بعدَ انتظارٍ طويلٍ طويلٍ، استقرَّتْ أمامَ بابِ الشِّقَّـةِ السُّفْلِيَّـةِ في العِمارةِ. قَرَعَ الرَّجلُ الجَرَسَ مرّةً ومرّتينِ وثلاثًا، وأَصاخَ السَّمْعَ مُنْتَظِرًا، وحينَ لمْ يَرُدَّ أَحَدٌ عَلَيْــهِ غادَرَ مُنْصَرِفًا، كلمـةُ (مُبارَكٌ) على سَطْحِ الكَرْتونَــةِ تثيرُ التَّساؤُلَ والشَّهِيَّـةَ والفُضولَ، سُكّانُ العِمارَةِ قَلَّما يَتَزاوَرونَ، وإِذا ما الْتَقَوا عِندَ البابِ الرَّئيسِ يتفاجَؤونَ، وكأنَّهمْ لا يَسْكُنونَ عِمارةً واحِدَةً، يَتَسايَلونَ على الدَّرَجِ مِثْلَ سوائِلَ فَقَدَتْ وَظائِفَها الحَقيقِيَّـةَ في الحياةِ؛ بارَحَتْهُمْ حَميمِيَّـةُ الجيرانِ المَعهودَةُ، الابتساماتُ العفويَّـةُ، التَّحِيَّـةُ البريئَـةُ، المجامَلَـةُ السَّريعَـةُ. عِمارةٌ لها بابٌ واحدٌ، ولَكِنَّ مَشاعِرَ سُكّانِها مُوَزَّعَـةٌ على سُقوفٍ مُنْفَصِلَـةٍ. الكَرْتونَـةُ عالَمٌ وَرَقِيٌّ غامِضٌ داهَمَهُمْ، شَوْكَـةُ الأَسْئِلَـةِ الحادَّةُ وَخَزتْ جِسمَ العِمارةِ، الكَرْتونَـةُ هَبَّـةُ ريحٍ مُتَسَلِّلَـةٌ إلى فَضاءاتٍ تخلو من الاسْتِثْناءِ، هيَ صَرخَـةٌ مُباغِتَــةٌ في زاوِيَـةٍ صامِتَـةٍ، مَضَتْ سنواتٌ رَتيبَـةٌ عَلا فيها صَدَأُ (العاديَّـةِ) على النُّفوسِ، وتَحَوَّلَتِ العِمارةُ إلى صندوقٍ خالٍ من الدَّهْشَـةِ وارْتِعاشاتِ الحَياةِ. مرَّ أولُ ساكِنٍ منْ سُكّانِ العِمارَةِ بالكَرْتونَـةِ المُتَرَبِّصَـةِ، عايَنَها، لم يَعتدْ على رُؤيَـةِ مِثْلِ هذا الشَّيْءِ، مَسَحَ نَظّارَتَـهُ السَّميكَـةَ، وَحَمْلَقَ بالكَرْتونَـةِ، عَلِقتْ عَيْناهُ بِكَلمـةِ (بَرْدٌ) على أحدِ جوانِبِها، بَدَتِ الحيرَةُ على وَجْهِـهِ حَوْلَ مَعْنى هَذِهِ الحُروفِ، ارْتَقَتْ نَظَراتُـهُ إلى كَلِمَـةِ (مُبارَكٌ) تَساءَلَ: ماذا يَعني هَذا؟ باوَصَ بِعَيْنَيْـهِ وهُوَ يُميلُ بِرَأْسِـهِ يَمينًا وشِمالًا، ثُمَّ أخَذَ يُقَلِّبُ شَفَتَـهُ السُّفْلى دِلالَـةَ عَدَمِ الفَهْمِ، الفُضولُ إلى وِقْفَـةِ جارِهِ، لمْ يُسَلِّمْ أَوْ يَتَكَلَّمْ، راح يتَأمََّلُ الكَرْتونَـةَ وَيُرَحِّلُ بَصَرَهُ بَيْنَها وبَيْنَ جارِهِ الَّذي لا يَعْرِفُ اسْمَـهُ، الْتَقَطَ كَلِمـةً عَلى الكَرتونَـةِ، وَصارَ يُقَلِّبُها بَيْنَ شَفَتَيْها (كَسْتَناءٌ)، تبادَلَ الرَّجلانِ نظراتٍ باردةً، وخَرَجا مُتَتابِعَينِ، الْتَفَتا مَرّاتٍ عَديدَةً إِلى الخَلْفِ، الكَرتونَـةُ تَرْسُمُ أَسْئِلَتَها عَلى وَجْهَيهِما، لَمْ يَبْتَعِدا كَثيرًا، وإِنَّما وَقَفَ كُلٌّ مِنْهُما على طَرَفِ الشّارِعِ، عُيونُهُما مُسَلَّطَـةٌ عَلى العِمارَةِ، والكَرْتونَـةُ وِسْواسٌ في رَأْسَيْهِما. اقتربتْ سيِّدةٌ وابْنَتُها الصَّبِيَّـةُ مِنَ الرَّجُلَيْنِ، عَرَفَتْ أَنَّهُما مِنْ سُكّانِ العِمارَةِ، طَأْطَأَتْ رَأْسَها، وَمَرَّتْ دونَ كَلامٍ، قَلَّبَتْ كَفَّيْها مُتَسائِلَـةً عَمّا أَصابَهُما؟ ما الَّذي أَوْقَفَهُما هذِهِ السّاعَـةَ في هذا المَكانِ؟ هَلْ يَنْتَظِرانِها؟ دَخَلَتِ العِمارَةَ وَشَيْطانُ الاسْتِغْرابِ يَلْعَبُ بِها شَرْقًا وغَرْبًا، ويَسوطُها بِأَسْئِلَـةٍ لا تَنْتَهي، عَيْناها تَصْطَدِمانِ بالكَرْتونَـةِ إِيّاها، أَلْوانُها لافِتَـةٌ، والكِتابَـةُ عَلَيْها بِخُطوطٍ مُلَوَّنَـةٍ، عايَنَتْها بِدِقَّـةٍ وَحاوَلتْ لَمْسَها، لَكِنَّها خافَتْ، ساوَرَها شُعورٌ غَريبٌ، فَهَرْوَلَتْ صاعِدَةً الدَّرَجَ، وَقَدْ عَلِقَتْ كَلِمَـةُ (مَطَرٌ) بَيْنَ شَفَتَيْها وَأَسْنانِها وَلِسانِها، صارَتْ تُحسِّبُ وتُخَمِّنُ: هَديـةٌ لِجارَتِنا، قَدْ تَكونُ شَيْئًا آخَرَ، رُبّما قُنْبُلَـةٌ. «أعوذُ باللّـه، أعوذُ باللّـه»، خافَتْ مِنْ هذِهِ الخواطرِ وابتعدَتْ صاعِدَةً وهيَ تَرْشُقُها بنَظَراتٍ هَلِعَـةٍ، في ذاتِ الحينِ اقتربَ ساكِنٌ آخرُ مِنَ الكَرْتونَـةِ، وحَنى ظَهْرَهُ لِيَقِفَ على سِرِّها، الجارَةُ فتحَتِ البابَ، ثُمَّ انْطَبَقَ بِقُوَّةٍ، التَزَمَ الرَّجُلُ الهُدوءَ واللّامبالاةَ، وراحَ يَصْعَدُ الدَّرَجَ، لَكنَّـهُ لمْ يَدْخُلْ شَقَّتَــهُ، وَإِنَّما دَلّى رأسَـهُ مِنْ فَتَحاتِ الدَّرابْزينِ؛ لِيُراقِبَ الكَرْتونَـةَ. جَلَبَـةٌ مُفاجِئَـةٌ قادِمَـةٌ مِنَ الطّابِقِ الأَخيرِ، وانْفِتاحُ أَبوابٍ وانْطِباقُها جَعَلَتِ الرَّجُلَ يتوارى خَلْفَ بابِ شِقَّتِـهِ الّذي جَعَلَـهُ مُوارِبًا، وَهُرِعَتْ إِليْهِ زَوْجَتُـهُ مُسْتَفْسِرَةً فَأَخْبَرَها بالْقِصَّـةِ، وَشَدَّها الفُضولُ للخروجِ، ولكنَّـهُ مَنَعَها. أصواتٌ وضَجيجٌ في الطّابِقِ الأَرْضِيِّ، العِمارةُ منذُ سِنينَ لمْ تشهدْ مِثلَ هذِهِ الحَرَكَـةِ، حَلْقَـةُ الفُضولِ حَوْلَ الكَرْتونَـةِ تَتَّسِعُ، هَمْهَمَـةٌ مُشْتَـرَكَـةٌ: «هذِهِ الكَرْتونَـةُ غامِضَـةٌ وما فيها خَطيرٌ »، كَلِمَـةُ (مُبارَكٌ) مَعَ بعضِ الأمورِ الأخْرى تَعني أَشياءَ غيرَ مَفهومَةٍ. خافوا على جارَتِهِم، لا يَعْرِفونَ أَهِيَ فِي الشِّقَـةِ أَمْ خارِجَها؟ قَرَعَ أَحَدُهُمِ الجَرَسَ، لا أَحَدَ هُناكَ، أيْنَ تَعمَلُ؟ ما هُوَ عُنوانُها وهاتِفُها؟ صَمْتٌ مُطْبِقٌ يَلُفُّهم جَميعًا، انْتَظَروها إزاءَ بابِ العِمارَةِ ساعاتٍ طويلـةً. لا يَعْرِفونَ مِنْها إلّا بَسْمَتَها، ونَضارَةَ وَجْهِها البَشوشِ، هِيَ وابْنُها يعيشانِ في هذهِ الشِّقَّـةِ مُنْذُ زَمَنٍ، هذا كُلُّ ما يَعْرِفونَـهُ عَنْها، هِيَ لا تَعْرِفُهُمْ، وَلا تَحْفَظُ أَسْماءَهُمْ أوْ ألْقابَهُمْ، أمامَ عَيْنَيْها هَدَفٌ سامٍ هُو ابنُها، تَرعاهُ بِحُنُوٍّ؛ ليكونَ على مِنوالٍ تُريدُهُ، لا تتحرَّكُ إلّا​​​​​​​ بِقَدْرٍ، ولا تَخْطو خُطوَةً واحدةً إلّا بِعَقْلٍ. أَوْقَفَتْ سَيّارَتَها حَيْثُ توقِفُها دائِمًا، اقتربَتْ مِنْ بابِ العِمارَةِ، والسُّرورُ يَفْرِدُ أَجْنِحَتَــهُ على وَجْهِها، عَيْناها تَقَعانِ على سُكّانِ العِمارَةِ الّذين بَدَؤوا يَلْتَفّونَ حَوْلَها، عُيونُهُم مُصَوَّبَـةٌ إلى عَيْنَيْها، «ماذا جرى؟ ما أصابَهُم؟ لمْ يَكونوا هكذا! » تَنْثالُ مِنْ داخلِها أَسْئِلـةٌ مُفاجِئَـةٌ، العِمارَةُ هيَ ذاتُ العِمارَةِ الَّتي تَسْكُنُها، وَهذِهِ ساحَتُها، والشّارِعُ المُؤَدّي إِلَيْها، «لا، لا، أنا لستُ تائِهةً ». أسرَعَتْ تجاهَ بابِ الشِّقَّـةِ، وقعَ نَظَرُها عَلى الكَرْتونَـةِ، فابْتَسَمَتْ، قَرأَتْ ما كُتبَ عَليْها فاتَّسَعَتْ بَسْمَتُها، عُيونُهُمْ مُتَسائِلَـةٌ وشِفاهُهُمْ مُطبِقَـةٌ على سُؤالٍ غاطِسٍ في الصَّمْتِ، «ما الأمرُ؟ » فَتَحَتِ البابَ، وسَحَبَتِ الكَرتونَـةَ إلى الدّاخِلِ، وَأَغْلَقَتْـهُ. «ياه، ما أجملَ غِلافَـهُ! طالَ الانتظارُ يا كَرْتونَتي العَزيزةَ، ولكنَّكِ جِئْتِ أخيرًا. » ابنُها يُبَعْثِرُ نُسَخَ الدّيوانِ فَرَحًا، هَدَأَتْ حَرَكَتُها، عيناه مُتَعَلِّقَتانِ على مِتْراسِ البابِ، سؤالٌ طافِحٌ بالإلْحاحِ: «ما الّذي أَصابَ الجيرانَ؟ أَيَظُنّونَ أنَّ الكَرتونَـةَ؟!. » ضَحِكَتْ، كانَتْ تَسْمَعُ لَجاجَهُمْ في الخارِجِ، كانوا يَنْتَظرونَ، أَخَذَتْ رُزْمَـةً مِنَ الْكِتابِ وَراحَتْ تَكْتُبُ عَليها إهداءً مَمْهورًا بِتَوْقيعِها، حَمَّلَتِ ابْنَها الرُّزْمَـةَ، وَفَتَحَتِ البابَ، وراحَ يُوَزِّعُ عَليْهمُ النُّسَخَ المُوَقَّعَـةَ. مساءً تهادى الجيرانُ إِلى بابِ شِقَّتِها، كُلُّهُمْ يَبْتَسِمونَ، نَظَراتُهُمْ مُخْتَلِفَـةٌ، أَيديهِمْ تُلَوِّحُ بالسَّلامِ فيما بَيْنَهُم، قَرَعَ أحدُهُمُ الجَرَسَ. لمْ يَطُلِ الانْتِظارُ، رُبَّما كانَتْ تَتَوقَّعُ ذلك، رُبّما كانوا لا يَتَوَقَّعونَ أنْ تَفْتَحَ لَهُمُ البابَ، وفُتِحَ البابُ والبسمـةُ ذاتُها تَنْفَرِشُ على وَجْهِها، بَشَّتْ لَهُمْ فَدَخَلوا، كانتْ نُسَخُ ديوانِها بينَ أَيْديهِمْ، نَطَقوا بِلِسانٍ واحدٍ: (مُباركٌ) ابتسمَتْ، كانَتْ دُموعُها السّاحَّـةُ تَحْمِلُ بَشائرَ الفرحِ،