يتناول الدكتور السيف في هذا الفصل تحليل رموز الرحلة في الشعر الجاهلي، مبرزًا كيف تتجاوز معناها الظاهري لتعبّر عن رؤية الشاعر للوجود والمصير.يتناول ثلاث موضوعات وهن فـغاية الرحلة قد تكون البحث عن المعرفة أو الذات، لكنها تحمل أيضًا معاني التضحية والفداء. ويتعامل الشاعر الجاهلي مع الموت بصراحة وعمق تأملي، محاولًا إضفاء معنى أو قيمة عليه.كما يناقش مفهوم التقاء الغايات، أو الانسجام الكوني. ويعبر الشاعر عن توقه لهذه الوحدة عبر رموز متنوعة تعكس رغبته في الارتباط بالآخرين وبالكون من حوله.أولًا: غاية الرحلة: سعى الفصل الثاني إلى إبراز أهمية بنية الرحلة في خلق نص شعري مترابط وذو عمق دلالي وإيحائي، مستندًا إلى الذاكرة الرمزية والأسطورية للرحلة في وعي الشاعر والمتلقي. ويركز على ربط عناصر الرحلة بغايتها، من خلال تحليل الرموز والدلالات الكامنة في النص. التي أصبحت رمزًا مميزًا، بل تنقضها،وقبل تحليل نصي الشنفرى، سنبحث غاية رحلات بشَّامة والأعشى وزهير وابن قميئة، حيث بدأت رحلة بشَّامة بن الغدير في بنية النسيب، التي تُمثل قبيلة بني صرمة، والتي أدى ارتكابها للمحظور إلى تفكك القبيلة. وتُشكّل الرحلة 49% من القصيدة، ويتركز وصفها على الناقة التي يُضفي عليها الشاعر الكمال والقداسة، لتصبح رمزًا لـ ناقة النبي صالح، ويغدو الشاعر كصالح المحذّر من عاقبة المساس بها.تتجلّى غاية الرحلة في بنية الفخر، حيث تسير الناقة/القبيلة نحو حرب مقدسة، وتُقدَّم كـ قربان للتطهير والخلود. محورها الناقة لا العابر، وإعلانها بمثابة إعلان حرب، وغايتها التطهر بنارها وتقديم الذات قربانًا لخلود القبيلة الذي لم يبقَ منه سوى خيال الحبيبة، ثم يُظهر انفصاله عن حاضره من خلال وصف الخمر، ما يكرّس شعوره بالاغتراب. يبدأ العابر رحلته عبر أرض موحشة، ويلجأ إلى أرطاة،في نهاية القصيدة، يرتقي الأعشى بالممدوح ليجعله تجسيدًا للإله القمر، مانحًا إياه صفة العطاء والخير، ويُقارن نفسه بـإبراهيم الخليل في رحلته إلى أرض النجف، مما يرمز إلى الوصول الروحي. ولغوية. فقد تضمّن شعره عقائد متباينة، وحين ظهر الإسلام حاول الدخول فيه، لكنه ظل فاقدًا لهويته الدينية والاجتماعية والقومية، مما جعل شعره انعكاسًا لقلق وجودي عميق وبحث دائم عن الانتماء والمعنى. فيما بدأت داليّة زهير تناول تصوير الأطلال بعد رحيل سيدة الخصب “أم معبد”، حيث سيطرت عليها قوى الشر والأرواح، لكن نداءه يُقابل بالصمت، فيركب ناقته بحثًا عن قبس يحيي الخراب. باعتبارها كائنًا مسافرًا، لكنه يركّز على ارتباطها بالقبيلة، التي تسعى للنجاة من الفناء بعد أن افترست الحرب أبناءها، في حين تتجنب البقرة سهام الموت،وفي بنية المديح، يبيّن الشاعر أن رحلته المقدسة كانت إلى السيد الشهم “هرم”، ضمن طقس تبادلي رمزي، يُمنَح فيه الممدوح حُلَل الخلود، في تجسيد للتفاني والولاء.