إن المكان في الرواية لا يراد بها دلالتها الجغرافية المحدودة، فالمكان بهذا المفهوم كيان زاخر بالحياة والحركة يؤثر ويتأثر ويتفاعل مع حركة الشخصيات وأفكارها كما يتفاعل مع الكاتب الروائي ذاته. كما يتميز بناء المكان في النص الروائي بالتنوع، فلا وجود لمكان واحد في الرواية هناك دائماً إطار مكاني عام وأمكنة متعددة داخل هذا الإطار، وتأتي الصبغة الاستثنائية للمكان في الرواية، فإذا وصفت البيت فقد وصفت الإنسان". فالمكان يكون منظماً بنفس الدقة التي نظمت بها العناصر الأخرى في الرواية، وعلى هذا الأساس يمسي الفضاء الروائي عنصراً متحكماً في الوظيفة الحكائية والرمزية للسرد، وذلك بفضل بنيته الخاصة والعلائق المترتبة عنها. فهو يتخذ أشكالاً ويتضمن معاني عديدة بل إنه قد يكون في بعض الأحيان هو الهدف من وجود العمل الروائي كله. بالإضافة إلى أن الشخصية الروائية هي التي ترينا المكان وتحدد أبعاده، ومن هنا جاء تمييز النقاد للرؤى السردية التي تقدم من خلالها المكان وهي : والرؤية الثانية: وهي الرؤية الذاتية أو التخيلية التي تتيح للمكان أن ينهض بكل قيمه ودلالاته إذ يتحول إلى شاشة لعرض مشاعر الواصف، ونفسيته وأفكاره وغالباً ما يغلف المكان بمسحة رومانسية تغيب الإطار الموضوعي للمكان، حين خصها بالكثير من الوصف في بداية السيرة الذاتية، أن الأمكنة بالإضافة إلى اختلافها من حيث طابعها ونوعية الأشياء التي توجد فيها تخضع في تشكلاتها أيضاً إلى مقياس آخر مرتبط بالاتساع والضيق أو الانفتاح والانغلاق، إن زقاقاً ضيقاً من أزقة القاهرة يختلف كل الاختلاف من شارع كبير من شوارعها، لأنها هي التي تسمح بترصد العلاقات المتداخلة بين سكان حي واحد، لأن المكان ومستوى العيش لا يسمحان بمثل هذا التداخل، كما أن بعض الأمكنة لها خصوصيات تجعلها دائماً مادة أساسية في الرواية ومنها: المقهى، وتنبع عمومتها من كونها مفتوحة، مباحة للجميع وهي ثابتة تحرك من يعايشها، ومن الأماكن المتحركة: الطائرات- السفن- الجسم الإنساني- السيارات وغيرها. ومن الأماكن التي ظهرت في الرواية العربية: والعلاقة بين القرية والمدينة علاقة قديمة تبدأ مع الرواية العربية منذ نشأتها، للدلالة على الإطار العام للأحداث دون اهتمام بوصفها أو ذكر ما يدل عليها من شوارع وأحياء أو معالم بارزة كرواية (لا. أو تكون موصوفة وصفاً يحمل معالمها المكانية الدالة عليها وبيئتها الاجتماعية الخاصة بها . و(لا ظل تحت الجبل) لفؤاد عنقاوي، و(الأشباح) لهادي أبو عامرية. ويتحقق وجوده وخصوصيته ووظيفته الإيهامية. يحرص الروائيون على أن تكون القرية رمزاً لكل قرى المنطقة التي تنتمي إليها، الصحراء/ الفضاء: فعبر امتدادها، كلوحة تشكيلية مختلفة الأبعاد، والأشخاص الصحراويون كقصاص الأثر الذي يعمل كبؤرة زمنية متحركة مجسدة. ويرى صلاح صالح أن الصحراء " تمكن الإنسان من التعامل مع العناصر الكونية العظيمة كالأرض، والسماء وما تضمه من كواكب ونجوم، ولذلك قلما أغفلت رواية متعلقة بالصحراء هذا التالف الكوني الذي يحرض مخيلة على انطلاقاتها الرحيبة القصوى" . أو مجرد معلم للمكان كما في رواية (مدن تأكل العشب) لعبده خال. فإنها تُذكر اسماً دون وصف. _الحي الراقي: الجزء الثاني من التقاطب (حي شعبي/ حي راقي)، والخضرة والجمال، 5/ البيوت: يتُشكل البيوت والمنازل نموذجاً ملائماً لدراسة قيم الألفة ومظاهر الحياة الداخلية التي تعيشها الشخصيات، و ُيلّح بلاشر في (شعرية المكان) على أهمية الالمام والنظر للبيت كمكون رئيس من البناء الروائي، والنظر إلى جميع أجزائه والدلالات المتربطة به. فهناك تأثيراً متبادلاً بين الشخصية والمكان الذي تقيم فيه، والفضاء الروائي يمكنه أن يكشف لنا عن الحياة اللاشعورية التي تعيشها الشخصية ولا شي في البيت لا يرتبط بالإنسان الذي يعيش فيه. ودقته، ويحمل الوصف إلى جوار دلالته على الوضع المادي، والمستوى الاجتماعي دلالة على الرفاهية والذوق. نلمس ذلك في أعمال نجيب الكيلاني الروائية وغيرها. كما يجيء المسجد ليحقق دوراً دلالياً داخل الرواية فهو يأتي ليكون ملاذاً روحياً تلجأ له الشخصية الروائية هرباً من ضغوط الحياة ومشكلاتها فتشعر به بالطمأنينة والأمان وتسكن روحها المتعبة. ويشكل فضاء المقهى واقعاً اجتماعياً تعيشه الشخصيات ومسرحاً تدور في عمقه أحداث لها أهميتها في سياق إنتاج دلالة النص" وتتعدد وظائف المقهى فقد يكون مكانا للهروب والتنفيس، كما يتيح له موقعه وجدرانه الزجاجية وانفتاحه على العالم الخارجي مركزاً للمراقبة والتأمل، ومتابعة شكل الحياة في الخارج. مما يضع المقهى في وضع المكان البؤرة الذي تتجمع فيه الأحداث وتنطلق منه الشخصيات على اختلاف جنسياتها وأعمارها ومكانتها الاجتماعية. فالمقهى عنده مختزلاً لعالم الرواية ومشكلا لها . يقرأ لنا الصحف والمجلات الشرقية العربية بصوت قوي وواضح. حين يكون يقرأ موضوعاً سياسياً هاماً يسكت صاحب المقهى الراديو ويصغي كل الرواد إلى ما يقرأه ويشرحه باهتمام كبير" كما يلعب المقهى دوراً سياسياً ومنطلق لأفكار تنظيمية كما ظهر في رواية (الكرنك) لنجيب محفوظ، ومأوى للخارجين على القانون والطلبة والمقهورين، فضياع المقهى يمثل ضياع للكون بتاريخه، لكن أبرز دلالة للمقهى هي كونه مكاناً مشبوهاً رواده من العاطلين، ومسرحاً للممارسات المنحرفة ،