والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. والأمة التي تكون في وضع انهيارأو ترهل معرفي، وهنا ينشأ اتجاهان: اتجاه يمانع ويقاوم الفكر الوافد، هواتجاه لا يملك أدوات تقويم الفكر الوافد، ولا يملك حلا إلا الرفض والاعتذار. وبعد الاصطدام بين الاتجاهين تدخل هذه الأمة المرحلة الفعلية للوعي بضرورة تصفية التراث من الرواسب والاستفادة من الفكر الوافد بحذر، فقط عندما يظهر الاتجاه الثالث، الاتجاه الذي يعتبر من الضروري المحافظة على لب التراث وكل مواده الأصيلة، هنا فقط يبدأ العمل الجاد وانطلاق التحوُّل الحقيقي. وقد سبق وتكلمتُ في هذه القضية تفصيلا في مقال خاص، والمقصود أنه يوجد من المسلمين من يدافع عن الغرب موهما أن ذلك من قبيل الموازنة وأن فيهم صالحين وطيبين وأهل إحسان وإنسانية حقيقية وغير ذلك وليس هذا المشكل عندما نتحدث عن الغرب وربما هذا دس للسم في العسل خاصة إذا كان هذا الاعتذار للغرب مقرونا بالدفاع عن ماديته. وهذا لا يعني أن المسلمين منافقون وكفرة وزنادة فالحكم دائما للغالب وللاتجاه العام فكذلك الحكم على الغرب لا يرتكز على هذه النقاط: فيهم صالحون واهل إحسان وقيم إنسانية وقدموا للبشرية تكنولوجيا حسنت من صحتهم وظروف معيشتهم. يخلط هؤلاء الإخوة بين المعاصرة التي هي تحديث وسائل العيش في مختلف المجالات وبين الحداثة كفلسفة وفكر اجتماعي وسياسي وأخلاقي وأسلوب حياة. كما يخلط بين مادية منهجية مخبرية أو حتى معرفية وبين رؤية مادية للوجود والإنسان والحياة أي: بين مادية جزئية ومادية كلية دهرية. وبدون منهج معرفي أصيل وشبكة قراءة للواقع الغربي لا يمكن التنبه للنصب الحضاري، والاضطهاد الاقتصادي، ولعبة الليبرالية السياسية والتداول على السلطة على نفس النموذج الاقتصادي. ليكونَ الإنسانُ موضوعيا صادقا في خبره يجبُ عليه تمييز الوقائع عن التأويلات، القدرة الإنسانية على إدراك الحقيقة الواقعية تكمن بالاعتراف بها كما هي، ومن ثم يأذن لنفسِه في اعتناق أنظمة اعتقادات مدمرة لأنه في اللحظة التي رفضَ فيها رؤيةَ الواقع كما هو تخلى عن مسؤوليته في تغييرِ الواقع الموجود إلى الواقع المقصود. ويستطيع المسلم أن يتجاهلَ الواقعَ مادام يقبل بنتائجِه عليه مهما كانت، وعندما تشاهدُ الامةَ تذوب في عاداتٍ غربية تفسدُ نفسيتَها وانتماءَها يجبُ ان يكون فقهُ الواقع هنا هو سد هذا الخطر، والشريعة هي التي تقول لنا: هنا علقوا الحكم الجزئي لفائدة الحكم الكلي، وانبهار بعض المسلمين وافتتانهم بالغرب أمر جرى به القدر كما قال صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنَن من كَانَ قبلكُمْ شبرا بشبر وذراعا بذراع حَتَّى لَو دخلُوا جُحر ضَب لدخلتموه قَالُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى قَالَ فَمن ((لتأخذن أمتِي مَا أخذت الْأُمَم قبلهَا شبْرًا بشبر وذراعا بِذِرَاع قَالُوا فَارس وَالروم قَالَ وَمن الناس إِلَّا هَؤُلَاءِ)) سننَهم يعني عاداتهم والاتباع هو الاقتفاء والاستنان؟ وبتعبيرٍ اخر: انطلاقا من أيِّ واقع يبني الفردُ واقعَهُ الخاص؟ - في سنة 1922 اقترح (Lippmann) أنَّ الاحساسَ الوحيد الذي يجدهُ أيُّ شخصٍ حولَ حدثٍ ما لا يرجع لتجربتِه ولكن للصورة الذهنية التي يملكُها عن هذا الحدث، مما يعني انَّ آراءَنا ليست أجوبةً على العالم الذي يُحيط بنا، فالصور في رؤوسِنا هي التي تهيكل أفعالَنا وأحاسيسَنا، وتدور الأبحاث حول الأثر طويل الأمد لوسائل الإعلام على الاعتقادات والإدراكات (هي لجورج غربنار) فبالنسبةِ اليه الادراكات والاعتقادات المتعلقة بالعالم الخارجي تنتجُ من التعرض لوسائل الاعلام (كالتعرض لأشعة الشمس) وبالضبط التلفزيون. وبتحليل نظام الرسائل الإعلامية بالتعرف على المؤشرات الثقافية وتحليل نتائج استهلاك وسائل الإعلام يمكن تقدير حجم أحكام القيمة التي تضخُ في وعي المتلقي، وما المربوط؟ ولأي شيء؟ يعني: عالم الإعلام. حيث نسأل هل تعكسُ معطياتُ الإعلام الواقعَ كما هو أم تزوُره؟ وإذا كان نعم فإلى أي حدٍ؟ وكل هذه العناصر موجودة في المسلمين من نشأتهم وهي من يشكل صورتهم الذهنية عن الغرب. بناه على تفريع الظواهر من ظاهرة بدائية وحيدة. بعد ذلك جاء كتاب (غنتر أندرس) زوج الكاتبة المشهورة " انتهاء صلاحية الإنسان" وهو كتاب قوي جدا كتب الجزء الأول منه في الخمسينيات والثاني في السبعينيات. ومؤخرا مع صدور كتاب (ميشال أونفري) "الانحطاط" سنة 2017م حيث اعتبر أن الغرب في مرحلته الأخيرة. كل هؤلاء المفكرين وقفوا عند التفكك المفعل في الغرب برؤية فلسفية وعلمية خلصت إلى أن السقوط حتمي لأن وهم التقدم غير المحدود توقف وبدأت ملامح الخراب والدمار تلوح في كل المجالات، وبدلا من زمانية واعدة كان الغرب يحلم بها اكتشف نفسه في زمانية دورية "الرجوع الأبدي". يقصد أن تاريخ العالم ليس تاريخا لتقدم الحقوق والاستقلالية ولكنه تاريخ لدورة الحضارات التي واحدة بعد الأخرى تفقس وتأخذ مداها، ثم تبرق وتشع وتهيمن ثم تهوي ككوكب ميت. وأكبر علامة على انحلال الغرب وانحطاطه هي: دخوله في طور البربرية بربرية الحلم العلموي "ما بعد الإنسان" ولأن العدم دائما يقيني فانحطاط الغرب كذلك. تدورالفكرة على أن التكنولوجيا ستمنح الإنسان وسائل التحرر من غالب الحدود التي فرضها عليه الخلق (التطور) والموت أولها، يعتقد الغربي أنه أصبح سيد نفسه بحيث يمكن أن يصنع نفسه على غير ما هو عليه، إعادة خلق نفسه مختلفا: أكثر قوة، وأخيرا أكثر كمالا. تقوم هذه الرؤية المادية على أنه ليس فقط لا توجد طبيعة إنسانية ولكن يجب القضاء على كل ما بقي في الإنسان طبيعيا حتى يمكنه أن يتحقق في كائن آخر لا يعرف الولادة، قد يقول كثير منا: هذا حلم أو هوس إنسان غربي فاحش الثراء وهو مجرد فنطاسم لكن الحقيقة أنه بدا يجري الآن وقد صار عقيدة حيث أن طفلة بريطانية مريضة بالسرطان قاضت والدها لأنه رفض ان يسمح لها بحفظ جسمها بعد موتها في مادة خاصة في انتظار اكتشاف علاج الموت أو القدرة على نقل وعي الإنسان إلى آلة أو أي شيء؟! حر في الفعل أو الترك، لهذا يمكن أن نقول: الرؤية الماكينية ليست نشوة مؤلفها ولكن محاولة لتفكيك أسرار الكائن والطبيعة، كيف بدأت منطقيا؟ والسبب وراء هذا هو أن الإنسان الغربي مولع بالقوة وله رغبة شديدة فيها، يريد قوة بدون حدود، لإلغاء الجسم اللحمي بدأت من أفلاطون الذي اعتبره مقبرة الروح. قرار، فعل؟ و الحجة المقدمة للبشرية وهي الغطاء الذي تنتشر تحته هذه العقيدة الإلحادية هي حجة تحسين ظروف الإنسان، 1 ـ الإنسان الماكينة عند لاميتري عبارة عن تطور رؤية مادية للطبيعة وللإنسان، هدفها الجوهري تفنيد أي تصور روحاني للوظائف الذهنية والعقلية للإنسا. = الإنسان ليس جوهرا روحيا إنما تعود لوظائف المادة المنظمة. لكن خطؤه ( ديكارت)أنه حشر الإله في هذه القضية بينما تنظيم المادة يكفي لإنتاج هذا الأثر. ((الروح ليست إلا حدا أجوف ليس لنا عنه فكرة والعقل الجيد لا يستعمله إلا لتعيين الجزء المفكر فينا)). للانتقال من الحيوان الماكينة إلى الإنسان الماكينة نحتاج إلى طفرة 1 ـ لأنها رؤية أخرى للطبيعة "ليس فقط الجسم الإنساني هو ماكينة تركب بنفسها خصائصها: صورة حية للحركة الأبدية "لكن أيضا"مختلف أحوال الروح هي دائمة مرتبطة بأحوال الجسم وإثبات تلك التبعية وأسبابها ليس أفضل من التشريح المقارن لنفتح أحشاء الإنسان والحيوانات". الوعي، العبقرية، النتيجة: نفهم أن التحول من الحيوانات إلى الإنسان ليس عنيفا كما قد يتصوره مؤمن غير مطلع. 3 ـ يشكل لاميتري نظرة توحيدية متجانسة للطبيعة التي تتضمن درجات تنظيم:" هذه هي تجانسية الطبيعة التي بدأنا نلتمسها والتشابه في مملكة الحيوان والنبات، اللازم: الإنسان الماكينة يعد ويهيأ التصور الماكيني للإنسان من أجل رده للطبيعة أكثر، الطبيعة كلها هي ماكينة ذاتية الضبط. 4 ـ لم يكن في نية لاميتري أن يفتح للإنسان منظورا للخروج من ظروفه وشروطه على العكس يهدف إلى حصره في الطبيعانية كلية=" الجسمانية هي كل الإنسان وبدون بقايا وسيدها هي اللذة: " المتعة سيدة الناس والآلهة، أمامها كل شيء يختفي حتى العقل نفسه. التسلسل الفكري: ماكينة أخرى من نظام أكثر تعقيدا أعلى يمكنها أن تكمله أو تعوضه؟ 2 ـ لكن نحتاج إلى طفرة أخرى أساسية ليس فقط تكنولوجية ولكن أيضا ايديولوجية: في عصر المعلومة ونانوتكنولوجي ليست الروح ولكنه الجسم من يصبح بالقوة إضافة مزعجة أما الروح فلا نحتاج إلى جوهرنتها فكل وظائفها يمكن أن تقوم بها رقاقات صغيرة. 3 ـ التطور الاصطناعي يستأنف التطور الطبيعي: ينفصل العقل كلية عن الطبيعة، ويمكن أن يتخيل الحصول على جسم آخر غير قابل للتغير والفساد، وهكذا ننتقل من إنسان المتعة عند لاميتري إلى ما بعد الإنسان بدون إحساس وبدون رغبة لا يموت لأنه لم يعش. مفكر غربي آخر انتهى إلى نفس النتيجة هو (دافيد انجلز) صاحب كتاب "الانحطاط" و "أزمة الاتحاد الأوروبي" و"سقوط الجمهورية الرومانية" و"التعايش مع انحطاط أوروبا" صرح أن انحطاط الغرب ليس حادث مسار في الحضارة الغربية بل هو حالة خطيرة، هكذا قال. ولكنه مطبوع في منطق تاريخ الغرب نفسه الذي هو الآن مصاب بأزمة سياسية اقتصادية ديموغرافية عرقية واجتماعية غير مسبوقة تقودـ كما قادته قديما ـ إلى تمزق وحروب أهلية قبل السقوط في حكم إطلاقي يعيد الاستقرار لكن مع جمود ثقافي، وما على الغربيين الا الاستعداد لذلك. الذكاء الاصطناعي، الهجرة الكبيرة، التدمير الذاتى للمنظومة التعليمية والجامعية، تأخر الغرب بالنسبة للصين، فالنظام السياسي مهشم، وولدت ما تحمله في أعماق ذاتها فقط، وهو ما أكده هذا المفكر حيث قال: انحطاط الغرب يأتي من داخله وليس من خارجه. يواصل بانه حتى أثر الإنسان على الطبيعة هو جزء من الانحطاط الغربي، وانه بدون التخلي عن الأيديولوجية المادية: الاستهلاكية، الأنانية، لا يمكن الطمع في بعض التوازن. ماهي العلامات الأخرى التي تدل على انحطاط الغرب والتي يمكن لأي منا أن يعاينها؟ هي: تدمير العائلة التقليدية، صعود التفاهة،