رحلاته العلمية رسم تقريبي لرحلة الإمام البخاري في طلب الحديث والرواية عن المحدّثين، فزار أكثر البلدان والأمصار الإسلامية في ذلك الزمان للسماع من علمائها. فسمع من شيوخ بلده، والريّ وهراة ونيسابور. وكان عمره أول مرة دخل نيسابور خمس عشرة سنة. ووردها في الأخير سنة خمسين ومائتين، فأقام بها خمس سنين يحدث على الدوام. » ثم ارتحل إلى الحجاز فدخل مكة ثم رحل إلى المدينة النبوية فاستقرّ بها مدّة، ثم انطلق في الأمصار حتى شملت رحلاته أغلب الحواضر العلمية في وقته. فرحل إلى العراق فدخل بغداد وواسط والكوفة والبصرة وبالشام: دمشق وحمص وقيسارية وعسقلان كما رحل إلى مصر. ومدن العراق كلها، وبالحجاز والشام ومصر. » قال البخاري: «دخلت بغداد آخر ثمان مرات، كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل. فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله، تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان!» وقال: «لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم أهل الحجاز ومكة والمدينة والكوفة والبصرة وواسط وبغداد والشام ومصر لقيتهم كرات قرناً بعد قرن ثم قرناً بعد قرن أدركتهم وهم متوافرون أكثر من ست وأربعين سنة، أهل الشام ومصر والجزيرة مرتين، وبالبصرة أربع مرات في سنين ذوي عدد، وبالحجاز ستة أعوام، ولا أحصي كم دخلت الكوفة وبغداد. » وأراد الرحلة إلى اليمن ليسمع من عبد الرزاق الصنعاني فلم يُقدّر له ذلك. شيوخه ومن روى عنهم أتاحت للإمام البخاري رحلاته الكثيرة وتطوافه الواسع في الأقاليم لقاء عدد كبير من الشيوخ والعلماء، حتى بلغوا أكثر من ألف رجل. قال البخاري: «كتبت عن ألف وثمانين نفساً ليس فيهم إلا صاحب حديث. » وقال: «دخلت بلخ فسألوني أن أملي عليهم لكل من كتبت عنه فأمليت ألف حديث عن ألف شيخ. » ولم يكن البخاري يروي كل ما يأخذه أو يسمعه من الشيوخ بل كان يتحرى ويدقق فيما يأخذ، وتركت مثله أو أكثر منه لغيره لي فيه نظر. وقد اهتمّ العلماء بذكر شيوخ البخاري فسمّاهم بعض العلماء ورتّبهم على الأقطار ورتّبهم بعضهم حسب الطبقة، ورتّبهم بعضهم حسب عدد الروايات، ورتّبهم بعضهم على حروف المعجم. قال النووي: «هذا الباب واسع جداً لا يمكن استقصاؤه، فأنبه على جماعة من كل إقليم وبلد، وعظم عنايته. » ومن أهم وأبرز شيوخ البخاري الذين أّثروا في تكوينه العلمي ومنهجه الحديثي: علي بن المديني، وهو من أكثر الشيوخ الذين تأثر بهم البخاري، قال: «ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني. » وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والفضل بن دكين. ومن أهمّ شيوخه الذين سمع منهم في البلدان: الإمام أحمد بن حنبل، من أبرز الشيوخ الذين سمع منهم الإمام البخاري بمكة: أبو الوليد أحمد بن محمد الأزرقي، وأبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، وأقرانهم. وبالمدينة: إبراهيم بن المنذر الخزامي، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وإبراهيم بن حمزة، وعبد العزيز بن عبد الله الأويسي، وأقرانهم. وبالشام: محمد بن يوسف الفريابي، وحيوة بن شريح، وأقرانهم. وهارون بن الأشعث، وأقرانهم. ومحمد بن مقاتل، وأقرانهم. وأقرانهم، وقد أكثر بها. وبنيسابور: يحيى بن يحيى التميمي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن يحيى الذهلي، وأقرانهم. وبالريّ: إبراهيم بن موسى الرازي. وببغداد: محمد بن عيسى الطباع، وأحمد بن حنبل، وأقرانهم، وسعيد بن عبد الله بن سليمان، وأقرانهم. وسليمان بن حرب، ومحمد بن الفضل عارم، والحسن