ان الحرية بايجاز تعني القدرة على التفكير السليم والفعل الراجح بدون قيود. يروى عند العرب ان شيبوبا أو احد العبيد قال يوما قولا حكيما لعنترة بن شداد العبسي أن الحرية تؤخذ من الاسياد والسلطة من الضعفاء. فلا يتسلط على الضعيف الا الاقوى منه ولا يأخذ الضعيف قوته الا من الاسياد، صح هذا سياسيا ولا أروم السياسية وحدها في هذه التأملات بقدر ما أروم تجليات فكرة الحرية في معناها الوجودي أو الفلسفي، ولا تستقيم فلسفة أو أسئلة الوجود اذا لم توضع في سياقها، لذا ستكون لي اشارات لمعنى الحرية في ما بين العالمين، صحيح أن الفرد ليس مخيرا في مكان ولادته ووفاته ونسبه وقليل أشياء أخرى، لكن المجتمع بشكل عام له طوابع تطبع عليها تاريخيا ولاستمراريتها يتم الترويج لهذه الطباع اما طوعا او كرها، فيصبح الفرد في احايين كثيرة مسؤولا عن نسبه أو مكان ولادته رغم انه ليس مسؤولا مباشرا عن ذلك، بل هي مسؤولية الأبوين وظروف أخرى قد نعلمها او لا نعلمها. ان ما يهم هنا هو الافعال المباشرة للفرد والتي يقوم بها عند بلوغ سن معينة نرتضيها سن الرشد والمسؤولية. منذ هذا السن لا يصح للفرد أن ياتي ما يناقض المجتمع وقوانينه، وكل من اتى ذلك عن اختيار أو كره فقد يناله غضب الجماعة أو النخبة الحاكمة. ان مستويات ثلاث تتحكم في مفهوم الحرية: الفرد، والجماعة الحاكمة أو الدولة أوالقانون. منذ ولادته يجد الفرد نفسه محاطا بنظام تربوي منظم أو غير منظم من طبيعة ما، بحيث لا يأتي ما يستقبحه المجتمع وما رباه عليه الاباء والاولون من الجماعة. والجماعة ان كانت تدين بدين دولة ما لا تغير من مسيرها بل تسير على ما سارت عليه نخبة الدولة. سنقفز على كثير أمور هنا لنوصل المبتغى من الحديث بقليل كلام، ولنبدأ من قمة الهرم لنصل الى قاعدته، فاذا كانت الدولة ديمقراطية ووصلت النخبة الحاكمة بطريقة الاقتراع المباشر للأفراد، فذاك مقبول اجمالا لان القاعدة تقول بالأغلبية. ومع ذلك فالديمقراطية تقول بأنه لا يجوز للأغلبية أن تضر بمصالح الاقلية وان وصلت للحكم، لان الاصل ليس هو الوصول الى الحكم بل طريقة الحكم بشكل يناسب الجميع، حتى الاقلية التي خسرت الانتخابات مثلا. ان الانتخابات لا تكون ديمقراطية ان لم تكن النخبة الحاكمة تعمل لصالح الجميع، ويكون من حق الاقلية مراقبة الاغلبية في صغيرات الامور وكبيراتها، وللأقلية فرص الحكم في الاستحقاقات الموالية ان ظهر ان الاغلبية غلبت مصالحها على مصالح الجميع، وخلال كل ذلك واجب على كل من الاغلبية والاقلية أن تفصح عن برامجها ونتائجها بكل شفافية عند بداية ونهاية كل استحقاق انتخابي لكي يكون المقترع اي المنتخب على دراية بالأمر، ولتكون له حرية الاختيار عن قناعة تامة، ان ظهر أن الاغلبية أو الدولة تتحيز في برامجها، ولا تكشف للمواطنين عما قامت وما لم تقم به، ان الديمقراطية تستلزم حرية ذات مستوى عال من اللاتحيز. وكل انتخابات مهما كانت نزيهة في ما يخص عملية الاقتراع المباشر لا تهم ولا يمكن الاعتداد بها ان كانت الحرية مفقودة عند الافراد. ان الديمقراطية تبدأ بحرية الافراد،