ذواقة الشاي ! . اجتمعت في مدينة كامبردج Cambridge بإنجلترا England ظهيرة أحد أيام صيف أواخر العشرينات ، مجموعة من أساتذة الجامعة وزوجاتهم ، وبعض الزائرين حول طاولة في الهواء الطلق الاحتساء الشاي . أصرت إحدى السيدات أن مذاق الشاي يختلف إذا صببناه على الحليب عن مذاقه إذا صببنا الحليب فوقه . بدأ الرجال ذوو العقول العلمية بالسخرية لما قالته باعتباره مجرد تفاهة ، فما الفرق في ذلك ؟ لم يروا أي فرق في التركيبة الكيميائية للمحلول الناتج . اعترض أحدهم على الخلاف وكان قصيرة ونحية بنظارة ثخينة ولحية قصيرة دقيقة بدأ يغزوها الشيب ، فقال بشغف : « فلنقم باختبار الفرضية » . بدأ بشرح تجربة بأن يقدم للسيدة أصرت على وجود فروق ، أكوابة صب في مجموعة منها الشاي على الحليب ، وأخرى الحليب على الشاي . هو أستطيع سماع آراء القراء رافضين الاهتمام بهذا الهراء ، إذ يتساءلون : « ما الاختلاف الذي سيحدث عندما تميز السيدة إحدى طرق الحقن عن الأخرى ؟ » فيسخرون قائلين أن لا يوجد ما له قيمة علمية في هذه المسألة ، وأنه من الأولى لهذه العقول الواعية أن تضع اهتمامها في أمور تنفع البشرية . إن تجربتي مع العلماء ولسوء الحظ ، أنهم يجرون أبحاثهم الاهتمامهم بالنتائج ولحصولهم على المتعتين العلمية والذهنية بعملهم هذا ، ونادرا ما يكون لمجرد قيمة عملهم العلمي كما الحال مع العلماء الحقيقيين . ورجوعة إلى ذلك اللقاء ظهيرة أحد أيام الصيف في كامبردج ، فقد تكون السيدة محقة أو غير محقة بشأن المحلول . وتكمن المتعة في إيجاد طريقة الإثبات ما إذا كانت محقة ، بتتبع إرشادات الرجل الملتحي فبدأوا بمناقشة كيفية القرار . شارك معظمهم وبكل حماسة خطوات تحضير التجربة ، وخلال دقائق بدأوا بتحضير أكواب بالطريقتين المختلفتين وعلى غير مرأى من السيدة . وختاما قدم لها الرجل الملتحي فنجانها الأول ، تذوقته وصرحت بعد دقيقة أنه الفنجان الذي تم فيه صب الحليب فوق الشاي . دون إجابتها من غير تعليق وقدم لها الفنجان الآخر . لقد سمعت هذه القصة في نهاية الستينات من رجل كان قد حضر ذلك اللقاء واسمه هیو سمیث Hugh Smith ، Fairfield Smith . تعرفت إليه عندما كان بروفيسور إحصاء في جامعة کونیکتیکت Connecticut في ستورز Storrs ، إذ كنت قد حصلت على شهادة الدكتوراه في الإحصاء من الجامعة نفسها قبل ذلك بسنتين . وبعد التدريس في جامعة بنسلفانيا Pennsylvania ، التحقت بقسم الأبحاث الطبية في شركة الأدوية الكبيرة بفایزر Pfizer Inc ، وكان يبعد مجمع أبحاث الشركة في غروتن Groton بكونيكتيكت ، مسافة ساعة بالسيارة عن ستورز . كان عملي في بفايزر يتضمن عدة مسائل رياضية معقدة ، ولكوني الإحصائي الوحيد هناك في ذلك الوقت ، كنت بحاجة المناقشة تلك المسائل والحلول التي أوجدتها » معهم . اكتشفت خلال عملي في بنایزر مدى قلة الأبحاث العلمية الممكن القيام بها منفردة ، إذ عادة ما تتطلب تعاون بين جمع من العقول ، تفادية لسهولة الوقوع في الخطأ . قد لا يناسب النموذج الذي أتقدم به في بعض الأحيان عند اقتراحي معادلة رياضية كوسيلة لحل مشكلة ، أو قد أبنيها على فرضيات لا تمثل تلك الحالة ، أو قد تكون « الحلول » التي استخرجتها مأخوذة من فرع خاطئ في المعادلة ، أو قد أكون أخطأت في العمليات الحسابية . كنت أجد ترحيبا كلما زرت جامعة ستورز