نقض ابن قميئة خالف البنية التقليدية للقصيدة الجاهلية، قبل أن يصف الرحلة، الفخر). لا الأطلال، ورفض البكاء على الطلل، مما جعله يظهر كـ*“عابر ناقض”* للأنماط السائدة.يربط الكاتب بين مواقف ابن قميئة وشخصيته المتأرجحة بين يوسف عليه السلام من حيث السعي للسمو الأخلاقي، وامرئ القيس الذي عُرف بالشؤم، مما يعكس نظرته المتذبذبة للمرأة والظل. والحمار، والفشل. وهي ليست مجرد وسيلة بل غاية دينية وطهورية في ذاتها.ويشير النص إلى رحلتين واقعيتين في حياة ابن قميئة: 1. قبل أن يُعفى عنه. 2. الثانية: بعد أن كوّن أسرة، اختار الرحيل النهائي مع “أمر القس”، في رحلة وجودية ذات أبعاد دينية ونفسية. وقبيل بنية الفخر، إلا أننا هنا سنتبع نموذجًا مختلفًا، يمثله شاعر صعلوك مختلفًا فنيًا، كما اختلف اجتماعيًا، حيث لا تمثل الرحلة في قصيدة الشنفرى الشهيرة بلامية العرب بنية من بُنى القصيدة، لاسيَّما أن اللامية تمثل مذهبًا شعريًا مستقلًا قسمت فيها الرحلة إلى اثنتي عشرة وحدة.إعلان الخروجيفتتح الشنفرى لاميته بخروج صريح عن تقاليد القصيدة الجاهلية، بل يطلب من قومه “بني أميه” أن يرحلوا هم، واضعًا نفسه في مقام موازٍ للقبيلة، فلماذا لا يرحل هو؟في الأبيات الأولى، يصوّر رحيل “أم غمرو”، التي ترمز إلى زوجته “أم عمرو”، ومن خلالها إلى القبيلة نفسها، التي خذلته حين لم تأخذ بثأر والده. هذا الخذلان عبّر عنه الشاعر بأفعال متتابعة وسريعة، تُظهر التحول المفاجئ في علاقته بالقبيلة.يفسّر محمد بن زاكور عبارة “أفيموا صدور مطيّكم” بأنها انتقلت من دلالتها الحسية إلى رمز للميل والنفور، في تعبير عن انسلاخ الشاعر عن مجتمعه. ويُبرز الشنفرى رغبته في الهروب أكثر من انتمائه إلى بديل واضح، مكتفيًا بالإشارة إلى وجهته بأنها “أي قوم سواكم”.ويرى اليوسف أن هذا الخروج هو محاولة لإعادة بناء الذات بعد كبت داخل الجماعة، كما أن خروجه المباشر والصريح يختلف عن رحيل القبيلة الصامت والمتآمر، مما يُظهر خيانتها بوضوح.يرفض الشنفرى الوقوف على الأطلال أو الانتماء للمكان، رغم أن وجهته الجديدة ما تزال غامضة ومحفوفة بالمخاطر. وبحسب طقوس العبور، فإن هذا الانفصال يمثل مرحلة حاسمة في نضج الفرد، تمهيدًا لعودته إلى المجتمع بشكل جديد.لكن حالة الشنفرى تتجاوز مجرد الإقصاء الاجتماعي، إذ يرتبط تهميشه بـلون بشرته الأسود وما يحمله من دلالات سلبية اجتماعية كـ”الشر ورداءة الأصل”، إضافة إلى نفيه بسبب جنايات سابقة. هذا التهميش العميق يُنتج أثرًا نفسيًا بالغًا، ويحوّل خروجه إلى فعل ثأري عنيف ضد مجتمع سلبه كل شيءيتمزق الشنفرى بين العزلة والبحث عن انتماء جديد، فبعد أن نبذته القبيلة، عاش قلق الانفصال وسعى لتكوين مجتمع بديل، فاختار مجتمعًا حيوانيًا يضم الذئب والضبع والحية، وهي رموز للخطر والعداء للبشر، وقد اندمج معهم لأنه مثلهم في لون البشرة وعداء المجتمع.تكشف هذه الوحدة سبب تصعلكه، فالصعاليك هم من نبذهم المجتمع، أي منفي بسبب ماضيه ولونه.