وَالْخَيْرَ لَنْ يَكُونَ بِلَا مُقَابِلٍ، وَالشَّرَّ لَنْ يَمُرَّ بِلَا رَادِعٍ، وَالْجَرِيمَةَ لَنْ تُفْلِتَ بِلَا قِصَاصٍ. يَعْنِي أَنَّ الْكَرَمَ هُوَ الَّذِي يَحْكُمُ الْوُجُودَ وَلَيْسَ الْبُخْلَ، وَلَيْسَ مِنْ طَبْعِ الْكَرِيمِ أَنْ يَسْلُبَ مَا يُعْطِيهِ. فَهُوَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْلُبَهَا بِالْمَوْتِ. بَلْ هُوَ انْتِقَالٌ بِهَا إِلَى حَيَاةٍ أُخْرَى بَعْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْعَذَابِ حِكْمَةٌ، فَنَحْنُ أَمَامَ لَوْحَةٍ مُتَجَدِّدَةٍ لِأَعْظَمِ الْمُبْدِعِينَ. يَعْنِي أَنْ يَتَدَفَّقَ الْقَلْبُ بِالْمَشَاعِرِ، وَتَحْتَفِلَ الْأَحَاسِيسُ بِكُلِّ لَحْظَةٍ، يَعْنِي أَنْ تَذُوبَ هُمُومُنَا فِي كَنَفِ رَحْمَةِ الرَّحِيمِ، فَأَيُّ بُشْرَى أَبْلَغُ لِلِاطْمِئْنَانِ مِنْ هَذِهِ الْبُشْرَى؟) وَلَنْ نَتَشَتَّتَ بَيْنَ وَلَاءٍ لِلْيَمِينِ وَوَلَاءٍ لِلْيَسَارِ، وَتَوَسُّلٍ لِلْأَغْنِيَاءِ وَارْتِمَاءٍ عَلَى أَعْتَابِ الْأَقْوِيَاءِ. وَتِلْكَ هِيَ أَخْلَاقُ الْمُؤْمِنِ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَتِلْكَ هِيَ الصَّيْدَلِيَّةُ الَّتِي تُدَاوِي كُلَّ أَمْرَاضِ النُّفُوسِ، وَتُبْرِئُ كُلَّ أَدْوَاءِ الْقُلُوبِ. التَّرْكِيبَةُ النَّفْسِيَّةُ الْإِيمَانِيَّةُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَتَمَيَّزُ بِالْحِلْمِ وَالصَّبْرِ وَالتَّوَاضُعِ وَالتَّسَامُحِ وَالْحَيَاءِ، يَسِيرُونَ عَلَى الْأَرْضِ بِهُدُوءٍ، وَعِنْدَمَا يُخَاطِبُهُمُ الْجَاهِلُونَ يَقُولُونَ سَلَامًا. يُعْرَفُ الْمُؤْمِنُونَ بِطُولِ صَمْتِهِمْ وَاسْتِمْرَارِيَّةِ تَفْكِيرِهِمْ وَخَفْضِ أَصْوَاتِهِمْ وَابْتِعَادِهِمْ عَنِ الضَّوْضَاءِ وَالصَّخَبِ. يُعْرَفُونَ أَيْضًا بِالتُّؤَدَةِ وَالْإِتْقَانِ وَالْإِحْسَانِ فِي الْأَعْمَالِ الْمُوَكَلَةِ إِلَيْهِمْ، وَبِالدَّمَاثَةِ وَلِينِ الطَّبْعِ وَالصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ وَالِاعْتِدَالِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ. فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسُودَ مَمْلَكَتَهُ الدَّاخِلِيَّةَ وَيَحْكُمَهَا بِانْسِجَامٍ. السَّكِينَةُ هِيَ الصِّفَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى التَّوَافُقِ بَيْنَ مُتَنَاقِضَاتِ النَّفْسِ وَخُضُوعِهَا بِسَلَاسَةٍ لِصَاحِبِهَا، تَقْرَأُ هَذِهِ السَّكِينَةَ فِي هُدُوءِ وَجْهِ الْمُؤْمِنِ، لَيْسَ هُدُوءَ الْفَرَاغِ أَوِ الْبَلَادَةِ، كَأَنَّمَا الْإِنْسَانُ الَّذِي تَرَاهُ أَمَامَكَ يَحْتَوِي الْبَحْرَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ، هَذَا الْهُدُوءُ الْمُشِعُّ هُوَ غِنَى الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَجْعَلُ عَلَاقَتَهُ بِمَا حَوْلَهُ مُتَمَيِّزَةً وَمُخْتَلِفَةً، عَلَاقَتَهُ بِالْأَمْسِ وَالْغَدِ وَالْمَوْتِ وَالنَّاسِ وَعَمَلِهِ وَنَظْرَتِهِ لِلْأَخْلَاقِ. الْأَخْلَاقُ بِالْمَعْنَى الْمَادِّيِّ هِيَ إِشْبَاعُ الرَّغَبَاتِ دُونَ التَّعَارُضِ مَعَ حُقُوقِ الْآخَرِينَ، بَيْنَمَا الْأَخْلَاقُ بِالْمَعْنَى الدِّينِيِّ هِيَ قَمْعُ الرَّغَبَاتِ وَتَحَكُّمُ النَّفْسِ لِتَحْقِيقِ الْكَمَالِ كَخَلِيفَةٍ. وَإِنْ كَانَتْ هُنَاكَ ثَمَرَةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ فَهِيَ تَأْتِي بِالتَّبَعِيَّةِ. الْمُجْتَمَعُ الْمُكَوَّنُ مِنْ أَفْرَادٍ كَهَؤُلَاءِ سَيَسُودُهُ الْوِئَامُ وَالسَّلَامُ وَالْمَحَبَّةُ. الْأَخْلَاقُ بِهَذَا الْمَعْنَى هِيَ الْخُرُوجُ مِنْ عُبُودِيَّةِ النَّفْسِ إِلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى، مِنَ الرَّغْبَةِ فِي الشَّيْءِ الْمَادِّيِّ إِلَى الرَّغْبَةِ فِي حَضْرَةِ الْإِلَهِ، وَهَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ إِلَّا إِذَا تَمَّ تَصْحِيحُ بَصَرِ الْعَيْنِ لِتَرَى كُلَّ شَيْءٍ بِحَقِيقَةِ حَجْمِهِ. فُرُويدُ يَرَى أَنَّ عُلَمَاءَ النَّفْسِ فِي الْغَرْبِ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّفْسِ مِنْ خِلَالِ عُيُوبِهَا وَأَمْرَاضِهَا، وَيُفَسِّرُ التَّصَرُّفَاتِ بِنَاءً عَلَى عُقْدَةِ أُودِيبَ وَعُقْدَةِ إِلِكْتِرَا، وَهُمَا تَعْبِيرَانِ عَنْ رَغْبَةِ الطِّفْلِ فِي الِاتِّحَادِ الْجِنْسِيِّ مَعَ الْأُمِّ وَرَغْبَةِ الْبِنْتِ فِي الِاتِّحَادِ مَعَ الْأَبِ. يَعْتَبِرُ فُرُويدُ الشُّعُورَ بِالذَّنْبِ مَرَضًا، وَيَعْتَقِدُ أَنَّ قَمْعَ الشَّهَوَاتِ لَهُ عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ. يَقِفُ الدِّينُ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ هَذِهِ النَّظْرَةِ، مُعْتَبِرًا قَمْعَ الشَّهَوَاتِ دَلِيلًا عَلَى سَلَامَةِ النَّفْسِ وَاقْتِدَارِهَا، يَرَى الدِّينُ أَنَّ النَّفْسَ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ رَغْبَةٍ وَفُجُورٍ، يَتَوَسَّعُ فُرُويدُ فِي تَفْسِيرِ الْجِنْسِ وَالطَّاقَةِ الْجِنْسِيَّةِ وَاللَّذَّةِ الْجِنْسِيَّةِ، وَيَدْمُجُ كُلَّ أَنْوَاعِ الْحُبِّ فِي الْحَلْقَةِ الْجِنْسِيَّةِ، وَحُبَّ الْأَبِ عُقْدَةَ إِلِكْتِرَا، وَيَصِفُ الدِّينُ النَّفْسَ بِأَنَّهَا قَابِلَةٌ لِلْفُجُورِ وَالتَّقْوَى، مِمَّا يُتِيحُ لِلْإِنْسَانِ الِاخْتِيَارَ بَيْنَ الِارْتِقَاءِ نَحْوَ اللهِ أَوِ الِانْحِدَارِ فِي دَرْكِ الشَّهَوَاتِ. يَعْلَمُ الْقُرْآنُ أَنَّ هُنَاكَ نَوْعَيْنِ مِنَ الْأَحْلَامِ: نَوْعٌ يُطْلَقُ عَلَيْهِ "أَضْغَاثُ الْأَحْلَامِ" وَهُوَ حَدِيثُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِشَهَوَاتِهَا وَرَغَبَاتِهَا أَوْ حَدِيثُ الشَّيَاطِينِ إِلَى تِلْكَ النَّفْسِ أَثْنَاءَ النَّوْمِ، وَهُوَ مَا اشْتَغَلَ فُرُويدُ بِتَفْسِيرِهِ. ثُمَّ هُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْأَحْلَامِ هُوَ الرُّؤَى، الرُّؤَى الَّتِي تَأْتِي إِلَى النَّفْسِ مِنَ الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَتَكُونُ حَدِيثًا مِنَ اللهِ إِلَى نَفْسٍ نَائِمَةٍ أَوْ حَدِيثًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُكَلَّفِينَ إِلَى تِلْكَ النَّفْسِ. وَمِثَالُ ذَلِكَ الرُّؤَى الصَّادِقَةُ الَّتِي تَتَحَقَّقُ بِدِقَّةٍ فِي وَقْتِهَا وَنَصِّهَا، وَلَا مَكَانَ لِهَذِهِ الرُّؤَى عِنْدَ فُرُويدَ وَنَظَرِيَّتُهُ تَعْجَزُ تَمَامًا عَنْ تَفْسِيرِهَا، كَمَا أَنَّ رُؤْيَةَ الْمُسْتَقْبَلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ هِيَ مَسْأَلَةٌ تَهْدِمُ الْفِكْرَ الْمَادِّيَّ مِنْ أَسَاسِهِ، سَوَاءٌ الْفِرُويْدِيَّ مِنْهُ أَوِ الْمَارْكِسِيَّ، وَيُمَيِّزُ الْقُرْآنُ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنَ الْأَحْلَامِ وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمَا، كَمَا فِي قَوْلِ فِرْعَوْنَ: "يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ" (يُوسُفُ: الْآيَةُ 43)، قَالُوا: "أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ" (يُوسُفُ: الْآيَةُ 44). فَهُنَاكَ إِذًا أَضْغَاثٌ وَرُؤًى، وَلَكِنَّ فِرُويْدَ لَا يَرَى مِنَ الْأَحْلَامِ إِلَّا تِلْكَ الْأَضْغَاثَ وَالْهَلْوَسَةَ الشَّهْوَانِيَّةَ، بَيْنَمَا يَرَى الدِّينُ أَنَّ السَّعَادَةَ فِي مُخَالَفَتِهَا وَقَمْعِهَا وَالتَّحَكُّمِ فِيهَا وَالتَّسَلُّقِ عَلَيْهَا عَوْدًا إِلَى الْوَطَنِ الْأَوَّلِ إِلَى اللهِ الَّذِي مِنْهُ جَاءَتْ كُلُّ النُّفُوسِ وَإِلَيْهِ تَعُودُ. أَمَّا الْحُزْنُ عِنْدَ فِرُويْدَ فَهُوَ عَلَى الْعَكْسِ نَتِيجَةُ حُبِّ الدُّنْيَا وَالْحِرْمَانِ مِنْهَا. وَيَنْظُرُ عِلْمُ النَّفْسِ الْحَدِيثُ إِلَى النِّسْيَانِ بِاعْتِبَارِهِ مَرَضًا يَنْتُجُ مِنْ عَدَمِ الِاهْتِمَامِ أَوِ الِاهْتِمَامِ الزَّائِدِ أَوْ كَوْنِ الْمَوْضُوعِ الْمَطْلُوبِ تَذَكُّرُهُ مَوْضُوعًا مُؤْلِمًا أَوْ بِسَبَبِ تَقَادُمِ الْعَهْدِ أَوْ كَبْتِ الْخِبْرَةِ الْمَنْسِيَّةِ فِي اللَّاشُعُورِ. وَالطَّبِيبُ النَّفْسِيُّ يُحَاوِلُ أَنْ يَصِلَ إِلَى هَذِهِ الْخِبْرَةِ الْمَنْسِيَّةِ بِالتَّحْلِيلِ أَوِ التَّنْوِيمِ الْمِغْنَاطِيسِيِّ أَوْ بِمُلَاحَظَةِ الْمَرِيضِ فِي أَثْنَاءِ تَدَاعِي خَوَاطِرِهِ. وَلَكِنَّ الدِّينَ يَنْظُرُ إِلَى الْمَوْضُوعِ فِي إِطَارٍ أَوْسَعَ وَأَشْمَلَ، هُوَ إِطَارُ الْعَلَاقَةِ بِاللهِ. فَمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ رَبِّهِ ذَاكِرًا لَهُ عَلَى الدَّوَامِ، لَا يَنْسَى شَيْئًا وَلَا يَغِيبُ عَنْ بَالِهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ فِي دَائِرَةِ النُّورِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ نَظْرَةِ عِلْمِ النَّفْسِ وَنَظْرَةِ الدِّينِ هُوَ افْتِقَادُ عِلْمِ النَّفْسِ لِلشُّمُولِ وَالنَّظْرَةِ الْكُلِّيَّةِ.