لم يقل شيئاً قبل الرحيل. حزم أمتعته في غفلة عن البيت، تنبهّت فاطمة إلى غياب سليم المفاجئ، لكنّها لم تقم بأيةّ إجراءات تخص التلميح أوالتصريح، مختلقة لرحيل أبيهم المفاجئ أعذاراً متعدّدة، بالإضافة إلى جنين في أشهره الأولى . أوحتّى يحتج على مجيئها. بعد عام ونيّف من الضنك والعذاب أمضته فاطمة متنقلة بين هنا وهناك في السؤال والتقصيّ . عرفت أخيراً مكانه وعرفت أنّه قد غادر القطر، ولن يعود إلى الوطن أبداً . ذرفت دموعاً مالحة كملوحة أيّامها المقبلة. حاولت أن تتعرّف على سبب واحد لهجرانه لها، بدأت رحلة الهموم بالنسبة إليها، إذ استنجدت بالأقارب فلم ينجدوها " ولجأت إلى الأصدقاء والمعارف، وكان عملها أوّل الأمر يتوزّع ما بين الخدمة في بيوت الناس صباحاً، ومابين صناعة بعض المعّجنات لأحد مخازن الحلويّات مساء . ثمّ استقرّ حالها بعد ذلك على القيام بمهنة كانت قد تعلّمتها منذ صغرها، فقد ملكت مقدرة مزاولة هذه المهنة، وراحت تخيط للآخرين بالأجرة. لم يكن الوضع سهلاً أو مريحاً في بدايته، فقد أعانها على خوض مرحلتها الجديدة، لتصبح بعد زمن من العمل الدؤوب المستمرّ، إسماً معروفاً في عالم الحياكة والتطريز، وبدأت أحوالها الماديّة تتغيّر، وأمور أسرتها تنتقل من الحسن إلى الأحسن. حمدت الله وشكرته على نعمته وفضله ورحمته التي شملها بها، وفرّج كربتها بعد نضال مع الزمن دام سبعة عشر عاماً، وتوصلهم إلى وضع حياتي مقبول . أمّا الأب فقد قلّت أخباره وندرت حتىّ انقطعت تماماً، طرق الباب فيه على عجل، وكان الطارق برقيّة تقول: " سآتي بعد أسبوع " سكتت عن الكلام، ولجمت لسانها الدهشة حين قرأت التوقيع . ولماذا ؟ بدأ لسانها يتمتم، وماذا نبغي منه ؟ بقيت الأم على شرودها ساهمة، واجمة، وبأيّة صفة تستقبل ذاك الذي هجرها عمراً بحاله، رجع، ينخر السوس عظامه،