والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، إمامنا وحبيبنا محمد عليه أفضل الصلوات والتسليم، ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 25 - 28].أما بعد:فإن نظرية العامل في النحو العربي مِن أعرق الموضوعات وأكثرها إثارة للجدل والمناظرة، وقد قسمنا بحثنا هذا لثلاثة محاور أساسية، نعرضها على الشكل الآتي:• العامل، تعريفه اللغوي والاصطلاحي،• أهم أنواع العوامل،جاء النحوُ، لضبط الكلام العربي، وحمايته من الزلل والخطأ واللحن، خاصة بعد دخول الأعاجم وغير العرب الإسلامَ؛ فحاول النحاةُ وضع قواعدَ وأسس صارمة له، واستنادًا إلى ألسنة العرب الفحول، خاصة الأعراب منهم، بأن لكل حادثٍ محدِثًا، فهم لم يأخذوا الأحكام النحوية كمسلَّمات، بل طرحوا العديد من الأسئلة؛ والمفاعيل منصوبة؟ ولماذا لا يمكننا مثلًا جزم الحال ورفع المفعول؟ لتتشكل هذه الأسئلة، في الأخير، ويظهر لنا ما يسمى في النحو العربي: بالعامل.فما هو العامل؟لغة: إن معرفةَ مفهوم العامل لا تتأتى لنا إلا عبر المرور بمادته: "ع م ل"،جاء في معجم لسان العرب لابن منظور: "عَمِلَ يَعْمَلُ، عَمَلًا، والعمل هو الفعل المؤدَّى باليد، تاج العروس، القاموس، وغيرهم. والعامل هنا يراد به القائمُ على جمع الزكاة.ومِن جانب آخر، نجد ثلة من علمائنا، فيرى أن العملَ يكون عن وعيٍ وقصد، في حين أن الفعلَ يُرَدُّ إلى الجمادات والحيوانات؛ ولا تعقُّل.يمكننا أخيرًا أن نجمَع التعاريف اللغوية لمادة عمل بقولنا: إن العاملَ، ومنه العمل والتعمُّل، يراد به إحداثُ الفعل وإصداره، ويحمِل بين ثناياه الإتقان والإجادة والإصلاح،اصطلاحًا:لا أعتقد أن في النحو العربي موضوعًا يداني موضوع العامل في تعقيده واضطراب مفاهيمه؛ فمِن الصعب بمكان، حسَب تصوُّر النحاة، تقديم تعريف شامل ومانع لهذا المفهوم، ويُعزَى الأمر إلى تضارب الآراء مِن مدرسة نحوية إلى أخرى، خاصة فيما يتعلق بالموازنة بين شقي التنظير والتطبيق، كما أنه لا نجد في أي من كتب سيبويه، ولا في الكتب التي تلته كالمقتضب والأصول، تعريفًا دقيقًا للعامل؛ فمفهومُ العامل نشأ من طبيعة العقل الإنساني، والمبتدأ مرفوع بعلة الابتداء". بشكل عام، يتصل بنظرية العامل، ولا يرَوْن مِن خصائص العربية ما ينبغي أن يَشغلهم دونه. إن أساس كل بحثهم فيه أن الإعراب أثرٌ يَجلبه العامل؛ فكلُّ حركة من حركاته، إنما تجيء تبعًا لعامل في الجملة. حتى تكاد تكون نظريةُ العامل عندهم هي النحوَ كله، يَستقرئها، ويُبين مواضع عملها، وشرط هذا العمل؛ يقول الجرجاني معرِّفًا العامل: "هو ما أوجَب كونَ آخرِ الكلمة مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا أو ساكنًا، نحو: جاء زيد، مررت بزيد،ويمكننا تقريب هذا المصطلح أكثرَ بإيرادنا لمثال الدكتور عباس حسن، يقول فيه: "أكرم محمودٌ الضيفَ، فهو فاعل الكرم، أو: ينسب إلى محمود أنه فاعل الكرم، حذَفْنا هذه الكلماتِ الكثيرة، واستغنينا عنها برمز صغير يدل عليها، وهو "الضمة"، التي في آخر كلمة "محمود".