وتختلف رحلة الشنفرى عن عنترة؛ فعنترة عاد لقبيلته بعد إثبات نفسه، ولا يُسمح بالخروج عنهاثلاثة أصحاب بل كوّن مجتمعًا بديلًا من أشياء جامدة: قلب حديدي، سيف مسلول، وقوس صفراء طويلة. في إشارة إلى فقدان البُعد الإنساني نتيجة النبذ.الألوان المستخدمة (البياض، وترمز إلى القوة والبركة والخصوبة في الميثولوجيا العربية، خاصة في الثقافة اليمنية، لكنها تلد الموت لا الحياة، مما يُكسبها طابعًا مأساويًا.ورغم غياب المرأة والناقة صراحةً، فهما الحافز الخفي في مسيرة الشاعر، رافقتاه معنويًا وإن لم يذكرا صراحة، رغم مظاهر الصلابة والتشيؤالأنا ل"هم"يتجه الشنفرى نحو الانفصال التام عن الجماعة القبلية، كما يظهر في لغة النفي الصريحة في الأبيات (14–25). والفراغ مقابل الامتلاء.لا يكتفي بالخروج من القبيلة، بل يرفض النموذج البشري كليًا، ويعيش في هامش وجودي بلا اسم أو حماية، مما يجعله خطرًا على المجتمع الذي لم يعد ينتمي إليه.يسعى الشنفرى لبناء هوية جديدة بالاتحاد مع الوحوش لا البشر، ويرفض العلاقة التقليدية مع المرأة، مؤكدًا أنه لا يريد أن يكون تابعًا ولا قائدًا، إلا أنها تحضر ضمنيًا في لغته، خاصة في لفظ “مناسمي”، الذي يربطه بها وبالبيئة البدوية، مما يدل على أنه لا يتخلى تمامًا عن رموز القبيلة، بل يعيد توظيفها بلغته الخاصة والهامشية وينضم إلى جماعة ذئاب تمثل الصعاليك، يجمعهم الجوع واليأس. يظهر الذئب كقائد يتقاسم الخطر والمسؤولية، ويقود جماعته في البحث عن الزاد دون استعلاء.يرى اليوسف أن الذئب يرمز إلى الشنفرى نفسه، الذي يفضل الكرامة القاسية على ذلّ العيش في القبيلة. وتُظهر الأبيات توترًا وجوديًا وتساؤلات عن المصير، حيث تسير الجماعة نحو موت محتوم، في احتجاج صامت على الواقع الاجتماعي.يمثل هذا الطقس خروجًا نهائيًا من المجتمع إلى عالم بديل منبوذ، لا يسعى للإصلاح أو العودة، بل لبناء هوية جديدة قائمة على التمرّد والكرامة في وجه القهرالمنهل: تصوّر الأبيات (37–42) مشهد ورود القطا الماء، وترى الدراسة أنه يمثل طقسًا جماعيًا للصعاليك/الذئاب بقيادة مؤقتة للشنفرى، لا مجرد تعبير عن العطش كما يرى الرحّيلي.تشير كلمة “فارط” إلى دور الشاعر كقائد مستكشف، ويُظهر فخره بتقدّمه على القطا، رمزًا لتفوقه وسعيه لهدف يتجاوز قدرات الجماعة.ورغم تصويره جماعة القطا المتآلفة، يظل الشاعر يشعر بالوحدة والانفصال، فالمشهد الجماعي يخفف من عزلته دون أن يزيلها تمامًا،الفراغ والامتلاء: يُبين الشنفرى أنه لا ينتمي لمكان، فهو لا يستوي على الأرض، ففقره وجوعه وخوفه يجعلونه لا يمكث في أرض ويستقر بها، بل هو مضطر إلى التنقل، مما يعني أنه مطارد، كما أنه لا يتوسد إلا ذراعه النحيلة، دون وجود القبيلة تساعده وتحميه، مما يزيد توتر التصاعد الدرامي لهذه الرحلة.