلي مفتوح وحر من أجل إعلاء المصلحة العامة ويمنحها الفرصة لكي تعارض وتجادل من أجل الصالح العام في إطار من النقاش العقلاني البناء والأصل في كل ذلك هو الإدراك الواعي المفهوم "الصالح العام" Public Good؛ والسعي نحو التوافق اللحظي مع المواقف المتغيرة أو ضغوط السياسة؛ حيث تعجز النخب السياسية والمدنية عن التوصل إلى اتفاق عام حول المبادئ العامة للمجتمع من ناحية وأسس الحوار والتفاوض من ناحية أخرى. وفي مثل هذا الظرف سوف تسعى كل جماعة إلى أخذ المجتمع أخذ عزيز مقتدر، وأن تفهم الفضاء العام على أنه فضاؤها فحسب. ويتحول المجتمع إلى جزر متفرقة كل يعمل على هواه ووفق ما يرى من مصالح خاصة، ويزداد هنا التباعد الاجتماعي ويفقد المجتمع أحد أهم أسس النظام الاجتماعي العام. ضعف فاعلية النخب المدنية : ومؤسساتها وعدم فاعلية أدائها أو وظائفها، يمكن أن ينطبق على المجتمع المدني أيضاً. وتبدو العلاقة بينهما وكأنها علاقة تبادلية؛ والعكس صحيح. ومجالها العام، وقوة المجتمع المدني من فاعلية أداء الدولة وحرصها على مشاركة كل القوى والتيارات السياسية والاجتماعية في عملية صناعة السياسات العامة وتنفيذها. ومن هذه المقدمة يمكن أن نخلص إلى القول بأن مشكلات تأسيس الدولة الوطنية. لابد وأن تنعكس على مشكلات تأسيس المجتمع المدني. وتحيزها الظاهر لفئات دون أخرى في مراحل تاريخية محددة، وإثقال كاهله بمشكلات عديدة. ومن الأمثلة التي يمكن طرحها بشأن نشأة وتكوين المجتمع المدني في علاقته بالدولة، السؤال الخاص بموقف النخب السياسية المشكلة لهذا المجتمع وطموحاتها السياسية والاجتماعية، وطبيعة الاستقلال الذي يحققه المجتمع المدني في مقابل الدولة، فنجد من ناحية أن النخب السياسية، قد اتخذت طابعاً خاصاً، وهى التي ناضلت من أجل تخليصه من تاريخ مظلم. ومن ثم فقد منحت لنفسها حقوقاً مطلقة في إدارة المجتمع وتوجيه أجهزة الدولة، ولقد تشكلت النخب المدنية حول هذه النخبة وفي كنف حكمها، مثلها في ذلك مثل النخب السياسية حاملة السلطة. ومن ثم فقد اكتسبت النخب المدنية نفس الخصائص. واعتبرت أن مشروعها وأفكارها ليست محل نقاش، وربما يُفسر لنا هذا الرأى ما نراه من مشكلات أشارت إليها بعض الدراسات التي وتزداد هذه المشكلة تعقيداً عندما نجد أن معظم النخب المدنية قد تشكلت في أحضان الطبقة الوسطى. أن هذه النخب تميل إلى الإنشطار والإنشقاق، وهي تخب غير متجانسة ومفككة مثلها مثل الطبقة التي أفرزتها. فالمجال السياسي - بحكم تكوينه التاريخي - قد لا يُحقق درجة الإستقلال المطلوبة؛ وكذلك المجال الاجتماعي الذي تعمل فيه المنظمات التطوعية قد لا يرغب كلية في الإستقلال. ويتدخل في شئونه بحيث يبث رجاله ونساءه عبر المجال المدني، ومن ناحية أخرى، نجد أن بعض أعضاء التنظيمات المدنية لا يرفعون شعار الإستقلال عن الدولة بقدر ما يهرولون نحو الدولة في أول إشارة. فالمجتمع المدني هنا هو وسيلة - لا للتداول والتدبر والنقاش والمشاركة في عمليات التفاوض والمداولة من أجل الصالح العام - بل للولوج إلى عالم السياسة. و لا تحاول المنظمات الأكثر استقلالاً عن الدولة أن تجعل من هذا الإستقلال وسيلة لمناقشة الصالح العام، بقدر ما هو وسيلة لتجاوز الدولة بالدفاع عن أجندات عولمية جاهزة يُصاحبها إغداق في التمويل الذي يمنح بدوره للنخب المدنية تميزاً اجتماعياً وسياسيا . خاتمة و"القيم العامة"،