إن أولَ نص وصلنا يتحدَّث عن علامات الإعراب والتغيير الذي يحدث فيها بسبب العوامل الداخلية هو قول سيبويه في "باب مجاري أواخر الكلم من العربية) :"وهي تجري على ثمانية مجارٍ: على النصب والجر والرفع والجزم، وهذه المجاري الثمانية يجمعها في اللفظ أربعةُ أضرُب: فالنصب والفتح في اللفظ ضرب واحد، والجر والكسر فيه ضرب واحد، وكذلك الرفع والضم والجزم والوقف، وإنما ذكرتُ لك ثمانية مجارٍ؛ وذلك الحرف حرف إعراب).• وفيما يتعلق بنشأة العامل، ونصر بن عاصم، فوضعوا للنحو أبوابًا، فذكروا عوامل الرفع والنصب، ووصفوا باب الفاعل والمفعول،أنواع العوامل:أجمَع النحاةُ العرب على أن العوامل نوعان؛ وعامل معنوي؛ كرفع المبتدأ بالابتداء، لوقوعِه موقع الاسم". أو هو ما كان للسان فيه حظٌّ، على حد تعريف الجرجاني في كتابه التعريفات، والثاني يظل معنى خاصًّا، متى وقع بعده لفظ اعتُبِر معمولًا به، وهو مدرك بالقلب.وقد انقَسم النحاةُ في أخذهم بهذينِ النوعين إلى ثلاث فئات: مع اختلافٍ في تعدُّد العوامل.2- وبعضهم لا يرى في العامل المعنوي شيئًا عاديًّا مستساغًا؛ فلذلك يعجَب مِن أن يكون العامل معنًى تجريديًّا، وتنوُّعًا في التعبير، وإلا فإن العاملَ اللفظي معنوي في محتواه وحقيقته، ولنا وقفةٌ مع آراء الباحثين في نظرية العامل في المحور الأخير - بإذن الله.مِن المعلوم أن أغلبَ النحاة ذهبوا إلى قوة العامل اللفظي مقارنةً بنظيره المعنوي؛ فالعامل اللفظي هو ما كان للسان فيه حظ، وهو أيضًا الألفاظ المؤثرة فيما بعدها، وهو الأصل في الإعمال؛ فالفعل يعمل الرفع في الفاعل، أما نصبه للمفعول فهو محل خلاف، ومنه كذلك كان وأخواتها، وحروف الجر والنصب والجزم.وبتفصيل أكثر مثلًا إذا أخذنا حرف الجر، وأفعال، وحروف.وقد قسم عبدالقاهر الجُرجاني العوامل اللفظية إلى قسمين، وهما: مثلًا الباء وأخواتها تجر الاسم، فليس لنا أن نتجاوزها ونقيس عليها غيرها. وهي 7: من إلى في..• حروف تنصب الاسم، فكلُّ ما يصدُقُ عليه تلك القاعدة يطلق عليه اسم العامل اللفظي القياسي، الصفة المشبَّهة، المصدر، الاسم المضاف،العوامل المعنوية: وهي التي تدرك بالعقل دون أن يلفظ به، وتقع علامتها الإعرابية، ولا تكتب، وإنما قالوا: عاملٌ معنوي؛اقتصَر الجرجاني على عاملين اثنينِ، وهما عامل الرفع في المضارع، وعامل الرفع في المبتدأ والخبر، وعند صاحب الأشباه والنظائر ستة عوامل، وهذه العوامل محصورة في موضعين:• الابتداء: وهو الذي يرفع المبتدأ، والابتداء - حسَب أقوال النحاة - يمكن أن يستخلص منه ما يلي:2- التعرية: تجرد المبتدأ من العوامل اللفظية.3- الإسناد: العلاقة المعنوية الرابطة بين المبتدأ والخبر. لأن المبتدأَ هو الأول في الأسماء، وكان الأصل في الأسماء هو الرفع، والمبتدأ معرًّى من العوامل اللفظية،• وقوع الفعل المضارع موقع الاسم: يُعرَب الفعل المضارع في هذه الحالة؛ لمضارعته الاسم؛ بمعنى مشابهته له؛ فالفعل المضارع يشبه الاسم في إبهامه وتخصيصه، وإذا أدخلت عليه السين فسنخلص إلى الاستقبال، والأمر نفسه عند الاسم: رجل؛ فهو يصلح لجميع الرجال،وعامل الرفع في الفعل المضارع هو وقوعه موقع الاسم، بمعنى وقوعه حيث يصح وقوع الاسم، ويمكننا أن نقول: يضرب زيد، فنرفع الفعل، ثم نقول: أخوك زيد.