مع البروفيسور سميث ، إذ كانوا يرحبون بكل هذه المناقشات بحماسة واهتمام . ما يجذب اهتمام معظم العلماء عادة بأعمالهم المتعة التي تتحقق لهم في العمل على تلك المسائل . يتطلعون بشغف للمداخلات مع غيرهم عند انكبابهم على إحدى المسائل محاولین فهمها . هو تصميم التجارب وهكذا كان ذاك اللقاء الصيفي في كامبردج . كان الرجل الملتحي هو رونالد آیلمر فيشر ، Ronald Aylmer Fisher وكان حينها في نهاية الثلاثينات من عمره ، ثم أصبح بمرتبة الفارس رونالد فیشر في سنة 1935. ألف كتاب بعنوان تصميم التجارب The Design of Experiments ، وقام بوصف تجربة ذواقة الشاي في الفصل الثاني من كتابه . قام فیشر في كتابه بمناقشة اعتقاد السيدة أنها مسألة فرضية ، وعرض مختلف الطرق التي يمكن بها تصميم التجربة ، لتقرير في ما إذا كانت السيدة تستطيع تمييز الفرق . تكمن المشكلة في تصميم التجربة . فإذا أعطيت فنجانا واحدة من الشاي تكون لديها فرصة 50 ٪ لتخمين نوع المحلول المستخدم ، حتى لو لم تستطع تحديد الفرق . كما أنها لو أعطيت فنجانين من الشاي فقد يكون بمقدورها التخمين بشكل صحيح . وفي الواقع إذا عرفت السيدة أن فنجاني الشاي قد أعدا بطريقتي حقن مختلفتين ، فإن أحد التخمينات سیکون صحيحة تماما ( أو خاطئة تماما ) . كما أن هناك فرصة لأن ترتكب خطأ حتى لو استطاعت تمييز الفرق ، أو أنه لم يتم مزج المحلول جيدة في أحد الفناجين ، أو تم مزج المحلول بينما لم يكن الشاي حارة بما فيه الكفاية . قد يعرض عليها عشرة أكواب مثلا وتميز تسعة منها فقط ، حتى لو استطاعت أن تفرق بينها . يناقش فیشر في كتابه النتائج الممكنة والمختلفة لمثل هذه التجربة . فهو يصف كيفية تحديد عدد الفناجين وكيفية تقديمها وترتيبها ، وما هو القدر الذي يجب إخبار السيدة به عن ترتيبه في التقديم . ثم يستنبط احتمالات النتائج المختلفة معتمدة على صحة أو عدم صحة اختيار السيدة . لم يشر أثناء مناقشته للتجربة أنها حدثت فعلا ، ولم يصف نتائج تجربة فعلية . کان کتاب فیشر عن تصميم التجارب ، عنصرا هاما في الثورة التي برزت في كل مجالات العلوم في النصف الأول من القرن العشرين . علما أنه كانت تقام التجارب العلمية قبل ظهور فيشر على الساحة بمئات السنين . قام الفيزيائي الإنجليزي وليام هارفي William Harvey في أواخر القرن السادس عشر ، بإجراء التجارب على الحيوانات ، فسد مجرى الدم في الأوردة والشرایین ، محاولا تتبع الدورة الدموية وهي تتدفق من القلب إلى الرئة ، ومن ثم تعود إلى القلب فباقي أجزاء الجسم ، متابعة عودتها إلى القلب ثانية . لم يكتشف فيشر أن التجارب وسيلة لزيادة المعرفة ، إذ كانت التجارب خاصة لكل عالم على حدة حتى مجيئه . تمكن العلماء الجيدون بعدها من إجراء تجارب تعطي معارف جديدة ، وانشغل القليل منهم بتجارب » تجمع الكثير من البيانات لا فائدة منها في تنمية المعرفة . ويتضح هذا في المحاولات غير الحاسمة التي أجريت خلال أواخر القرن التاسع عشر لقياس رعة الضوء . لم يتم حساب التقديرات الجيدة لحساب سرعة الضوء إلا بعد أن قام الفيزيائي الأمريكي آلبرت متشلسون Albert Michelson ، بإجراء مجموعة من التجارب عالية المستوى مستخدمة الضوء والمرايا . نادرة ما نشر علماء القرن التاسع عشر نتائج تجاربهم ، بل اعتادوا وصف نتائجهم ونشر البيانات التي توضح » صحة هذه النتائج . لم يظهر غريفور منديل Gregor Mendel کل نتائج تجاربه في تنمية البازلاء ، بل قام بوصف مراحل التجارب ثم كتب : « قد تقوم أول عشر عينات من كلتي التجربتين مقام تمثيل الصورة بكاملها . قام رونالد فیشر في الأربعينات باختبار أسس « تمثيل » بیانات منديل ، واكتشف أنها مبالغ بها لتكون واقعية ، إذ لم تظهر درجة العشوائية التي قد تحصل ) . وبالرغم من تطور العلوم من خلال التفكير الدقيق والملاحظة والتجارب ، إلا أنه لم تتضح أبدأ كيفية إجراء تلك التجارب ، كما لم يتم عادة عرض نتائجها على القارئ . لقد اتضحت حقيقة هذا الأمر خصوصا في الأبحاث الزراعية التي أجريت في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . كان فيشر يعمل في مركز روثهامستد للأبحاث الزراعية Rothamsted Agricultural Experimental Station خلال السنوات الأولى من القرن العشرين ، وكان المركز يجري تجاربه على أنواع من المخصبات ، ( تدعى « المخصبات غير الطبيعية » قبل تسعين سنة من انضمامه إليه . كان العمال في إحدى تجاربه ينشرون خليط من الفوسفات وأملاح النيتروجين على الحقل كله ، ثم يزرعون الحبوب ويقيسون فترة الحصاد ، مع كمية الأمطار التي تهطل في الصيف . وهناك معادلات تفصيلية تستخدم التعديل » نتاج سنة ما أو حقل ما ، لمقارنتها مع نتاج حقل آخر ، أو نتاج الحقل نفسه في سنة أخرى . يدعی ذلك مؤشرات التخصيب » وكل مركز أبحاث زراعي له مؤشرات تخصيب خاصة به ، والتي يعتقد أنها أكثر دقة من غيرها . كتلة من كانت حصيلة هذه السنوات التسعين من التجارب الفوضى ، واکتشافات واسعة لبيانات لم تنشر ولا فائدة منها . تبين أن بعض سنابل القمح تستجيب أكثر من غيرها لنوع معين من المخصبات ، ولكن فقط حينما يهطل المطر بغزارة . كما بينت بعض التجارب الأخرى أن استعمال هایدروکسید البوتاس في سنة ، وسلفات الصودا في سنة لاحقة زاد في إنتاج أنواع متنوعة من البطاطس دون غيرها . فكل ما نستطيع جزمه عن تلك المخصبات غير الطبيعية ، نظر فيشر نظرة عالم رياضي متمرس إلى مؤشرات التخصيب التي لجأ إليها خبراء الزراعة في روثامستد ، لتصحيح نتائج التجارب آخذين بالاعتبار الفروقات الناتجة عن التقلبات الجوية عبر السنين . قام بدراسة المؤشرات المنافسة المستخدمة في مراكز الأبحاث الزراعية الأخرى ، فوجد أن معادلاتها متماثلة إذا أعيدت لعناصرها الجبرية الأولية . أي أن كل مؤشرين يتنافس بهما أصحابهما يقودان بالواقع لنتائج التصحيح نفسها تماما . فقام سنة 1921 بنشر مقالة بمجلة التطور الزراعي الرائدة ، سجلات الأحياء التطبيقية Annals of Applied Biology ، أوضح فيها أنه لا فرق في استعمال أي نوع من المؤشرات . كما أوضحت المقالة عدم جميع هذه التعديلات التصحيح اختلاف التخصيب في حقول مختلفة . أنهت هذه المقالة المتميزة أكثر من عشرين سنة المشادات العلمية . ملاءمة من قام فيشر بفحص البيانات وقت الحصاد ، وعند هطول الأمطار لتسعين سنة ماضية ، وأوضح أن أثر الاختلاف الجوي من سنة إلى سنة يفوق أثر المخصبات المختلفة . استعمل فيشر لاحقا مصطلح امتداخلة » في نظريته للتصميم التجريبي ، لوصف الاختلاف من سنة إلى سنة في الجو ، والاختلاف من سنة إلى سنة في المخصبات غير الطبيعية ، أي أنه لا مجال لفصلهما عن بعضهما باستخدام بيانات التجارب . وأكثر من