الابوة المفجوعة تعمل بواعيتها على أن تخدع نفسها عن حقيقـة الموت متعلقة بالوهم تعيش معه وتعيش به وتجد في ذلك راحة البال تواردت الاعوام على المعلم يونس وزوجه شلبية وهما يرتقبـان الولد فلم يمن عليهما الزمن به حتى أمست حياتهما خواء لا بهجة فيها ولا رواء يرين عليهما وحشة وملال ولكن القدر لا يدين بمبدأ البقاء على حال والركون الى وتيرة واحدة أبغض شيء اليه ان يرى الحياة على نمط متكرر لا يتغير انه ليبتغى الجدة على أية صورة تكون من خير أو شر ومن نفع او ضر ومن تقدم الى الامام أو رجوع الى الوراء حسبه الخروج عن مألوف الاوضاع لكي يثير في أعماق النفوس كوامن الاهتياج ومن ثم طالعنا القدر يوما بحدث كان له أعظم الوقع في حياة تلك الاسرة الخاملة لقد رزق الزوجان طفلة وسرعان ما شبت في الدار يقظة عارمة وأشرق فيها نور ساطع وجلجلت فيها ضجة وعجيج أصبحت الطفلة قرة عين الوالدين منذ ولدت فهما يغدقان عليها فيض رعاية وحنان وكان شأن الاب مع طفلته عجبا من العجب اذ باتت شغله الشاغل في يومه أجمع لم يعد يأنس الى بهجة القهوة وسمر الرفاق ولغو المذياع لا يكاد يفرغ من عمله حتى يفزع الى داره يعتصم بهـا اي اعتصام واذا هو يخلو الى الطفلة ويغدو معها طفلا من طراز طريف شیخ شارف السبعين يتهدل على جوانب فمه شارب ناصع البياض تراه يحبو على الارض حبو الرضيع دالفا بين الأرائك والكراسي يلتمس له فيها مخبأ يواريه ولا يلبث أن يبعث من حلقه صيحة الفزع والرعب اذ تهتدى الصغيرة الى مخبئه فتنقض عليه آخذة بخناقه وما هي الا أن تدير حول عنقه حبلا تسوقه منه كما تساق المالية الذلول فينقاد الشيخ في خضوع وتكركر الصبية بضحكاتها الرنانة الصافية وهي ممراح طروب يزهوها القلب والانتصار وعلى هذا النحو تتوالى المعابشات ويسود الهيـاج فينطلق الطفلان يعيثان في البيت فسادا يقلبان اثاثه رأسا على عقب ويتعالى منهما الصياح ويشتد بهما الركض وهما يتدافعان ويتقافزان فاذا البيت قد انقلب ساحة من ساحات الملاعب تلك التي يجول فيها ويصول ذلك النفر من المهرجين والبهاليل وكان هذا الصنيع يثير حنق الام فتبدو صاخبة تنذر وتتوعد فتهدأ العاصفة على الاثر ولا يسمع الا تهامس خافت وتضاحك حبيس على أن شيخ السبعين او بالاحرى طفل السبعين طالما حظي مع صغيرته بساعات سكينة وقرار لا استخفاء فيها ولا انقضاض هي ساعات السمر العذب يقضيها الآب مع ابنته منتشيا بحديث أنيس تراه يجلسها قبالته على ركبتيه ويلف ذراعيها حول رقبته ويدنيها الى صدره حتى لكأن قلبيهما يتجاوبان بالخفوق وانه ليقارب بين وجهها ووجهه حتى ليتلاقى الخدان وتتواصل الانفاس لقد اعتصرت سعادة الدنيا كلها في تلك الجلسة الرخية الحالمة التي يصفى فيها الأب الى صغيرته وهي تقص عليه صورا مما مر بها في يومها الحاضر فهو يصفى ولا يزال يصفى مستعذبا رنيم صوتها الموسيقى الخلاب لم يكن يعنيه مما تقصه عليه من اخبارها الا ذلك الجرس والنغم فكأنه يستمع الى عصفورة تسقسق له في نبرات حلوة صافية عصفورة ؟ اي والله عصفورة اليست صغيرته شبيه هذا الطائر الرشيق الجميل ؟ انها عصفورة في خفة وثباتها على الأرض ، كانما لهـا أجنحة تهفو بها في الهواء عصفورة في رشاقة قدها الضئيل الفض عصفورة في شمائلهـا اللطاف وهي تهز رأسـها الدقيق يمنة ويسرة رامية بنظراتها اليقظة الألاقة هنا وهناك عصفورة في لحن حديثها الأغن لحن البلابل حين تتناجي على الغصون في الليلة القمراء ! يجريه على لسانه كلما ناداها وناجاها : انها عصفورة في كل شيء مما لها من خصائص وسمات ، حتى أن الأب لم يعد يذكر لها اسما الا اسم عصفورة يجريه على لسانه كلما ناداها وناجاها تعالى الى احضانی با عصفورة اسمعی منی حكاية يا عصفورة قبلینی با عصفورة . أبوك يحبك يا عصفورة كيف قضيت يومك يا عصفوره ؟ وكان أول ما تلفظه الطفلة من قول وهي ترحب بابيها في اوبته الى البيت حين تهرع اليـه باسطة ذراعيها في تشوف أن تسأله : ـ ماذا أحضرت اليوم معك لعصفورة ؟ فيخرج لها قرطاسا من حلوى أو لفيفة تنطوى على لعبة ملونة أو حلية من معدن براق فتجتذب العصفورة هديتها على تشوق واهتياج وهي تتصايح وتتواثب في خفة ذلك الطير الرشيق وفي يوم من أيام الجمعة ترك الأب المسجد بعد أن ادى الصلاة وساقته قدماه في طريق غير الذي الف ان يعود منه فاخترق دربا لم يكن له به عهد وصادفه بائع فطير يعرض بضاعته على صينية رحيبة تقوم على محمل من جريد ينتحى بها جانب الدرب المسلوك واجتذب ناظره مرأى الفطائر وهي تلتمع في شرابها المتسايل متألقة في وهج الشمس فألفى خطاه تحيد نحوها وأحس بأنفه يتشمم عبير الشراب الذكي وخطرت عصفورة بباله على الفور فهذا الفطير خير ما يقدم لها في يوم الجمعة المبارك وعجل الرجل إلى البائع يشترى منـه فطيرة سمينة تغرق في شرابها اللماح وانتهى الى داره يحمل الفطيرة في دثار لفائف واقية ولما تخطى عتبة الدار برزت له الصبية قافزة تسأله ماذا جلب لها معه فاقتعد الأرض واجلس عصفورة على ركبتيه وفض اللفيفة فتجلت الفطيرة منتفخة شامخة تسبح في شرابها الشهي فصفقت الصغيرة من طرب وصاحت تقول : اهده لی كلها لي ؟ هي لك كلها يا عصفورتی وطفق الأب يقتطع من الفطيرة لقيمة اثر لقيمـة العصفورة تتلقى اللقيمـات فتلتهمها في نشوة فسألها ابوها هل أعجبتك الفطيرة حلوة . حلوة وقال سأحمل اليك كل يوم جمعة فطيرة مثـل هـذه الفطيرة وبر الأب بوعده فداب على أن يخترق الدرب المعهود بعد ان يفرغ من صلاته ويقصد الى بائع الفطير في ركنه الأمين يتخير من فطائرة فطيرة سمينة ريانة بالشراب المعسول ويعجل بها الى داره فيطعم عصفورته اياها لقيمة لقيمة وهو جذلان النفس بما يرتسم على محياها الوادع من بشر وابتهاج واحتلت فطيرة الجمعة من قلب العصفورة اسمى مكان فكانت تتحدث عنها وترتقب موعدها فيزداد الأب من حرص على شرائها كلما انفتل من صـلاة الجمعة وانه ليذكرها في قيامه وركوعه وسجوده وهو يكبر الله و يسبح له في هذا الحشد الزاخر من المصلين متمثلا عصفورته وهي تطعم اللقيمات مستمرئة يتسايل على جوانب فمها الشراب اللماح وتواصلت الايام فتواصلت معها هذه الحياة الجياشة التي ارتجت بها انحاء الدار بعد ان كانت مثابة الملالة والعبوس والاستيحاش ترى ماذا كان من أمر القدر ازاء هذه الدار التي استقر بها القرار ؟ اترى القدر ضاق ذرعا بما يترسل على الدار من اشراق ولألاء اذ وجد فيه لونا من الثبات والاستمرار لا يتفق وجوهر الحياة ؟ هل يرضى القدر حالا واحدا ونمطا راتبا لا يعروه تحويل ولا تعديل ؟ ان دوام الحال من المحال وأن القدر ليحن الى ان يجدد في الأزياء والأنماط والصور فلتأخذ تلك الدار نصيبها من تجديد لا معدى عنه لشيء في هذا الوجود ! رفع القدر صولجانه الخالد وهزه في الفضاء هزة خفيفة فاذا العصفورة يدهمها مرض عضال واذا هي تقضى نحبها في سويعات قلال ! وهكذا طارت العصفورة من عشها الأمين فطار معها الاشراق واللألاء وطارت اليقظة والصخب البهيج وعاود الدار خمول وكآبة خرساء اجل عاود الخواء هذه الدار من جديد ولكنه خواه کله تعذيب و تلويع وايلام خواء يطعن ولا يقتل يطحن ولا يفنى يميت القلب كل ساعة ثم يحييه ليعاني کربات الموت عودا على بدء ومرت الأيام و جثم على صدر المعلم يونس تبلد ما اشبهه بسبات عقيم لكانه تائه في اضغاث حلم مفرغ مهوش تتنافر فيه المشاهد و تتباين الصور والأوضاع وكان أحيانا تتخايل له في اعطاف هذا الحلم مرائي عزيرة عليه محببه اليه ينعم بها لحظات في اعذب الذكريات ولكن سرعان ما تتكاثف الغيوم حواليه ويعلو زئير العواصف دونه وتثور الكائنات امام