وهو يؤدي عمله الموكول إليه على الوجه المرضي، وقد مرت به أعوام متواصلة، ويقصد ممسيًا إلى القهوة، ولا يزال دائرًا في هذه الحياة الراتبة بين القهوة والديوان. فاستشعر بليغ أفندي" الحاجة إلى الراحة والاستجمام فقد أنهكه العمل الموصول، فعجل إلى رئيسه يعرض شكاته على استحياء ويستمنحه إجازة يُرفه بها عن نفسه، وقد شاعت على وجهه طلاقة وبشرة، لكنه ما عتم أن خلا إلى نفسه يسائلها، وبين قهوته المألوفة التي تماثل في صخبها وضجتها سوق المزايدة؟ أن لبليغ أفندي أن يؤمن بنصيحة صديقه فليرتحل على عجل. والأخرى أن يقصد الأستاذ رشادًا في "الإسكندرية"، بين "كفر سفيطة"، و"الإسكندرية"، عروس البحر المحوطة بالمباهج والمسرات وأنهيت المفاضلة والموازنة إلى تلبية هاتف القلب، فآثر الرحيل إلى الثغر. كثيرا ما حل بداره دون دعوة أو استئذان وكثيرًا ما ردَّد على مسامع بليغ أفندي"، فيملأ صدره طمأنينة ورضا، حتى وافى الدار قبيل الظهر، التي تتكاثر طباقها ابتغاء الربح، فتزدحم فيها الأسر ازدحام الخلايا بأسراب النحل، وصعد بليغ الدرج، يحمل معه حقيبته المختنقة بألوان الهدايا، وضغط زر الجرس، صديق الأستاذ رشاد. أخبريه أني حضرت. فخيل إليه أن أوصالها يسوق بعضها في بعض كما تسوق كرة من العجين إذا تدحرجت على منحدر، وما أن بلغت به حجرة الزوّار ؛ فراعه الصمت القابض الضارب أطنابه في البيت، يستعيد ما استقبلته به المرأة من قول، وتنهدات حرجة، وبينما هو كذلك؛ إذ علت صيحة نسوية تنم عن استغاثة والتياع فنهض بليغ من مجلسه يرجف، ثم سكن البيت، وهو مصغ إلى كل نأمة تصدر. - أي وضع ؟ وتلك زوجه تعاني المخاض منذ يومين، ولا يلم بالدار إلا لكي يتسقط الأخبار. سأجن بلا ريب سأجن. لا صبر لي. تكاد تتميز غيظا. فعن له أن يتريث بعض الوقت لعل الغمة تنزاح وإذا هو يسمع الزوجة صارخة تقول: وألفى بليغ يده تأخذ بمقبض الحقيبة، فإذا هو حيال المرأة العابسة تنظر إليه بعين زائغة وتقول: وليس هنا إلا السيدات، وتدانت الداية من بليغ مرفوعة الهامة، وبعد قليل عاد يحمل حزمة كبيرة، وانسرح به التفكير في شأنه، أليس حسبه أنه أرضى ضميره، وأنه نهض بما تقضي به المروء في ساعة الشدة ؟! فامتدت إليه تلك الذراع وتناولت منه الحزمة على عجل، وتوالت بها في إحدى الحجر، وقالت في صوت مستضعف، واخذت تدفع بها ما وسعها أن تدفع. وظن أنه منتفع به في هذه الساعة العصيبة، حتى يستقبل آخر ، مستفيض البيان، وهي تقول: الحالة شديدة، عَلَيَّ بالطبيب. وهو في هذه البقعة غريب، لم تطأها قدمه قبل اليوم ؟! وأراد أن يعبر للداية عن ما يجيش في خاطره، وهي تقول: وأخذ بليغ الورقة يهرول بها خارج الدار، وكلمة الداية تناوش سمعه ، ومرة يخبره الطبيب الثاني بأن بين يديه مرضاه لا يستطيع أن يتخلى عنهم، ويمضي معه، ومرة يجد الطبيب الثالث قد نام نومة القيلولة، ولكن هداه إليه سائق السيارة بين عيادات الأطباء ذات اليمين وذات الشمال. وزاول الطبيب عمله في نشطه واهتمام فبدا في ميدعته البيضاء الأنيقة، فهو ذاهب لا يقر له قرار ، ويستمع إلى صاحب القلنسوة الناصعة معجبًا بالخصلة اللامعة من شعره المواج، وهو فيما بين ذلك على الدرج صاعد هابط، يقضي مطالب الدار. قطعة من اللحم لا تزن بضعه أرطال تقيم الدنيا وتقعدها أيامًا وليالي معدودات. وأهل الدار ممن يعرف ومن لا يعرف، وشدق لا يهدأ له صراخ، فتناولها منه حائرًا ، ولا يفتأ يدور. وانصرف الطبيب، فصاحبه بليغ حتى باب الدار، يكرم بها وفادته، فوجد الصمت يغشاها،