الخلود والفناء: يتحوّل الخطاب في القصيدة من الشكوى إلى التأمل في المصير المحتوم، حيث يتجه الشنفرى إلى الصحراء ويتوحّد مع وحوشها، فيتجسد مرة كحية وأخرى كـسِمع، وكلاهما يرمزان للخلود في المخيال العربي.يشترك السِّمع والشنفرى في الأصل المختلط (السِّمع من تزاوج الذئب والضبع، والشنفرى من أب عربي وأم سوداء)، وفي عداوتهما للبشر وسرعتهما في الهجوم والدفاع، وهي صفات يعتز بها الصعاليك، خلافًا للنموذج القبلي الذي يعتبر العدو ضعفًا. أو السِّمع الذي لا يموت ميتة طبيعية، لكنه يفنى في النهايةتحد الشنفرى في الأبيات (55–60) مع وحوش الصحراء المؤذية للبشر، ويصف ليلة باردة قرر فيها الانتقام من المجتمع بأفعال جعلت الناس يظنونه كائنًا صحراويًا أو حتى من الجن، التي ترمز إلى الخلود، والسواد، في البيت السادس والخمسين، يعبّر عن الحر الداخلي والبرد الخارجي، والرعدة والخوف، وتُشير كلمة “السُعار” إلى الجوع والمرض والانتقام، مما يدمج بين التوتر الجسدي والنفسي.وتُمثّل عودته إلى الحيّ مواجهة رمزية بين الفناء والخلود، حيث يضع نفسه ندًا للجماعة، ويجعل فنائهم سببًا في خلوده، مؤكدًا استحقاقه لهذا الخلود من خلال تمرّده وقوتهطقوس التحول: يستخدم الشنفرى في هذه الوحدات رموزًا سماوية مثل الشعرى الشامية واليمانية، المرتبطتين بـفصل الصيف والخلود، والتي اعتبرها العرب والفراعنة كواكب مقدسة مرتبطة بـالكلاب وتجدد الحياة،كما تشمل وحدة العبور الأفاعي المتململة في الحر، في إشارة إلى تجديد جلدها وتجدد الحياة، ويجعل الشاعر من الكواكب عناصر متفاعلة مع الزمان والمكان. حيث يذوب الواقع بالخيال، ويتصاعد الخطاب من القلق من الفناء إلى رغبة في الخلود، إذ يتحول الشاعر من إنسان مريض وضعيف إلى جزء من الوحوش المتوحشة.تتجلى هذه التحولات في رمزية “اللبادة”، التي ترمز إلى التوحش والدوام، وتُعزز ثنائية الفناء والخلود في وعي الشاعر ولغته،تحقيق الغاية: في وحدة “تحقيق الغاية”، صاعدًا الجبل كرمز للخلود والارتقاء، حيث يتّحد مع الوعول، رمز التوحش والخلود، ليصل إلى عالم فردوسي مفقود يتميز بصداقة الحيوانات. مكتسبًا صفات الفحولة والقوة، ويرى اليوسف أن تشبيه الأراوي بالعذارى يرمز إلى الرغبة أو الأمان أو المتعة الفردوسية.يرتقي الشنفرى ليقارن نفسه بـالأشراف بل يصبح سيدهم، كـ”الشعرى المقدسة”. إشارة إلى قداسة المكان. حيث تتحلق الحيوانات حوله، معبّرة عن خلود اللحظة. وفي النهاية، يصبح فناء الشنفرى هو سر خلوده، وتسمو روحه إلى مقام مقدس، حيث تتحقّق أمانيه وتتجاوز رمزية الإناث المعنى الجسدي إلى القيادة والانتصارتائية الشنفرى: وتحليلها مشابه لتحليل بداية اللامية.رحيل ال (هم): صف الشنفرى في شعره المجتمع الذي غادره من خلال تصوير الزوجة/القبيلة بصفات مثالية كالحياء، العفة، الوفاء، الكرم، والجمال، ليعكس صورة مثالية لما كانت عليه القبيلة أو ما ينبغي أن تكون. ويمثل هذا التصوير مرحلة ما قبل الانفصال، حين كان الشاعر جزءًا من جماعته.