عينه مسعورة كانما قد اصابتها جنة وتهطل الامطار الغزار متدفعه كأنما السماء قد انشقت فاندفق السيل الحبيس وتدور بالرجل غوارب الموج بين تصعيد و تصويت فاذا امسكت العواصف وصحت السماء استيقظ الرجل يمسح في مآ قيه بقايا الدمع السخين و بغته ينبثق في راسه خاطر فينهض مستوفزا يتلفت وهو يسال اليس اليوم يوم الجمعة ويجد الرجل في سيره على الطريق نحو المسجد ويقف بين صفوف المصلين مصغيا إلى شيخ المنبر وهو يقرع الأسماع بوعظه الرنان ولكن الرجل لا يعتم أن تبرز في مخيلته فطيرة الجمعة مالكة عليه مشاعره فيتمثلها على صور اشتات كيف كان يتخيرها سمينة ينساب فوقها شرابها اللماح كيف كان يطويها في دثارها من ورق غليظ كيف كان يحرص على أن تظل منتفخة سويه حتى يبلغ بها الدار كيف كان يجلس عصفورته علی ركبتيه ليلقمها الفطيره قطعة بعد قطعه كيف كان يرقب ذلك الفم الدقيق وهو يزدرد اللقيمات في شغف واستمراء واشتد وجيب قلبه وهو بين يدي الله يؤدي الصلاة فما كاد يخرج من صلاته بالتسليم يمنة ويسرة حتى مرق من الصفوف يختطف نعليه ويعدو الى الدرب المعهود ذلك هو بائع الفطير في ركنه المختار وأمامه الصينية تتراصف عليها الفطائر المبرقشة وهي تتالق في وهج الشمس انه ليدنو منه وانه ليدنو منه وانه لينتقى فطيره سمينه يطويها في دثار غليظ وانه لينصرف متابعا سيره ولكن الى اين ها هوذا ينحرف عن الطريق المفضى الى الدار ويتخذ سبيله الى الصحراء خطواته سراع وانفاسه مبهوره ويده تحمل اللفيفه في عنايه وحرص اثمه من يرتقب وصوله فهو لا يستأنى في سيره حتى لا يطول انتظار من ينتظره هنالك في عالم الصمت والسكون تابع الرجل خطاه وعيناه ثابتتان في محجريهما كانهما عينا تمثال لا تطرقان وقلبه يخفق كانه دين جنبيه طائر يرفرف بجناحيه واخير لاحت له المدافن تحتل بسيطا من الارض وكانها مدينه عامره فهذه ابنيه مشيده ومسالك ممهده و تلك رياض خضر ترويها الجداول وتنبت فيها الوان الازاهير وانتحى الرجل ناحيه متواضعه مستوحشه تتعالى فيها الرمال وتتناثر الاحجار وتتطامن بينهما قبور عفت عليها الايام وعملت فيها يد البلى والانهيار وهنالك امام قبر صغير يبدو من طلائه الابيض الناصع انه حديث عهد باستقبال ضيف مثل الرجل خاشعا يهمهم بادعيه وتساببح وما هي الا ان افترش الارض وكل وثاق اللفيفه فتجلت الفطيره رقراقه الشراب فانكب عليها الرجل يقطعها لقيمات صغيره في تمهل وتنسيق واحس اصابعه يتساقط منها الشراب قطرات فجعل يلعقها مستعذبا ما لها من مذاق وعلى فمه طيف ابتسامه ينسح الامل الشرود ونهض الرجل يحمل اللقيمات بين يديه ثم دنا من القبر في رفق وطفق ينثر على حافته لقيمه لقيمه وعاد الى مجلسه يولى القبر نظرات شوق وتحنان وتثاقل جفناه فارخاهما يتهادى به سبات واستيقظ المعلم يونس يستمتع الى صوت اغن خيل اليه انه يناديه وحانت منه لفته فاذا هو يرى عصفورته رشيقه فوق الجدث تحلق وتسقيق فجعل ينظر اليها بمجامع عينه فاغرا فمه وقلبه يزداد به وجيت وما راعيه الا ان لقيمات الفطيره التى نثرها على حافه القبر لم يبق منها الافتات ودار بعينيه يمنة ويسرة وجعل يتبين على مد البصر هنا وهنالك فلم يظهر له احد الا هذه العصفورة التي تتواثب في نشطة مراح وهي تلتقط نثار الفطيرة على حافه القبر ثم تبسيط جناحيها ضاربه في الفضاء ثم تهبط على القبر مطيقه به حائمة في تطوافها على الاب الجالس على اديم الأرض تسقسق له بصوتها الأغن و الاب متعلق النظر بها لا تحيد عيناه عنها وكان قلبه يتابع خفوقها بحقوقه ولبثت العصفورة على ذلك بعض وقت ثم تسامت في جو السماء و أغرودتها تنساب حواليها وتتزايل معها في رقة و ترنيم رجع المعلم يونس إلى داره يهرول وبين حناياه هتياج فما بلغ الباب حتى صاح بنادی زوجه مجلجل الصوت شلبيه .