بن الربيع، وطلق بن غنام، وبمصر: سعيد بن أبي مريم، ويحيى بن عبد الله بن بكير، ونظراً لكثرة شيوخ البخاري واختلاف أمصارهم وجهاتهم فقد حصرهم المحدّثون كابن حجر العسقلاني في خمس طبقات: وشيوخ هؤلاء كلهم من التابعين. الطبقة الثانية: من كان في عصر هؤلاء لكن لم يسمع من ثقات التابعين: كآدم بن أبي إياس وسعيد بن أبي مريم وأمثالهم. الطبقة الثالثة: هي الوسطى من مشايخه، وهم من لم يلق التابعين بل أخذ عن كبار تبع الأتباع: كسليمان بن حرب وعلي بن المديني ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأمثال هؤلاء. كمحمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي وجماعة من نظرائهم، وإنما يخرج عن هؤلاء ما فاته عن مشايخه، الطبقة الخامسة: قوم في عداد طلبته في السن والإسناد، وعمل في الرواية عنهم بما روي عن وكيع قال: «لا يكون الرجل عالماً حتى يحدث عمن هو فوقه، وعمن هو مثله، وعمن هو دونه. وقد صنّف عدد من العلماء كتباً للعناية بأسماء شيوخ البخاري منها: أسامي من روى عنهم محمد بن إسماعيل البخاري من مشايخه الذين ذكرهم في جامعه الصحيح على حروف المعجم. لأبي أحمد عبد الله بن عدي الجرجاني. أسامي مشايخ الإمام البخاري: لمحمد بن إسحاق بن منده. المعلم بأسامي شيوخ البخاري ومسلم: لأبي بكر محمد بن إسماعيل بن محمد بن خلفون. شيوخ البخاري ومسلم: لأبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي. التعريف بشيوخ حدّث عنهم البخاري: لأبي علي الحسين بن محمد الغساني. تلاميذه ومن روى عنه الإمام مسلم بن الحجاج، أحد أبرز تلاميذ الإمام البخاري وصاحب كتاب صحيح مسلم، ثاني أصح الكتب المصنّفة عند أهل السنّة والجماعة بعد صحيح البخاري تتلمذ على البخاري وسمع واستفاد منه عدد كبير جداً من طلّاب العلم والرواة والمحدّثين، قال أبو علي صالح بن محمد جزرة: «كان محمد بن إسماعيل يجلس ببغداد وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفاً. » وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن يوسف الفربري أحد أكبر تلاميذ البخاري أنه قال: «سمع الصحيح من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفاً. قال محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري: «كان أهل المعرفة يعدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه وكان شاباً لم يخرج وجهه. » وقال يوسف بن موسى المروروذي: «كنت بجامع البصرة إذ سمعت منادياً ينادي: يا أهل العلم، وكنت فيهم، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، وقد سألتموني أن أحدثكم وسأحدثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون الكل: حدثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد بلديكم، قال: حدثنا أبي، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس أن أعرابياً قال: يا رسول الله الرجل يحب القوم. الحديث. ثم قال: هذا ليس عندكم، إنما عندكم عن غير منصور. وأملى مجلساً على هذا النسق. ولم يقتصر الانتفاع من البخاري على التلاميذ بل شملت شيوخه، قال البخاري: «ما قدمت على أحد إلا كان انتفاعه بي أكثر من انتفاعي به. يقول البخاري: «دخلت على الحميدي وأنا ابن ثمان عشرة سنة يعني أول سنة حج فإذا بينه وبين آخر اختلاف في حديث فلما بصر بي قال جاء من يفصل بيننا فعرضا علي الخصومة فقضيت للحميدي وكان الحق معه. وما في وجهه شعرة فقلنا: ابن كم أنت؟ قال: ابن سبع عشرة سنة. من شيوخه: عبد الله المسندي، وعبد الله بن منير، وغيرهم. وأبو زرعة الرازي، وإبراهيم بن إسحاق الحربي، وغيرهم. وممن أخذ عنه من كبار الحفّاظ: مسلم بن الحجاج، وابن خزيمة، وأبو عبد الرحمن النسائي، وأحمد بن سلمة النيسابوري، وأبو عيسى الترمذي، وأبو بكر بن أبي الدنيا، وحسين بن محمد القبّاني، وأبو القاسم البغوي، والحسين بن إسماعيل المحاملي. فأكثر من أن يحصروا. كتبه ومصنفاته صنّف الإمام البخاري وألّف كتباً كثيرة، وقد هيّأه للتأليف والكتابة وأعانه عليها ذكاؤه الحاد، وذاكرته القوية، ومعرفته الواسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من تعديل وتجريح، وخبرته التامّة بالأسانيد من صحيح وضعيف. وقد وصلنا بعض كتبه وطُبعت بينما لا يزال بعضها مفقوداً. وجُلّ مصنّفاته وكتبه لا تخرج عن السُنّة والحديث وعلومه من رواية ودراية ورجال وعلل. ومن هذه المصنّفات: في الحديث والفقه صحيح البخاري والذي يعتبر عند أهل السنة والجماعة أصح كتاب بعد القرآن الكريم الجامع الصحيح: والمشهور باسم صحيح البخاري، أشهر مصنّفاته وأشهر كتب الحديث النبوي على الإطلاق عند أهل السنة والجماعة. مكث في تصنيفه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عاماً. قال البخاري في سبب تصنيفه للكتاب: «كنت عند إسحاق ابن راهويه، فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع هذا الكتاب. » وقد جمع فيه البخاري حوالي 7593 حديثاً حسب عدّ محمد فؤاد عبد الباقي، وهي أن يكون معاصراً لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معاً، هذا إلى جانب وجوب اتصاف الراوي بالثقة والعدالة والضبط والإتقان والورع. وقد روى المؤرخون أن البخاري لمّا فرغ من تصنيف كتاب الصحيح عرضه على عدد من أكابر علماء عصره مثل أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وتأليف أطرافه، أو شرح تراجمه، أو ترجمة رجاله، أو وصل مرسله، ولطائفه، الأدب المفرد: بوّبه في عدّة مواضيع تُعنى بتهذيب الأخلاق وتقويم السلوك. وردّ على من أنكر ذلك. القراءة خلف الإمام: أورد فيه الأدلة التي تُثبت وجوب قراءة القرآن للمأموم في الصلاة، وردّ على المخالفين في هذه المسألة. كتاب الهبة: وهو مفقود. ذكره ورّاقه محمد بن أبي حاتم. الوحدان: ذكر فيه الصحابة الذين رُوي عنهم حديث واحد فقط. ذكره ابن حجر العسقلاني وحاجي خليفة. الفوائد: وهو مفقود. ذكره الترمذي في سننه. العلل: وهو مفقود. ذكره ابن منده. في التاريخ والرجال طالع أيضًا: علم التراجم وعلم الرجال رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد اقترب فيه البخاري من استيعاب أسماء من رُوي عنهم الحديث من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى زمنه. التاريخ الأوسط: بدأه بقصة الهجرة إلى الحبشة، ثم المتوفين في عهد الخلفاء الراشدين، التاريخ الصغير: وهو خاصّ بالصحابة، وهو أوّل مصنّف في ذلك. الكُنى: وغالب من أورده البخاري في هذا الكتاب من الرواة الذين اشتهروا بكناهم ولم تُعرف أسمائهم. الضعفاء الصغير: ذكر فيه الضعفاء من الرواة وترجم لهم بتراجم قصيرة مقتضبة. في التفسير والعقيدة طالع أيضًا: علم التفسير وعقيدة إسلامية قال تلميذه محمد بن يوسف الفربري أنه صنّفه في فربر. وذكره ابن حجر العسقلاني وحاجي خليفة. خلق أفعال العباد: بيّن فيه الفرق بين كلام الله وكلام العِباد وأن كلام الله صفة من صفاته وليس بمخلوق. مذهبه الفقهي طالع أيضًا: فقه إسلامي واجتهاد إسلامي اختلف العلماء في تعيين مذهب الإمام البخاري الفقهي. وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أنه من الحنابلة، حيث ذكره ابن أبي يعلى في كتابه طبقات الحنابلة، وقال ابن