تُظهر قصائد الصعاليك عمومًا ابتعادًا عن الوصف الحسي للمرأة، نتيجة لحياتهم المتنقلة ومغامراتهم، تُمثل هذه الصورة إما تذكرًا حقيقيًا أو خيالًا لشكل المجتمع المثالي، ويُعبّر الشاعر عن مرارة الفقد والخذلان بعد الانفصال بشكل رمزي، ساعيًا إلى تأكيد قدرته على بناء مجتمع بديل أفضل من ذاك الذي خذلهالقيادة: تصوّر التائية انضواء الشنفرى الكامل في مجتمع الصعاليك، حيث يسود الدفء الأسري والتكافل، وتظهر الأبيات فرسانًا متحدين في الغزو والكرامة،رفض الشاعر للخذلان القبلي، وتمسكه بانتماء روحي إلى الأرض لا المكان، مفضلًا العيش بكرامة على التراب على تلقي العطاء من الآخرين، في تعبير عن الاستغناء والعزة في ظل مجتمعه الجديدأم عيّال: نظرة الصعاليك المختلفة للأنوثة، بل مدحًا وتكريمًا.تُشكّل تاء التأنيث رويّ القصيدة وعمودها الفقري، خصوصًا الأمومة التي تحظى بقيمة عالية لدى الصعاليك. وفي هذا المجتمع، يؤدي كل فرد دورًا تكامليًا، فالشنفرى قائد، ويصبح سيفًا بيدها، ثم ينصهر هذا السيف في جماعة موحدة تتحرك بانسجام، كـأذناب الحُسيل،العنف والمقدّس: يظهر من خلال ضمير الجمع في الأبيات، واللافت أن غايتهم المشتركة هي خرق القيم الدينية والاجتماعية، بارتكاب القتل في الزمان والمكان الحرام، ما يعكس انفصالهم التام عن المجتمع ومعتقداته، بل والسخرية منها.فالشنفرى يقتل محرمًا أثناء الحج، ويهزأ من إله مجتمعه، بينما تأبط شرًا يقتل الغول التي نسجت حولها الأساطير، ويكذّب الكواهن والسحرة. في هذا الإطار، يُعلن الشنفرى إعادة تشكيل علاقاته الاجتماعية، مؤكدًا أنه لم يعد ينتمي إلى قومه الذين خذلوه، بل إلى جماعة جديدة، حتى لو لم تجمعه بها صلة نسب، ما يعكس تمردًا وجوديًا ووعيًا بالقطيعة مع مجتمعه القديم.ترقب النهاية: حيث يُدرك أن موته حتمي ووشيك لكونه طريدًا بلا حماية من قبيلة أو أسرة، بل يعتمد على سرعته وعداوته. ويبرز في هذه الوحدة شعور الوحدة وتحول ضمير الجماعة إلى ضمير الأنا،تفيد رواية أبي الفرج أن الشنفرى قُتل على يد أسيد بن جابر وأعوانه، في طقس عنيف يرمز إلى الأضحية والثأر، ويستمر العنف ضده حتى بعد موته، إذ اكتمل نذره بقتل مئة شخص عندما مات أحدهم بضربة من جمجمته.يُقدَّم هذا العنف كـ ردٍّ على خذلان المجتمع لا كعدوان، ويرمز موته إلى الحضور الرمزي والخلود، كما هو حال تأبط شرًا، فالموت في شعر الصعاليك كما تؤكد ستيتكفشين، فالتائية تُبرز الانتقام وتحقيق العدالة، لتتكامل القصيدتان في تصوير مصير الصعلوك الذي نبذ مجتمعه وانتصر عليه رمزيًايفترض البحث أن الخلود هو إحدى غايات الرحلة، لكن تحليل القصائد يُظهر أنه ليس غاية واحدة، بل فضاء تتقاطع فيه غايات متعددة. فالرحلة، رغم ما تنطوي عليه من أخطار، تُعد وسيلة للخلود الممكن، سواء عبر الذكر الطيب أو الجزاء الأخروي، خاصة إذا ارتبطت بغاية سامية أو قدسية.