أما عند الكوفيين فهناك عوامل معنوية عديدة، أشهرها:1- الصرف أو الخلاف: هو مصطلح كوفي محض، كما في المثال المشهور: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وقولنا: لا تتكلم وتأكل، فلا نريد نهي المخاطب عن الأكل والتكلم في جميع الحالات،2- رافع المبتدأ: فهو أشهر خلاف في هذه العوامل؛ فالمعلوم أن الكوفيين يقولون: إن المبتدأ والخبر يترافعان، وسيبويه أول مَن تطرق له،3- رافع الفاعل: الشائع في هذا الباب أن العامل مرفوع بعامل لفظي،هناك عوامل متعددة لا يمكننا الوقوف عندها؛ لضيق الوقت؛ كالتبعية، ناصب المستثنى، جر المضاف إليه، التوهم، الإهمال، المجاورة، نزع الخافض، فجاءت موزَّعة على أبوابٍ متعددة، ولعل الباحث في المصادر العربية يمكن أن يستخلص مجموعة من العوامل الأخرى، خاصة إذا ما بحث في المدارس التي كانت تحت الظل لفترات طويلة؛ كالمدرسة المغربية التي كانت لها إسهامات وتجديدات ذات اعتبار.نظرية العامل النحوي بين القبول والرفض:قد سبق أن تطرَّقنا في موضع من مواضع هذا العرض المتواضع، إلى تجذُّر نظرية العامل في النحو العربي؛ وكذلك الأمر بالنسبة للفراء، في حين عد البعض أن الجرجاني جاء بنظرية النظم بدلًا عن نظرية العامل، وتجمِع الدراسات على أن ابن مضاء القرطبي كان الصوت الجهوري ضد العامل، أما في العصر الحديث فنجد ثلة من الباحثين، منهم: الأستاذ إبراهيم مصطفى، تمام حسان، محمد عيد، أنيس فريحة، محمد الكسار.• الفراء: يرى د.أحمد مكي الأنصاري أن أبا زكريا يحيى بن زياد الفراء هو أول الثائرين على نظرية العامل، وهو مَن ألهم الدعوة عند ابن مضاء، يقول الأنصاري: "ومردُّ الفضل في هذا إلى شيخ المجدِّدين أبي زكرياء يحيى بن زياد الفراء؛ فقد رأيناه يُلغي الأفعال والنواسخ، ويدمج باب كان وأخواتها في باب الفعل العام؛ لأن كان فعل، وليس يُهمنا أن يكون تامًّا أو ناقصًا. أما المنصوب فنعربه حالًا ."، وعن تأثُّر ابن مضاء بالفراء فيقول: "وبعد، فلستُ أشك في أن ابن مضاء انتفع بآراء الفراء أكبر انتفاع، ويخيل إليَّ أنني لو تتبعتُ بقيةَ آراء ابن مضاء في كتابه، هو أبو زكرياء الفراء". وقد حاول إلغاء نظرية العامل إلغاءً تامًّا، وأنبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه.• أن العامل يؤدي إلى تغيير في كلام العرب، لأنها تدفَع النَّحْويين إلى تقديرات لا يحتاج إليها الكلام، نحو: زيد في الدار؛ وهي محذوفة.• العامل إما أن يعمل بالإرادة؛ كالإنسان والحيوان، والعامل لا يعمل بالإرادة ولا بالطبع.• محاولة د. إبراهيم مصطفى: يرى إبراهيم أن للإعراب حركتين فقط، هما الضمة والكسرة؛ والدليل على ذلك أن جميعَ الكلمات المرفوعة يراد بها الإسناد، أما الكسرة فهي علم الإضافة.والفتحة عنده حركة خفيفة مستحبة عند العرب، يراد بها إنهاء الكلمة، كما هو الحال عند السكون.• محاولة د. تمام حسان: يرفض العامل،