القيّم: «البخاري ومسلم وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتبع له من المقلدين المحض المنتسبين إليه. أنه من الشافعية، فذكره تاج الدين السبكي في كتاب طبقات الشافعية الكبرى، وعدّه صديق حسن خان من أئمة الشافعية في كتاب أبجد العلوم. وقال ابن حجر العسقلاني: «أن البخاري في جميع ما يورده من تفسير الغريب إنما ينقله عن أهل ذلك الفن كأبي عبيدة والنضر بن شميل والفراء وغيرهم وأما المباحث الفقهيه فغالبها مستمدة من الشافعي وأبي عبيد وأمثالهما. أنه مجتهد مستقلّ، ولم يكن مقلّداً لأي من مذاهب الأئمة الأربعة المشهورة، وهو ما رجّحه عدد كبير من العلماء من المتقدّمين والمعاصرين. قال ابن تيمية: «أما البخاري؛ وأبو داود فإمامان في الفقه من أهل الاجتهاد. » وقال الذهبي:«كان إماماً حافظاً حجة رأساً في الفقه والحديث مجتهداً من أفراد العالم. » وقال محمد أنور الكشميري: «أن البخاري عندي سلك مسلك الاجتهاد ولم يقلد أحداً في كتابه. » وقال الدكتور نور الدين عتر: «أما البخاري فكان في الفقه أكثر عمقاً وغوصاً، بما لا يقل عن الاجتهاد المطلق، لكن على طريقة فقهاء المحدثين النابهين، وقد قرأ منذ صغره كتب ابن المبارك وهو من خواص تلامذة أبي حنيفة، ثم اطلع على فقه الحنفية وهو حدث – كما أخبر عن نفسه -، واطلع على فقه الشافعي من طريق الكرابيسي، كما أخذ عن أصحاب مالك فقهه، فجمع طرق الاجتهاد إحاطة واطلاعاً، فتهيأ له بذلك مع ذكائه المفرط وسيلان ذهنه أن يسلك طريق المجتهدين، ويبلغ شأوهم. وهذا كتابه شاهد صدق على ذلك، حيث يستنبط فيه الحكم من الأدلة، ويتبع الدليل دون التزام مذهب من المذاهب، يدل على أنه مجتهد بلغ رتبة المجتهدين، وليس مقلداً لمذهب ما كما يدعي بعض أتباع المذاهب. » وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين: «كان مجتهداً في الفقه، وله دقة عجيبة في استنباطه من الحديث. » وقال الشيخ عبد الكريم الخضير: «أبدى رحمه الله تعالى براعة فائقة في دقة الاستنباط مما يدل على أنه إمام فقيه مجتهد. » واستدلوا على ذلك بما روي عن كثير من الأئمة من معاصري الإمام البخاري وشيوخه في بيان سعة علمه وفقهه. » وعن إسحاق بن راهويه أنه قال: «لو كان محمد بن إسماعيل في زمن الحسن بن أبي الحسن (الحسن البصري) لاحتاج الناس إليه، لمعرفته بالحديث وفقهه. » وعن قتيبة بن سعيد أنه قال: «جالست الفقهاء والعباد والزهاد فما رأيت منذ عقلت مثل محمد بن إسماعيل وهو في زمانه كعمر في الصحابة. فقال رجل من جلسائه: جاوزت الحد. فقال أبو مصعب: لو أدركت مالكاً ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل لقلت كلاهما واحد في الفقه والحديث. » وعن محمد بن يوسف الفربري قال: «كنا مع أبي عبد الله عند محمد بن بشار، فسأله محمد بن بشار عن حديث، فأجابه. فقال: هذا أفقه خلق الله في زماننا، فلما قدم، قال: محمد بن بشار: دخل اليوم سيد الفقهاء. » وقال: «سمعت علي بن حجر، يقول: أخرجت خراسان ثلاثة: أبا زرعة الرازي بالري، ومحمد بن إسماعيل البخاري ببخارى، ومحمد بن إسماعيل عندي أبصرهم، ملامح شخصيته وشمائله روى المؤرخون كثيراً من الروايات والأحداث التي تدُلّ على صفات الإمام البخاري وشمائله من ورع وإخلاص وصدق وسماحة وكرم وتواضع وحُسن عبادة وغير ذلك من كريم الأخلاق، وكان كثير القراءة للقرآن بحيث يختم كل يوم ختمة أو أكثر، كما حجّ عدّة مرّات. وكان حريصاً على التورّع في جرح الرواة وترك الغيبة بحيث إنه يختار كلمات لا يمكن أي شخص أن يؤاخذ بها المجروح، ومن كلماته: تركوه، أو أنكره الناس،