يشير بيت زرعة بن عمرو إلى أن الفناء مرتبط بالزمن، سواء في الإقامة أو الترحال، لكن الرحلة تمنح الإنسان فرصة للخلود إن سُمِت غايتها. إذ جعلوا من الرحلة توازنًا وجوديًا يخلّد أفعالهم. وظهر الأعشى كرحالة يسعى للمال، لكن رحلاته كشفت بحثًا عن الحقيقة والخلود الروحي والمعرفي. أما زهير بن أبي سلمى، فقد كانت رحلته لإيقاف الحرب، فكتب قصيدته كـقربان شعري، نال به خلودًا أدبيًا.أما عمرو بن قميئة، فكانت رحلته بلا غاية ظاهرة، بل غاية في ذاتها، تعبيرًا عن معتقد داخلي مقدس. ويُبرز التحليل أن الشعر الجاهلي جمع بين اللغة والدين كوسيلتين للخلود، فجعل من القصيدة وسيلة للبقاء الزماني والمكاني، وتحولت الرحلة عبر الشعر إلى طريق للخلود تتوحد فيه الغاياتالخاتمة: الرمز والأسطورة مصطلحان ذوا دلالات متنوعة، مما اقتضت أن توضح دلالاتهما في البحث، والحدود الفاصلة بينهما، وذلك بسبب طبيعة اللغة، ومن ثم القصيدة وعلاقتها بالدين بمفهومه الشامل، نظرًا لأن الكثير من الدراسات النقدية سُحرت بمصطلح الأسطورة، فنبشت في الشعر باحثة عنها، فابتعدت تلك الدراسات عن القصيدة التي أصبحت مجرد جثة، يبحث في أحشائها الأطباء ما قرأوه من نظريات.حضرت الرحلة في بنية النسيب من خلال رحلة الظعينة، وحضرت في بنية الرحلة أيضًا، مما استوجب البحث عن أسباب هذا الحضور للرحلة التي بيّن البحث أنها جزء من التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي والذهني والديني لإنسان المنطقة العربية آنذاك، للرحلة أهمية خطيرة للبشر بشكل عام، فقد وسعت من قدراته وإمكانياته الذهنية، وليس حضورها المتكرر في القصيدة إلا العرض الخارجي، وقد صيغ هذا الحضور للرحلة بما يناسب المبدع والمتلقي معًا، فالمبدع يعول في صوغه على ذاكرة الرحلة في ذهن المتلقي، وهي ذاكرة تفتح له آفاق غير الممكن، وتجعله متقبلًا لحدوثه، فالرحلة ليست تجربة شاقة يخوضها شاعر ليبلغ غاية معلنة، وإنما هي طقس شعري، يؤدى بتواطؤ بين المبدع واللغة والمتلقي، ليصبح الشعر شعرًا، وهذا الطقس قمين بأن نرسخ وجوده ويدوم تكراره؛ لقد أنصفت الكثير من الدراسات بنية النسيب، إلا أن بنية الرحلة ظلت متهمة بالنمطية وتكرار الصور، ولكن تحليل الشعر في هذه الأطروحة بيَّن أهمية بنية الرحلة في تعميق النص،ويمكن تلخيص أهم النتائج كمايلي:1. الرحلة كبنية رمزية: الرحلة في القصيدة الجاهلية ليست مجرد وصف لواقعة أو حدث، بل هي بنية رمزية تحمل دلالات عميقة تتعلق بالذاكرة والأسطورة ورؤية الشاعر للعالم، ويستخدمها الشاعر الجاهلي للتعبير عن أفكاره ومشاعره بطريقة غير مباشرة، 2. تفاعل الذاكرة والأسطورة: تتفاعل الذاكرة والأسطورة في القصيدة الجاهلية لتشكيل رؤية الشاعر للعالم، فالشاعر يستحضر من خلال ذاكرته عناصر الدين والأسطورة والرمز ليشكل بها قصيدته، وأن هذه العناصر تتفاعل فيما بينها لتكوين رؤية متكاملة للعالم.