ثمّةَ عوامل جعلت من المفكِّرِ الكبيرِ عالمِ الاجتماعِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ خلدون(1332 – 1406م) – رحمه اللهُ – فيلسوفاً وعالماً اجتماعيّاً وسياسيّاً خبيراً في شؤون الدَّولة والمجتمع، فكانَ كثير المصادرِ مُتَنَوِّعَ الثّقافات والمعارف، إذْ شهِدَ عصرُ ابن خلدون صراعاتٍ اجتماعيّةً وسياسيّةً كثيرة، ولا سيِّما بعد نهاية الحروب الصَّليبيّة وما تلاها من صراعاتٍ حضاريّةٍ وتناقضاتٍ فكريّةٍ وعَقَديّةٍ عميقةٍ بين المجتمع العربيِّ الإسلاميِّ والمجتمعات المعادية للإٍسلام، فتفاقمت الصِّراعات الاجتماعيّة، وأدَّى ذلك إلى ظهورِ قُوى وإماراتٍ ودويلاتٍ عربيّةٍ صغيرةٍ، تتصارَعُ على النُّفوذ والسُّلطةِ في ظلِّ تلكَ الكيانات السياسيّة الهزيلة[1]. وشكَّلت تلكّ العوامل الخاصّة والعامّة فِكراً اجتماعيّاً وسياسيّاً مًمَيِّزاً لابنِ خلدون عن غيرِهِ من المفكِّرين العرب والمسلمين الَّذين عاصروه، واتِّجاهاً مختَلفاً ورؤيا سّياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة فيما أسماه “العمران البشريّ”، (لا كوست) يَعُدُّ مقدِّمة ابنِ خلدون “حدثاً معرفيّاً بل معجزةً عربيّةً، تتحدَّثُ عن أثر ابن خلدون وإسهاماتِهِ في الفكر الحداثيِّ، وتتناولُ مقدِّمتَه تحليلاً وتفكيكاً وتجميعاً وتركيباً، حتَّى غدت أفكارُهُ أُنموذجاً بارزاً ومثالاً حيّاً للمفكِّرين العرب والمسلمين والأوربيِّين على اختلاف توجُّهاتهم الإيديولوجيَّة واهتماماتهم المعرفيَّة. فأكثر ما اهتمَّ بهُ المعاصرون مشكلةُ التَّنظيم السِّياسيِّ للمجتمع العربيِّ والإسلاميِّ، والعلاقة مع الآخر ولا سيَّما العلاقة بالغرب، وعبَّر عنها برؤية تاريخيّة تراكميَّة بعد أن عاصرَ تلك المشكلات في تنقّله الطَّويل وعمله في بلدان مختلفة. فضلاً عن الوضع الاقتصاديِّ المتردِّي الَّذي عاشه مجتمعُهُ آنذاك بعدَ خروج العرب من الأندلس وفقدان مراكز التِّجارة البرِّيَّة والبحريَّة الّتي سيطَرَ عليها الأوربِّيُّون بعد انتزاعها من العرب، فتَحَوَّلَ العرَبُ إلى الاعتماد الكامل على الزِّراعة، فدفعت تلك الظروف مجتمعةً ابنَ خلدون إلى أن يصبَّ اهتمامَهُ كلَّهُ في مقدِّمتِهِ على نشأة المجتمع وتقدُّمه وانهيارِه والقوانين التاريخيَّة التي تحكم المسيرة المجتمعية ومظاهر التَّحَوُّل وعمليّة التّغيير الإنسانيّ والتبدُّل الحضاري[2]. كان الفكر السِّياسيُّ عندَ المفكِّرين العرب والمسلمين مُرتَبِطاً بالمُثُل على حين كان لابنِ خلدون وجهة نظرٍ واسعةٌ وطريقةٌ عميقة في التَّفكير والتَّحليل؛ وبإدراك هذا المبدأ الّذي انطلق منه ابن خلدون يُمكننا الاقتراب من السِّياق الفكريِّ لأهمِّ النَّظريَّات الَّتي وضَعَها في علم الاجتماع السِّياسيِّ في الدَّولة وحكم العائلة وظهور الحضارات والدُّول وسقوطِها وانتقالِها من أطوارِ التأسيس إلى أطوارِ القُوَّةِ والبناءِ ثُمَّ الضّعف والانهِيارِ، وكانَ لهذا المبدأ الأثرُ الأبرزُ في فِكر ابن خلدون الاجتماعيّ والسِّياسيّ، فقادَهُ هذا الرَّفض مباشرة إلى رفض الإسهام الفلسفيِّ الَّذي كان يجتاح الفكر السياسيَّ ولا سيِّما عند المفكِّرين في العالم الإسلاميِّ آنذاك. وبهذا الانطلاق مِنْ (الواقع) لا مِنْ (المُثُل) أصبَحَ ابن خلدون رائداً للتيَّار الواقعيِّ الذي نُسِبَ إلى مفكِّري النَّهضةِ الغربيّة الأَورُبِّيَّة، وظهرَ هذا الاتِّجاه الواقعيّ عندَ ابنِ خلدون في نَقْدِهِ وتحليله للمجتمع العربيِّ وتفسيرِهِ التطوُّر الحضاريّ الّذي يُعنى بتغيُّر المصالح الَّتي تؤثِّر فيها عوامل الزَّمن والانتقال من طَوْرِ البداوة إلى طَوْرِ التَّحضُّر، لأنَّ (العصبيَّة) عند ابن خلدون مفهومٌ رئيسي؛ فهي عندَه دالَّةٌ اجتماعيّة، واعتمدَ ابنُ خلدون المنهج التّجريبيَّ، هو: إلى أيِّ مدىً أَثّر العلاّمة ابن خلدون في الفكر السِّياسيِّ والاجتماعيِّ المعاصر؟ • كيفَ أثَّرَ الواقعُ الاجتماعيُّ والسِّياسيُّ في أفكار ابنِ خلدون وطروحاته الاجتماعيَّة؟ • كيف ربط ابن خلدون العصبيَّة بالدِّين وبناء الدولة؟ • ما مدى تأثير الطُّروحاتِ الخلدونيّةِ في الواقعِ العربيِّ والإسلاميّ المُعاصرِ؟ • ما ملامح التّأثيرِ الخلدونيِّ في رُؤى المفكِّرين الغربيّين المعاصرين وأفكارِهم؟ أولًا: تأثير الِّسياق التَّاريخيّ والاجتماعيِّ العربيِّ والإسلاميِّ في فكر ابن خلدون: أي: في المرحلةِ التَّاريخيَّة المرتبطة بالتَّراجع الإسلاميِّ وأطوار الضَّعف الأندلسيّ، فكان لهذهِ المرحلةِ وأحداثِها وظُروفِها السّياسيّة وملامحِها الاجتماعيّة العامّة أثرٌ بالغٌ في تكوين فكرِ ابن خلدون ومصادِرِهِ المعرفيّة ورُؤاه الفلسفيّة؛ ولم يكن فكرُه مرتبطاً بالدَّولة العبّاسيّة، وما مرّت بهِ من أطوارٍ مختلفة من طَورِ البدايات إلى طور انهيارِها وسقوطها على أيدي الغزاةِ المغول وزوال آثارها الثقافيّة والسِّياسيّة والاجتماعيّة. هو (العامل العائليُّ)؛ وكان لها دورٌ في تاريخ الأندلس امتدَّ لِخمسةِ قرون، وممّا زاد في إضعاف تلك الدّويلات ما كانت تتعرَّض له من الضَّغط الأوروبيِّ وهجمات البربر والبدو[8]. ومنها الطَّاعون الّذي كان جائحةً خطيرةً انتشرت في المغرب العربيَّ حتَّى وصلت إلى تونس، وثمّةَ عامل آخر، يمكن أن نُسمِّيَهُ (العامل الشَّخصِيّ) الّذي أثرى تجربة ابن خلدون وعقليَّتَه وكتاباته، فمكانة الأسرة ومستواها الاجتماعيُّ أتاحا له فرصة تلقِّي تعليمٍ رفيع المستوى، ثمَّ لمّا بلغ سنَّ العشرين عمل كاتباً في سلك القضاء في دولة الحفصيِّين بتونس، ودفعَ ضريبة ذلك التَّقلُّب في الولاءات، فزُجَّ به في السِّجن مرَّتين باتِّهامات الانقلاب على الحكَّام أو التَّآمر عليهم والكَيدِ لهم. ورَفَدتْهُ بتجارب غنيّة، حتَّى غدا بحَقٍّ رائدَ الفكر الواقعيِّ الَّذي اتَّضحت معالمُهُ في عصر النَّهضة على يد (نيكولا مكيافللي)[9]. حسب رأيه[10]. ثانيًا: علاقة الدِّين والدَّولة في فكر ابن خلدون: نادى ابنُ خلدون بأنَّ العرب والبدو يمكنهم تكوين سلطة ملكيَّة ذات طابع دينيٍّ يحمل طابعاً نبويّاً أو قداسيّاً يستطيعُ أن يُخضِعَ عنصرَ الوحشيّة في البدو، ويجعل خضوعهم لسُلطةٍ واحدةٍ مُمكناً بعدَ أن كانَ هذا الخُضوعُ مستحيلاً بالفِطرة، فإذا كانت العصبيَّة تُنشئ الدَّولة، ويحافظ على استمرارها[11]، فاللّافت أنَّ ابن خلدون رأى أنَّ الحلَّ لتقوية رابطة العصبيَّة هو الدِّين[12]. وقد اعتمد في استنباط هذه القاعدة على استقرار الواقع السياسيِّ في عهدِه، وأخيراً طَوْر الإسراف والتَّبذير[13]. فإن النَّظرة الخلدونيَّة في أنَّ قوانين السياسيَّة التي تحكم النَّاس تجسَّدت في[14]: وتكون مصلحته مقدَّمة على مصالح عامَّة النَّاس. فكان هذا الرَّادع قيداً شخصيّاً وضابطاً لكلِّ فردٍ بلا حاجة للدَّولة إلى بذل جهدٍ كبيرٍ لإخضاع الرَّعيَّة وإخضاع قيادتهم أيضاً، وكذلك أجسادهم[15]؛ ففي النَّموذج الأخير – كما يرى ابن خلدون – إمكانيّةٌ مذهلة للتَّحوُّل الاجتماعيِّ. حاز الدِّينُ في الفكر الخلدونيِّ القيمةَ الكبرى، وهكذا، وأمّا دور الدّولة في الإدارة، فلم ينكر ابن خلدون دور الدّولة في التَّدبير الاقتصاديِّ رَغمَ أنّه استعرض مساوئ احتكار الدَّولة للسُّلطة والأعمال الاقتصاديّة المهمّة، ، فلم يتصوَّر العمرانَ بلا دولة ولا النُّموَّ الاقتصاديَّ بدون تنظيم سلطة، فهو لا يؤمن بانسحاب الدَّولة من المهمَّة الإشرافيّة، لأنَّ ذلك يمكن أن يعود بالعواقب الوخيمة على الدَّولة والمجتمع كلِّه[17].