لا تَقُلْ لأمّي: إنّني غَدَوْتُ أَعْمى، إِذْ هِيَ تَراني وَأَنا فاقِدٌ نُورَ رُؤْيَتِها، أَبْتَسِمُ مُتَحايِلاً عَلَيْها عَلى شَبَكِ الزّيارةِ، حينَما تَوَدُّ أنْ تُريَني صُورَ إِخْوَتي وَأَصْدِقائي وَجيرانِ الْحَارةِ، فَهِيَ لا تَعْرِفُ أنَّ الْمَرضَ قَدِ اسْتَحْكَمَتْ قَبْضَتُهُ مِنّي، وَدَبَّ سَقمُهُ في عينيَّ، بَلْ إنّ العَتَمَةَ قَدْ غزَتْ جَسَدي كلَّهُ. لا تَقُلْ لَها: إنَّ مَوْعِدي مَعَ الْعِلاجِ قَدْ بَدَّدَتْهُ سَنواتُ الانْتِظارِ، تِلْكَ الْوُعودُ الَّتي ما تَنْفَكُّ تَسْتَدْعي إِلى عَيْنَيّ كُلَّ أَسْبابِ الرَّحيلِ عَنِ النّهارِ، لا تَقُلْ لَها: إنَّ شَظايا الرَّصاصِ والْقَذائِفِ الَّتي أُصِبْتُ بِها، وَأَنّ قَدَمي الْيُسْرى قَدْ بُتِرَتْ وَاسْتُبْدِلَتْ بِها قَدمٌ بلاستيكِيَّة، لا تَقُلْ لَها: إنّي لا أَعْرِفُ النّوْمَ، وما السّبيلُ إلى النّومِ وهوَ لا يَأْتيني؟ فَكَيْفَ يَنامُ مَنْ أَمْسى مِنَ الْهُمومِ مُبَرَّحاً، وَمِنْ غوائلِ السّجنِ وآلامِهِ مُقرَّحاً؟ لا تَقُلْ لأمّي: إنّ باروداً وَلَج في مُقْلَتيّ في ذلِكَ الْيَوْم الدّامي، وتلبُّدَ سمائِهِ بِسُحُبِ العزائمِ التي خلتُها تَسْتَحِثُّني على اللّقاءِ المَحتومِ، فَهَرَعْتُ أتحسّسُ طريقي بلا وَجَل، وَكانَ آخرَ مَشْهَدٍ لَمَحْتُه قَبْلَ أَنْ أَجِدَ نَفْسي فاقِدَ الْوَعي؛ لا تَقُلْ لِأمّي شَيْئاً عَنِ أوْجاعِ الْأسيرِ، قُلْ لَها: إنّني أَحْمِلُ وَجَعي عَلى عُكّازَتي، قُلْ لَها: إِنْ كانَ حُلمي لا يَكْفي؛ أَكْشُطُ بِها وَجَعي كُلَّما غابَ الضّوءُ مِنْ حَوْلي. قُلْ لَها: إِنّي أَسْمَعُ دُعاءَكِ الرَّمَضانِيَّ عَبْرَ الْأَثيرِ الْمُنْسابِ مِنْكِ إليّ. قُلْ لِأمّي: إنّ الْعَدوَّ لا يَعْبَأُ بالزَّمَنِ، وَقَدْ راحَ يُحوّلَ السُّجونَ إِلى أَماكِنَ لِزَرْعِ الْأَمْراضِ، وإذابَةِ الْأَجْسادِ رُوَيْداً رُوَيْداً؟ حتَّى صارتْ حُقولَ تَجارِبَ عَلى الْأَحْياءِ، الَّذينَ سَيَموتونَ بَعْدَ حينٍ، فَلَمْ يَعُدْ يُبالي إِذْ تَحَلَّلَ مِنْ كُلّ إِنْسانِيَّةٍ، وَيَقْهَرونَ الْمَرَضَ فَيَنْتَصِرونَ عَلى مِحْنَتِهِم الَّتي أَرادَها السَّجّانُ لَهُمْ مَثْوى. قُلْ لَها: ما زِلْتُ عَلى بُعْدِ ثَلاثينَ باباً مِنَ الْبَيْتِ، وَاشْتَعَلَتِ النّارُ في عَيْنَيّ، وَلَسَعَتْني الْأَسْلاكُ مِنْ بَيْنِ أَضْلاعِك، وَنالَني فَضْلُ دُعائِكِ في الصّلَواتِ الْخَمْس: اللّهُمَّ فُكّ أَسْرَهُمْ وَارْبِطْ عَلى قُلوبِهم الصَّبْرَ والسُّلوانَ.