عشرين سنة من المشادات العلمية عديمة ومضيعة للجهد 6 الفائدة . حدد هذا نمط تفكير فيشر عن التجارب وتصميمها ، فاستنتج حاجة العلماء للبدء بنموذج رياضي لنتائج التجربة الممكنة . يتكون النموذج الرياضي هذا من مجموعة معادلات تمثل بعض رموزها أرقاما يتم جمعها كبيانات التجارب ، بينما تمثل رموز أخرى نتائج التجربة العامة . يبدأ العالم ببیانات التجربة ، ثم يحسب النتائج المناسبة للمسألة العلمية المطروحة . فلنأخذ مثلا تجربة أحد الأساتذة مع تلميذ معين . يهتم الأستاذ بإيجاد أسلوب لقياس مدى تحصيل تلميذه العلمي ، فيمتحنه بمجموعة « تجارب » ، ويقيم كل امتحان بمقياس من 0 الى 100. لا تمثل نتيجة كل امتحان على حدة حقيقة تحصيل التلميذ العلمي ، فهناك احتمال أنه لم يدرس بعض المواضيع التي اختبر بها ، بينما يكون على دراية بالمواضيع الأخرى . وهناك احتمال إصابته بصداع يوم الامتحان ، أو أنه قد احتد نقاشه والديه صباح يوم الامتحان . أسباب عدة تجعل الامتحان الواحد غير كاف لتقييم معلومات التلميذ ، لذا يقوم الأستاذ بإجراء عدة امتحانات له ، ويكون متوسط درجاته تقديرة أمثل لمدى تحصيله العلمي . تكون البيانات هي درجات التلميذ لكل امتحان . ما الأسلوب الذي يتبعه الأستاذ في تلك الامتحانات ؟ هل تكون مجموعة امتحانات لتغطية ما تعلمه التلميذ في اليومين السابقين ؟ أم هل يجب أن تشمل كل المادة التي درسها لحين الامتحان ؟ هل تجرى هذه الامتحانات أسبوعية أم يومية أم في نهاية كل وحدة دراسية ؟ تؤثر كل هذه الأسئلة في تصميم التجربة . عندما يريد معرفة أثر نوع معين من المخصبات غير الطبيعية على نمو القمح - تجربة للحصول على البيانات اللازمة لتقدير مدى أثرها . أوضح فيشر أن الخطوة الأولى في تصميم التجربة هي تهيئة مجموعة من المعادلات الرياضية ، لوصف العلاقة بين البيانات التي يتم جمعها والنتائج المتوقعة . كما أنه يجب على كل تجربة لتكون نافعة ، أن تسمح بتقدير تلك النتائج . ويجب أن تكون التجربة محددة فتسمح للعلماء تمييز الاختلاف في النتائج نسبة لتقلب الجو ، أو الاختلاف المخصبات المستعملة . ومن الضروري مقارنة نتائج تجربة ما بنتائج مجموعة تسمى « مجموعة الضبط » ، يزودنا فيشر في كتابه تصميم التجارب ، بأمثلة جيدة التصاميم تجارب ، واشتق منها قوانین عامة لتصميم التجارب . ولكنه استعمل أساليب رياضية معقدة إلى حد لم يستطع معظم العلماء أن يصمموا تجاربهم الخاصة ، إلا إذا اتبعوا نموذج أحد تصمیمات کتاب فیشر . أيقن خبراء الزراعة القيمة العظيمة لجهود فيشر في تصميم التجارب ، فسيطرت الأساليب الفيشرية على الكليات الزراعية في معظم أنحاء العالم الناطق باللغة الإنجليزية . وبمحاكاة الجهود الأولى لفيشر تطورت كتابات علمية لشرح تصاميم التجارب المختلفة . استخدمت هذه التصاميم المجالات غير زراعية ، كالطب والكيمياء ورقابة النوعية الصناعية ، ويتكون معظمها من معادلات رياضية معقدة . فلنوافق حاليا الرأي أنه لا يمكن لعالم وببساطة أن يجري تجربة ما » ، لأن الأمر يتطلب تفكيرة عميقة ودقيقة ، وغالبا ما يلزمه جرعة قوية من الرياضيات الصعبة . فما جرى لذواقة الشاي ؟ لم يصف فيشر نتائج التجربة التي أجريت في عصر ذلك اليوم الصيفي المشمس في كامبردج ، لكن البروفيسور سميث أخبرني أنها استطاعت تمییز كل الفناجين بدقة.